البحر في الأدب الكويتي الشعبي: حتى لا تصمت الأمواج

البحر في الأدب الكويتي الشعبي: حتى لا تصمت الأمواج

شكل البحر الوجدان الكويتي في أزمنة ما قبل الغوص امتد أثره إلى الحياة الاجتماعية وظل لسنوات طويلة هو مصدر الرزق والخطر.

الفنون الشعبية لأي مجتمع هي في واقعها التعبيري فن حياة المجتمع.. وهي التعبير الفني المباشر عن قصة الإنسان التي ألفها لتكون تعبيراً جمالياً عن حياته داخل وطنه وبين أبناء أمته.

والفنون الشعبية بطبيعتها التعبيرية تحمل في مكوناتها شخصية الأمة وفن الحياة التي عايشها الإنسان على أرضه وداخل وطنه تتناقل من خلالها خبرات الأجيال كل جيل يضيف شيئا أو يحذف أشياء ليستوي في النهاية واقع هذا التعبير والإبداع الفني موروثاً ثقافياً معيشا، كل جيل يضيف لما سلف ما يتوافق مع مقتضيات حياته المعاصرة.. في تدفق مستمر وحيوية نابضة تعلي من قيم الإنسان في صنع حياته على أرضه وفق إرادته.

وتعبر الفنون الشعبية الكويتية بتنويعاتها المتعددة ومجالات إبداعها المتنوعة تعبيراً مباشراً عن أنماط الحياة التي عاشها أبناء الكويت على مر الحقب التاريخية في تواصل ثقافي حي.

ولقد تنوعت أنماط الإبداع الشعبي الكويتي على مر العصور بتنوع أنماط الحياة للمجتمع الكويتي ما بين حياة البادية، بثراء تلك الحياة على بعد المكان، وحيوية حياة البحر ما بين رحلات الغوص ورحلات السفر. وتداخل عناصر من هذا الحياة مع تلك.. وأثر كل منهما في حياة الحضر والمدينة المعاصرة. كما تأثرت حياة البادية والحضر بحياة البحر وما نقلته حياة البحر من واقع متدفق بخبرة الإنسان في صنع حياته على أرضه بإرادة حرة.. والتعبير عن ذلك بوعي فكري ورؤية جمالية من خلال أشكال ممارستها الإبداعية الفنية تلقائياً.

حياة البحر

وقد لعب البحر دوراً متميزاً في تشكيل طابع الحياة الاجتماعية التي عاشها أبناء الكويت.. كما كونت فنون البحر سمات خاصة لأشكال الفنون الشعبية الكويتية، سواء أكان ذلك في مجال الفنون التعبيرية أو التشكيلية أو الفنون التطبيقية والصناعات الشعبية التي كان من أبرزها صناعة السفن.. وما يصاحب كل ذلك من فنون الغناء والموسيقى والحركة الإيقاعية.

فحياة البحر.. حياة حركة ونشاط.. كحركة الموج، بين مد وجزر.. حياة أخذ وعطاء، ولقاء ووداع كحركة المجداف مع الماء.. وكما تنتقل السفينة من مكان إلى مكان بما عليها من رجال، تتناقل الأخبار وتصاغ الأفكار.. وتتداخل ثقافات خلال مواقف الأخذ والعطاء وتبادل البضائع وشراء المنتجات.

وكان من أهم سبل المعيشة التي اعتمدت البحر، الغوص، بحثا عن المحار الكامن في أعماق الخليج.

ورغم انتهاء حرفة الغوص على المحار الكامن في داخله اللؤلؤ الذي كان مصدرا من مصادر الثروة في يوم من الأيام. ورغم انتهاء حرفة الغوص ورحلات السفر للتجارة مع أهل الخليج وسكان سواحل إفريقيا والهند فإن فنون البحر، ومأثوراته مازالت متوارثة تمارس في مختلف المناسبات العائلية والقومية.. فلقد كانت رحلات البحر ومازالت مأثوراتها حية في وجدان الإنسان في الكويت، ومازال الأجداد والآباء يروون قصص العمل والمغامرة على الأبناء والأحفاد ينقلون لهم ما صنع العمل في البحر في تكوين إرادتهم الصلدة.. وما كان لحياة البحر من آثار في انتصار إرادة الإنسان على أوهامه ومجابهة كائنات من صنع الطبيعة كوحش البحر أو من تصورات خياله الممتزج بالواقع عن جنيات البحر وأشباحه.

