المنطقة الشرقية من السعودية قلب من ذهب سليمان مظهر

قالوا لنا: ما دمتم في المنطقة الشرقية للمملكة فلتكن بداية انطلاقتكم على درب المعرفة والاستطلاع من حيث المتعة العلمية والتجربة العلمية والتقنية البترولية، فأنتم في قلب كنز النفط والذهب الأسود .

انطلقوا بنا إلى سفح جبل الظهران، على المنحدر الشمالي للتكوين الجيولوجي المسمى قبة الدمام، والمطل على طريق الخبر- الظهران السريع، ووقفنا أمام مبنى رائع كسي بالجرانيت، وأحيط بإفريز من أحجار قطعت من محاجر محلية توخيا للتجانس مع صخور المنطقة المحيطة، ومن خلال نظرة سريعة نلحظ أن عمارة المبنى تتسم بصبغة إسلامية، وقد ازدانت بعقود خرسانية بيض تضفي على الواجهة رونقا يثير الإعجاب.

ويتجه بصرنا إلى اللوحة التي تعلن عن سمة المكان، ونقرأ: معرض أرامكو. دار الاستكشاف العلمي.

ونخطو أولى خطواتنا إلى المبنى الأنيق. أشعة الشمس تسطع من وراء حائط زجاجي يرتفع إلى علو طابقين، ومن سقف شفاف تزاقص الأشعة على المرمر المصقول لتنعكس على الحواجز والقضبان الفولاذية البراقة المقاومة للصدأ. والأنوار حولنا تتراوح بين الخفوت والبريق، وهي تدفعنا من خلال قوة خفية مثيرة للحواس إلى التقدم إلى حيث نجد أنفسنا في قلب دار للعلم والمتعة، تستقطب منا الاهتمام المقترن بالتفكير والاكتشاف الذاتي والإيجابية المثيرة الفاعلة.

وبنظرة إلى الأمام نعود إلى الخلف أربعة عشر قرنا، فهنا نلتقي بجناح التراث العربي الإسلامي، ومع نماذج حية من إنجازات المفكرين العرب المسلمين التي أسهمت في إرساء قواعد العلم الحديث والدور الذي تلعبه التقنية في عالمنا اليوم. هنا نكتشف أن البيروني استنتج قبل تسعة قرون أن أجزاء من شبه الجزيرة العربية كانت فيما مضى بحراً، وندرك من خلال الفرضية المعروضة في ركن أصل البترول لماذا تركز النفط في المنطقة الشرقية. كما نتابع كيف أن البيروني تمكن بذكائه الخارق من حساب محيط الأرض بدقة بلغت 98%.

ونتعرف على واحد من أقدم الكتب الهندسية، كتاب "في معرفة الحيل الهندسية للجزري" ونشهد بعض منجزاته من الأدوات والآلات الميكانيكية، ونتلمس العبقرية الإسلامية وراء جهاز الاسطرلاب وطرق استعمالاته، وكيف طبق المسلمون علم حساب المثلثات لقياس المسافات، وكيف وجدوا حلولا لمشاكل التقنية المعقدة عن طريق الملاحظة والدقة المتناهية، وهما من أهم العناصر التي تقوم عليها الطريقة العلمية الحديثة. ونستطلع كيف أن الكيميائين المسلمين طوروا أساليب التقطير التي نستخدمها اليوم في مصافي النفط الحديثة، وهو ما نشاهده بالتفصيل في جناح " تكرير الزيت وتجزئة الغاز".

وللربط بين الماضي والحاضر نطل إلى أعلى حيث يتدلى من وسط القاعة نموذج كبير لكرة محلقة تعد من أدق أجهزة الرصد وأفضل أدوات التعليم التي اعتمدها الفلكيون المسلمون. الكرة تحتوي على حلقات مدرجة في مستويات مختلفة تمثل المعالم المهمة للقبة السماوية.

الصورة الواضحة التي تبدو في معروضات الجناح أنها بيان زمني يعرض لأهم التطورات السياسية والعلمية التي شهدتها القرون العشرة الأولى من تاريخ الإسلام، وعرض صادق لجوانب من علوم الجيولوجيا والجغرافيا ورسم الخرائط والملاحة البحرية والرياضيات والفلك والبصريات والهندسة الميكانيكية والمنشآت المائية والكيمياء القديمة التي انبثقت عنها علوم التقنية الحديثة.