فحياة البحر تزخر بصور عديدة.. والتي كانت تبدأ مع رحلات الغوص في أوائل الصيف وتستمر إلى مدة أربعة أشهر وعشرة أيام من منتصف شهر أبريل إلى النصف الأول من سبتمبر.. ثم تبدأ بعدها رحلة التجارة أو السفر البعيد إلى بلاد الهند لبيع ما جمع من لؤلو.. وما تحمله سفن السفر من بضائع.

حيث لا وجود للفرد

ولقد علمت حياة البحر أبناء الكويت أن الحياة السوية لا تتحقق إلا من خلال تكامل وتكافل وتعاون كل فرد من أفراد المجموعة الاجتماعية ليكونوا معاً أبناء أسرة واحدة.

فالإنسان الفرد وجوده يكتمل مع غيره كالموجة الواحدة لا يتحقق وجودها إلا بموجات أخرى، وكما تتدافع الموجات لتلتقي بالشاطىء، فإن تدافعها هذا يؤكد وجودها وهو تدافع يدفع الإنسان لصنع الحياة على أرضه وفق إرادته وحسب قدراته وطبقا لمقتضيات وجوده الإنساني.

ونظرا لما تتطلبه حياة الغوص من تعاون فعال وإيجابية في المشاركة في العمل بين من هم في أعماق الماء يغوصون وبين من هم على ظهر السفينة، نجد في فنون الغوص دور الفرد واضحـاً مع أداء المجموعة المشتركة في العمل .. كما أوجدت رحلات الغوص والسفر وما تتطلبه حياة البحر من تضافر وإخاء روحا سائدة بين أبناء الكويت تظـهر في شدة الترابط والتمسك بأواصر الإخاء في مجتمع تتجاور فيه المنازل وتتقارب وتتناسـب فيه العائلات.

وحينما تنتقل السفينة من مكان إلى مكان.. من (هير) إلى (هير) آخر للغوص على اللؤلؤ الكامن في المحار الساكن في قاع البحر تتردد الأغاني وفي أثناء الاستراحة من العمل ينشد النهام مواويله.. التي يرددها منذ لحظة الإبحار من ساحل الكويت. فمع شيلة المرساة والإبحار من الكويت تتردد الأغاني ومنها:

شيلنا واتكلنا على الله
ربي عليك اتكالي
عزيت يا من له الملك
كريم تعلم بحالي
علمك في سود الليالي
بألوذ بك يا محمد
بشكيلك
(باشكي لك) عن ما جرالي
مسكين وأنا مسكين

أغاني وتجليات

والإيمان بالله والاعتماد عليه هو طابع سائد بين أبناء الكويت فحياة البحر التي لها دور أساسي في المجتمع الكويتي تؤكد إيمان الإنسان بعظمة الخالق ورحمته.. فهو الذي يعلم بحال الإنسان في السراء والضراء وهو نعم المعين وكما يردد النهام في رحلات البحر.

ربي كريم ستار

تعلم بحالي والأسرار

سبحان ربي هدانا

اللي هدانا على الدين

احنا ضعاف مساكين

مولاي نظرتك بالعين

توفي ديون علينا

توفي ديوني الثقالي

الأولى والتوالي

يا موفي الدين يا الله

ورحلات الإبحار للغوص أو للسفر للتجارة تثير في نفس الإنسان الإحساس بالحنين والشوق فيقول الموال الذي يردده النهام مـع رفاق السفر والإبحار:

ودعتكم بالسلامة يا ضو عيني

وخلافكم ما غمض جفني على عيني

واعدتني بالوعد لمن حفت عيني

ظليت يا سيدي جسم بلا روح

جَدْ فَرّ منِّي العقل وظل الجسم مطروح

كل العرب هودت وأنا شقي الروح

يا نور عيني مثل ما أراعيك راعيني

وتظل المواويل والأغاني تتردد إلى أن تصل السفينة في رحلة الغوص إلى مكان الغوص (الهير)، فيأمر (النوخذة) قبطان السفينة بإنزال الشراع عند وصـولهم، ومع إنزال الشـراع تنطلق الأغاني بالأمنيات الحلوة:

منزلنا وأبرك دار

على الهير والمحار

يا الله منزل مبارك

وأبرك خير المنزلي

وينزل الغواصون إلى قاع البحر ممسكين بحبل (زيبل)، مغلقة أنوفهم (فطام)، ويرتدون (الشماشيل) وهو لباس أسود اللون، ومع كل غواص كيس يسمى (ديين). وكان يستخدم مع السروال (دراعة) سوداء لتحمي جسده من (الدول)، وهو يشبه قنديل البحر المعروف ويترك بمجرد ملامسته في جسم الغواص آثارا كآثار ضرب السياط. أما الحبل الذي يربط كل غواص طرفه مع (الديين) والطرف الأعلى يكون مع السيب (جمعها سيوب) الذي يمسك به، ويكون بين الغواص والسيب إشارة متفق عليها ليجذب السيب الحبل الذي طرفه الآخر مع الغواص. وهذه الإشارات وهز الحبل وشده هما وسيلة من وسائل الاتصال والتفاهم بين الغواص والسيب. ولقد أثارت حياة البحر وما سمعه الشاعر (محمد الفايز) من أحداث وأهوال ما كان يواجهه الغواصون في أعماق البحر فنظم ديوانه (مذكرات بحار) يروي فيه واقع تلك الحياة وما فيها من معاناة. وقد بدأ ديوانه متسائلا، وفي تساؤله نغمة الإصرار وذكريات الصراع من أجل حياة أفضل.

فيقول:

أركبت مثلي البوم والسنبوك والشوعى الكبير?
أرفعت أشرعة أمام الريح في الليل الغدير?
هل ذقت زادي في المساء على حصير?
من نخلة ماتت وما مات العذاب بقلبي الدامي الكبير
أسمعت صوت
(دجاجة ) الأعماق تبحث عن غذاء?
هل طاردتك (اللخمة ) السوداء و(الدول) العنيد?
هل انزويت وراء هاتيك الصخور?
في القاع و(الرمادي) خلفك كالخفير
يترصد الغواص، هل ذقت العذاب
?
مثلي وصارعت العباب

في بحار الحياة

فحياة البحر بما فيها من مغامرات ومخاطر..وما أحاطها من أحداث وأهوال.. فإنها تثير خيال الإنسان الفنان بصور من جمال الطبيعة في البحر والإحساس العميق بالشعور الهامس في وجدان الإنسان.. وكأنه بحار وحيد في بحر الحياة.. وحنين السفر في البحر يثير لدى الإنسان الفنان مشاعر تموج داخل ذاته وتخرج به من نطاق عالم المحسوسات إلى عالم آخر لا يدركه إلا من عايش البحر وعرف ما يحوط البحر من حنين الغربة.. وانفعالات الحنين المشرب بالحنان فيقول الشاعر الشعبي منصور الخرقاوي:

حنين الموج يشجيني
وضوء البدر يغريني
شراع الفلك يحديها
تبارك جل مجريها
أقضي ليلتي فيها
غريب الداريا عيني

ثم تترى في مخيلة الشاعر منصور الخرقاوي رؤى السفينة بأجزائها السكان والكافة والغوص واللؤلو (الدانة) فالموج والسفينة.. وحنين البحار وأنواع اللؤلو من (دانة) و(حصباء) و(حصة) يموج وجدان الشعراء ويفيض خاطرهم بنظمها كما حمل لنا شعراء الكويت ومغنوهم وموسيقيوهم صوراً من حياة البحر التي كان لها في وجدان الإنسان الكويتي انطباعات يمتزج فيها الأمل مع السعي القوي لبناء الحياة فيقول الشاعر أحمد العدواني:

عادت لنا الأيام فوق السفينة

مرة معانا الريح مرة علينا

بين السفر والغوص رحنا وجينا

ومهما تغير الحال ما قط شكينا

ياللي وضعنا الروح عنده رهينة

لو كانت الأقدار من صنع يدينا

ما كان يوم فراق بينا وبينه

احنا على ذكراك سرنا ورسينا

واحنا صدقنا الحب واحنا وفينا

حقك علينا إن كان بعدك هوينا

غنوا (الهولو )

وشَدى شادي الخليجي (عبدالعزيز المفرج) بهذا الشعر الجميل الذي نظمه شاعر الكويت (أحمد العدواني) والذي لحنه موسيقار الكويت الفنان (أحمد باقر) مستلهما الألحان الشعبية البحرية في تلحين هذه الأغنية. ولقد كان هذا الثلاثي وحدة فنية متميزة مع مطلع ستينيات القرن الماضي القرن العشرين ومازالت أغنيتهم (هولو) تتردد كنمط متميز بين فنون الغناء الكويتي الحديث.. و(الهولو) طابع متميز لنمط من فنون الغناء الشعبي في الكويت بل وفي بلدان الخليج العربي، حتى سمي الخليج بأنه خليج (الهولو). وتتغنى أغنية (هولو) التي وضع كلماتها (أحمد العدواني) ولحنها (أحمد باقر) وغناها شادي الخليج.. والتي تميزت بلحنها الذي يجمع بين الحداثة والأصالة في نسيج فني متكامل البناء.

هولو بين المنازل
أي والله أسمر سباني
هولو حلو الشمايل
أي والله زين المعاني
أسمر ومضمر ما في مثله
شفته يتخطر مثل الغزالة
سبحان من صور حسنه ودلاله

ولقد اتسمت هذه الأغاني بأنها كانت أغاني رائدة في استلهام أغاني البحر الشعبية في أعمال فنية حديثة، وتطور هذا المفهوم إلى أن شاع الآن مع مطلع القرن الحادي والعشرين في أعمال موسيقية ودراسات أكاديمية موسيقية تكشف عن جمال وفنية الموسيقى الشعبية الكويتية سواء في مجال التراث الشعبي بأصالته المتميزة أم في مجال الإبداع الفني الحديث بحيويته وتواصله مع الإبداع الشعبي في فنون الغناء والموسيقى المصاحبة للرقص الشعبي بجماليات أدائها.

البحر والأمثال

وكما يظهر أثر حياة البحر في فنون الغناء سواء ما كان مصاحباً للعمل في بناء السفينة، أو كان مواكباً لإنزال السفينة في الماء أو مع بدء رحلة الغوص والسفر من رفع المرساة أو التجديف أو رفع الشراع أو الإبحار، أو ما يواجه البحار من عواصف الطبيعة أو رياح عاتية، يعبر عنها بعد ذلك الفنان الشعبي بأغانيه التي تعبر عن مشاعره أو عن الشاعر بما يجول في خاطره. نجد أيضا الفنان الشعبي يصوغ تصوراته عن تجربة الحياة في أمثال شعبية ترتبط بحياة البحر وأجزاء السفينة وأشكال العمل.. والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، فمثلاً يقال:

(اذهب من فلوس الغوص) ويضرب هذا المثل في الإنجاز وكان ذلك في نظام التعامل بين (نواخذة) ربابنة سفن الغوص والعاملين على هذه السفن، إذ كان الربابنة يدفعون للبحارة في أيام الشتاء سلفة تسمى (تسكام) وتنطق الكاف بالجيم المصرية تقريباً. وقد تكون هذه الكلمة مشتقة من (سغم) بمعنى إجادة الغذاء وكذلك يقال في الجدية والصبر والمثابرة:

(اللي يطلب العالي يصبر على الراش).

والراش هو رذاذ الماء. فعندما تكون السفينة متجهة إلى عين الريح بقدر الإمكان فإن الأمواج تكتنفها من كل جانب فتمتلىء برذاذ الماء.

وقد استلهم الشاعر الكويتي عبدالله الفرج هذا المثل في قصيدته التي يقول فيها:

(من يطلب العالي فيصبر على الراش

هذا وما كاد أوله هان تاليه) وفي تجنب الضرر يقال: (أنا يا دول عنك فوق)

والدول كما نعلم هو حيوان بحري هلامي إذا مس جلد الغواص ـ كما سبق أن ذكرنا ـ ترك عليه آثارا مثل ضرب السياط تسبب آلاما مبرحة. لذا يتجنبه الغواصون ويبتعدون عنه.