قصة الذهب الأسود

يقول لنا مدير معارض أرامكو فاروق الجناحي والذي يصحبنا في جولتنا: ما دمتم في معرض "أرامكو " أكبر شركة منتجة للزيت في العالم فلابد أن تتعرفوا على قصتها. هنا يعرض علينا فيلما بالفيديو يصور مراحل البحث عن النفط واكتشافه في السعودية. الفيلم يعرض لحظات تاريخية متتابعة تبدأ في رأس تنورة في أول مايو 1939 حين أدار الملك عبد العزيز آل سعود الصمام إيذانا بتدفق أول شحنة تجارية من النفط الخام السعودي إلى العالم. ثم يعود الفيلم ليستعرض جذور قصة النفط في السعودية. ففي عام 1922 كان المغامر النيوزيلندي فرانك هولمز يقوم بأعمال حفريات تنقيب عن الماء في البحرين غير بعيد عن ساحل الأحساء لصالح شركة ملاحة بريطانية، فاكتشف أمرا لم يكن يتوقعه هو وجود طبقة عائمة من الزيت تحت سطح الأرض. وفي عام 1923 استطاع هولمز الحصول على امتياز البحث عن البترول على الساحل الشرقي للمملكة، ولكنه تنازل عنه بعد فترة قليلة لقاء مبلغ زهيد لشركة أمريكية هي الجولف أويل كومباني، ولكن الأمور تجمدت وظلت مائعة ضائعة حتى عام 1932 حين ازداد التنافس بين الأمريكان والإنجليز للحصول على حق الامتياز، فطلبت السعودية مبلغ 100 ألف جنيه استرليني ذهبا كسلفة على العائدات القادمة، وقدم الأمريكيون مبلغ 50 ألف جنيه، بينما اكتفى الإنجليز بتقديم 10 آلاف جنيه فقط لأنهم كانوا غير واثقين من إمكان العثور على النفط في الأحساء. وهكذا تم توقيع اتفاق منح امتياز التنقيب للشركة الأمريكية "ستاندرد" التي ما لبثت أن تنازلت بدورها عام 1933 عن امتيازها لمجموعة شركات حملت اسم Arabian American Oil Company واختصروا الاسم إلى Aramco (أرامكو)، وهو الذي يطلق حاليا على الشركة حتى بعد انتقال ملكيتها الكاملة إلى الحكومة السعودية عام 1980 بعد أن كانت تقوم على أساس المشاركة.

تعرض مشاهد الفيلم كيف أقام خبراء البترول بالشركة بعد 4 أشهر من توقيع الاتفاق معسكرهم على مسافة خمسة أميال ونصف من قرية الدمام، وتم حفر أول بئر فلم يعثروا على شيء. فأعادوا إنزال المثقاب إلى عمق 3203 أقدام، ولكن بدون جدوى، واستمروا يحفرون من مكان إلى آخر حتى وصل عدد الآبار للحفورة عشر آبار وكانت النتيجة دائماً صفرا. وانقضت ثلاث سنوات من الفشل والإرهاق وصلت خلالها خسائر الشركة إلى ستة ملايين دولار مما هددها بالإفلاس، ولكن خاطراً مفاجئا طرأ على بال أحدهم فقال: لماذا لا نتعمق في الحفر؟ وتحركت الحفارة مرة ثانية لتوضع على فوهة البئر رقم 7 حتى وصل المثقاب إلى عمق 4727 قدما. وعندها اتصل ببحيرة من النفط واندفع البترول ليغطي جبل الظهران الذي اكتشفوا تحته هذا الخزان الطبيعي المليء بالذهب الأسود. وأعادوا تعميق الآبار العشرة التي حفروها من قبل فوجدوا تحتها جميعا النفط بكميات هائلة.

وهكذا بدأت قصة النفط في المملكة.

الكنز الكبير

النفط إذن هو كنز المنطقة الشرقية للثروة التي تقوم على الذهب الأسود في أكبر دولة بترولية في العالم.