ويقال فيمن يضيق الخناق على آخر ويسد عليه الطريق، أو إذا غلب متحدث آخر حديثه بأنه مثل الملاح الذي يدفع السفينة بالشراع والمجداف. فيقال:

(ما خذه بشراع وميداف).

والميداف هو المجداف ـ ولكن تقلب الجيم ياء كما هو شائع في لهجة أهل الخليج.

وللغطاوي قصة

إلى غير ذلك من أمثال عديدة استعارت مضاربها من واقع حياة البحر والعمل على السفينة. وقد انعكس ذلك في الألغاز الشعبية (الغطاوي) أو الأحاجي. فالألغاز أحاجٍ يثيرها المتكلم ويلغز بها في كلامه ليعمي ويغطي مراده فيشكل على السامع إدراك المعنى المقصود. وتحتوي الألغاز على صور من البيئة ومسميات من واقع الحياة التي يعيشها الإنسان. وإذا تأملنا بعض الألغاز الكويتية التي ترتبط بحياة البحر نجد اللغز الذي يقول:

(الظهر أملح والبطن أبيض) يقصد به المحارة، فالمحارة ظهرها مالح وبطنها أبيض.. كما أن اللغز الذي يسأل عن: (شىء يخرج من الماء، وإذا جاء الماء هلك).

فهو عن الملح.. فالملح يستخرج من الماء وإذا أضيف الماء إلى الملح ذاب.

أما اللغز الذي يسأل عن ما هو (طير إن طار في البحار لا له ريش ولا منقار) فهذا اللغز هو بخار الماء الذي يتبخر من ماء البحار سحاباً.

أما اللغز الذي يسأل عن الشمس فيقول:

(طاسة على طاسة في البحر ركاسة أو ركازة) وركس بمعنى غمس وركز بمعنى: غرز وقد يسأل السائل موحياً بأن سؤاله مثل السؤال السابق عن الشمس ولكنه يقصد شيئا آخر فيقول: (طاسة على طاسة من جوا لولي ومن بره نحاسه)، ويقصد بذلك ثمرة الرمان. فثمرة الرمان بذورها من الداخل مثل حبات اللؤلؤ الزهري الذي لونه أبيض مشرب بحمرة، وهو من أجود أنواع اللؤلؤ إن لم يكن بالفعل أجودها.. أما قشرة الرمان فلونها مثل لون النحاس الأحمر.

وقد يستعير اللاغز اسم أحد أنواع السفن الكبيرة التي كانت تستخدم في السفر إلى الهند.. فيقول (إبغلتنا الكبيرة.. يا زواها الكثيرة) نوخذها المكركش.. وبنتها الصغيرة).

وإجابة اللغز هو السماء، وما فيها من نجوم، هي كالمركب الكبيرة (الإبغلة) بما فيها من زخارف، فالإبغلة تتميز بزخارف تزين جوانبها من الخشب المنحوت أو المفرغ.. وكذلك تتميز بحمولتها الكبيرة وبحارتها أيضا الذين يفوق عددهم عدد البحارة في السفن الأخرى.

أما اللغز الذي يقول:

(ثلاثة اللي خلقهم فرد واحد
وثلاثة كلهم في اسم واحد
واحد بالسما، وبالأرض واحد
وواحد يلتقي يوم الحساب)

وهو يسأل عن الميزان، واحد هو (برج الميزان من عالم الأفلاك والثاني الميزان الذي يستخدم للكيل في الحياة، أما الثالث فهو ميزان يوم الحساب.

والألغاز كأي مظهر من مظاهر الآداب الشعبية هي جزء من ثقافة المجتمع.

وسواء كان اللغز بشكله الاستفهامي أو بإجابته ووضع الحل له، استغلق في فهمه. فإنه من خلال السؤال والجواب يعطي بعض ملامح خاصة لنوعية الثقافة الشعبية السائدة في المجتمع.

حكاية الحكاية

ومن الحكايات التي تروى عن أحداث حدثت بالفعل، وتسمى مثل هذه الحكايات سوالف ومفردها سالفة أي أنها حكاية واقعية حدثت في سالف العصر والأوان، أي حدثت في زمان مضى.. بل قد يكون أبطالها مازالوا أحياء ولهم وجود في واقع الحياة.. وتروى إحدى هذه الحكايات أنه في ليلة عاصفة، يعلو فيها الموج جوانب السفينة وتزمجر الريح فيها، والكل يعمل من أجل أن تسير السفينة وتقاوم هبات الريح الضارية، سقط من على حافة السفينة أحد البحارة.. وظل يصارع والموج يصارعه، وحاول زملاؤه إنقاذه، ولكن وسط الظلام وصفير الريح، غاب عن أنظارهم، وضاع صوته وصوتهم بين هدير الموج وخاب أمل الرفاق في إنقاذه وسارت السفينة وسط الموج الثائر والريح الغاضبة إلى أن هدأ البحر، فإذا بهم يرون بحاراً يغالب الموج متعلقا بلوح من الخشب. فاتجهوا نحوه وأنقذوه ومخيلتهم كانت تذهب إلى أمل أن يكون زميلهم الذي افتقدوه، وينقذ البحارة هذا البحار التائه وسط البحر، فإذا به بحار آخر سقط من سفينة أخرى آتية من بلد غير بلدهم ولكم وجهتها نفس وجهة البلد الذي يقصدون. ويقوم بحارة السفينة على رعاية وتمريض البحار الذي أنقذوه.

وتمضي الأيام والليالي وتصل السفينة إلى شاطئ البلد الذي يقصدون. وهناك على الشاطىء يلتقون بسفينة البحار الذي أنقذوه، فإذا زميلهم الذي ضاع منهم وسط اليم، قد أنقذته سفينة البحار الذي انتشلوه من عباب البحر. وهكذا كما تساعد الآخرين يساعدونك (فالخير جزاؤه خير). و(افعل الجميل وارمه البحر) أو (افعل الجميل تلقاه) و(من اتكل على الله ما ضاع). إلى غير ذلك من مقولات لها دورها في تقييم الإنسان لأحداث الحياة، وتروي الحكايات ما يؤكد صحة تلك المقولات وغيرها من أحكام القيم والمفاهيم التي تشكل الجانب الفكري في أنماط السلوك وتجاريب وتصانيف الحياة.

حكاية غواص

وقد روى لنا أحد الغواصين حكاية وقعت له بنفسه في ذلك الوقت.. فقال: كنت مع أصحابي يوما في مغاص اللؤلؤ، فنزل أحدهم إلى البحر، ولم تكد رجله تطأ الأرض حتى صعد مرعوبا واخبرنا بأنه شاهد امرأة من الجان جالسة وعليها عباءة سوداء. وأتى لزيادة التأكيد بشيء من أوصاف العباءة لصاحبه.

فرأى أحد إخوانه أن ينزل ليتحقق، فجرى له مثل ما جرى لصاحبه، ثم نزل الثالث والرابع وهكذا حتى تكامل من كان في السفينة.. كلهم اتفقوا على صدق ما قاله الأول. ويتابع عبدالعزيز الرشيد روايته فيقول: قال محدثنا. فلما رأيت الكل أضربوا عن العمل لتلك الحادثة. رأيت أن اكشف الحقيقة بنفسي، ولكن عندما نزلت. وجد الأمر كما قالوا. فدهشت وأصابني الرعب ما كاد يضطرني إلى الخروج، غير أن نفسي أبت على أن يتحدث الناس عني بأنني جبنت. فصممت على حل المبهم ولو كان فيه القضاء علي. فأقدمت عليها ولويت بيدي على عنقها وأنا مغمض العينين فما شعرت إلا والدم يجرى من يدي. فعلمت حينئذ أني أصبت صخرة سوداء تلبست بعباءة. ولا تسل عن فرحتي عندما عرفت الحقيقة.

قال: ولكن أردت مداعبة أصحابي فلبست العباءة وخرجت عليهم، فرموا أنفسهم في البحر، وتركوا السفينة وما فيها إذ اعتقدوا ان المرأة قضت علي وجاءت لتقضي عليهم ولم يتراجعوا إلا بعد سماعهم صوتي.

حكاية أخرى مماثلة للحكاية السابقة رواها لنا المرحوم محمد جاسم المضف منذ أكثر من ربع قرن عما كان يحدث في عالم البحر من أحداث عجاب وما يشتمل عليه العمل في رحلات الغوص من غرائب. ففي إحدى الرحلات عاد أحد الغواصين من الماء مسرعاً مذعوراً، وأخبر من في السفينة أنه رأى في القاع بيت شعر (خيمة) منصوباً في القاع وبداخله بشر ـ وتخيل هو وغيره أن قاع هذا المكان مسكون بالجان. ولكن أحد الغواصين الشجعان ممن لا يعتقدون بوجود جان في أعماق البحر غاص لرؤية تلك الخيمة.. وبعد برهة وجيزة رجع إلى السفينة وأخبر أصحابه، بأنه يوجد فعلا بيت شعر، ولكنه مجرد (زولية) سجادة وربما تكون قد سقطت من إحدى السفن ورست في القاع على صخرة يحوطها بعض الشعب المرجانية. فبدت تلك الزولية وكأنها بيت شعر منصوب في القاع. ومع حركة الموج وتكسرات الماء بدت الصخرة المرجانية وكأنها شخوص بداخلها وحولها.. وطلب من بعض زملائه أن يغوصوا معه لإحضارها فغاصوا معه وعادوا بها إلى السفينة.

من هاتين القصتين الواقعيتين أن ما تخيله البحارة من كائنات وجان في أعماق البحر. هو مجرد تصور فني خاص من إبداع وخيال الإنسان.

والحكايات الشعبية هي إبداع ابتدعه الإنسان يصور به الوجود داخل ذاته وخارجها. منها ما هو تجسيد بالكلمة لفكرة، أو تجريد لمحسوس من خلال الكلمة.

والحكايات الشعبية هي إبداع ابتدعه الإنسان يصور به الوجود داخل ذاته وخارجها. منها ما هو تجسيد بالكلمة لفكرة، أو تجريد لمحسوس من خلال الكلمة.

والحكايات الشعبية الكويتية، التي ترتبط بحياة البحر في الكويت. تتنوع بين ما هو سوالف وبين ما هو (حزاوي) أى حكايات واقعية وحكايات يغلب عليها الخيال.

فالحكايات حينما تخرج بأحداثها من إطار الواقع إلى مجال الخيال أو إلى ما لا يمكن حدوثه. تتحول الحكاية من (سالفة) أي رواية شيء حدث بالفعل إلى حزاية، أي إلى حديث يلعب الخيال فيه دوراً كبيراً والفنون الشعبية التي ترتبط بعالم البحر هي فنون تجمع بين خبرة الإنسان المتوارثة وخبرة الإنسان في تجديد الحياة والإضافة إلى خبرة من سبق، خبرة من عايش تجربة الحياة في تواصل ثقافي حي.. منذ لحظة صناعة السفنية وقلفطتها وإعدادها إلى الإبحار.. إلى لحظة العودة تواكبها في الذهاب والعودة احتفالات العرضة البحرية حيث يمتزج فيها غناء المودعين مع أغاني المسافرين وأشجانهم، وتلتقي في فرحة العودة أغاني العائدين مع أغاني المستقبلين في لهفة وشوق. فالعرضة البحرية بأشعارها وأغانيها وألحانها وإيقاعاتها المتميزة هي تعبير عن ذات الإنسان الفرد في وحدة تكاملية مع ذات الجماعة الإنسانية التي يرتبط بها وينتمي إليه، فالفنون الشعبية بطبيعتها ومصادر إبداعها هي فن الحياة.

والفنون الشعبية الكويتية هي تعبير مباشر عن الحياة التي عاشها الإنسان وعبر بها عن واقع الحياة التي عايشها على مر حقب الزمان.

 

صفوت كمال

 
 








بالأغاني الشعبية يحتفل الكويتيون في المناسبات الوطنية





إحدى الفرق الغنائية الشعبية





الأهازيج والأغنيات الموروثة قاسم رئيسي للاحتفالات الشعبية





الآلات الإيقاعية في منطقة الخليج العربي





"السدو" أحد أهم الفنون التراثية





الغناء الشعبي أحد الفنون التي برع فيها المطربون في الخليج