هذا الزيت الخام له قصة نستطيع أن نتابع حقيقتها في جناحي " أصل البترول" و " تكرير الزيت وتجزئة الغاز ". المعروضات هنا تقدم نماذج حية تبين كيف أنه منذ ملايين السنين أصبحت النباتات والأحياء الصغيرة في محيطات الأرض هي اللبنات التي قامت عليها ظاهرة التحول الكيميائي الذي أدى في النهاية إلى نشوء المواد الهيدروكربونية، وهي ذرات من الهيدروجين والكربون تتحد لتكوّن البترول والغاز الطبيعي. ونطل على النماذج، إننا نتابع بطريقة مبسطة الدور الذي قامت به الكائنات البحرية في هذه الظاهرة، ونرى كيف ارتفعت البحار وانحسرت، وكيف تكونت الأرض التي نقف عليها، وما الذي يمكن استقراؤه من الأحافير، وما هي الظروف الطبيعية لتكوين الزيت والغاز. ومن خلال عدسة مكبرة نرى العوالق النباتية وهي تطفو في خزان يماثل بيئة البحار القديمة. ونقوم بفحص عينات من الأحافير التي تحمل بقايا الأحياء، ونحرك لوحة على الخريطة فنحدد من خلالها مدى اتساع المحيط في الأزمنة الغابرة وهو ما يدعم الفرضية التي وضعها البيروني قبل 900 سنة بأن جزءا من شبه الجزيرة العربية كان مغموراً بهذه البحار. ومن خلال أجهزة تطبيقية مبسطة ندير حاسباً آليا ليبدو التكوين الجزيئي للبترول. وندير مقبضاً متصلاً بإحدى المعروضات فنعرف السرعة النسبية لسريان السائل بين فراغات أجزاء المادة، ومن جهاز آخر نتعرف إلى عوامل التعرية بغرف كمية من الرمل وإفراغها في مجرى مائي. ونشاهد نماذج تبين كيف أن حضارات الشرق الأوسط القديمة استخدمت القار في أغراض متعددة تراوحت بين مادة لمنع تسرب الماء إلى القارب وسلاح ناري في الحروب.

مكامن البترول

لكن، كيف يتم البحث عن البترول ومكامنه؟، الإجابة نشاهدها بأعيننا في جناح خاص نتابع من خلاله كيف يبحث المتخصصون في علوم الأرض عن البترول، وماذا يمكن أن يكشف عنه هذا البحث.

ونتوقف عند معروضات جناح الحفر والإنتاج وإدارة مكامن النفط لنتعرف على العمل التقني المعقد لاستخراج الزيت والغاز من باطن الأرض. وندير ذراع النموذج لنرى كيف يدور المثقاب. ونتابع عملية الحفر خطوة خطوة ونتبين بشكل عملي الغاية من استخدام طين الحفر والطرق العملية لإعداده، ثم نتعرف على الأساليب الخاصة بالحفر في المناطق المغمورة.ونقف عند نموذج كفوهة بئر نموذجية لنشهد مجموعة الصمامات التي تشكل حلقة وصل مهمة بين المكمن وخطوط الأنابيب الممتدة فوق سطح الأرض.

وإذ نتابع تفحص المعروضات ونقف عند أحد النماذج الغريبة، يقول لنا إبراهيم العنايشة مدير العلاقات العامة لأرامكو: إن تقنية الحفر بلغت اليوم درجة كبيرة من التطور، إلا أنها تقوم على مبادئ علمية بسيطة، من بينها مبدأ الخاصية الميكانيكية التي تستطيعون اختبارها في هذا الجهاز لتدركوا الخاصية النسبية للمستوى المائل والعجلة والمحور والبكرة والعتلة والتروس، وإذ نختبر الآلة وننتقل منها إلى معروضة أخرى لنتبين كيف تحدث عملية فرز الغاز من الزيت، يتابع حديثه قائلاً: هناك مبدأ بسيط في التقنيات المتطورة المستخدمة في هذه العملية، فالغاز لا يظل ذائباً في الزيت إلا تحت ضغط كما هو الحال في المياه الغازية، فإذا ما انخفض الضغط تصاعدت فقاقيع الغاز من المحلول. ويمكنكم أيضاً مشاهدة هذا النموذج الذي يبين كيفية إزالة الماء المالح من الزيت الخام، ورحنا بالفعل نتفحص عينات من الزيت الخام بالمجهر قبل إزالة الماء المستحلب وبعدها، كما أجرينا عدة تجارب عملية على معروضات أخرى تتصل بإدارة الكمائن، ومع أن هذا المجال معقد جداً إلا أنه يقوم أيضاً على بعض المبادئ البسيطة ومنها عدم اختلاط الزيت والماء لاختلاف كثافتهما كما يبدو عند خض زجاجة مليئة بالزيت والخل قبل صبهما على الطعام، حيث يلاحظ أن أحدهما ينفصل عن الآخر تلقائيا. وهذا المبدأ ينطبق على عملية حقن الماء في حقول معينة للزيت للحفاظ على الضغط فيها. وهناك طريقة أخرى لزيادة معدل إنتاج الزيت، هي الرفع بالغاز. ويقف بنا "العنايشة" عند معروضة تشرح هذا الأسلوب بطريقة شائقة، فعندما أدرنا الذراع اندفع الغاز في شكل فقاقيع إلى جوف البئر، وهذا الغاز يجعل عمود الزيت في البئر أخف كثافة فيصبح أكثر قابلية للاستخراج.

الحقيقة أن جولة في معرض أرامكو تتيح فرصة رائعة للوقوف على حقائق علمية لا حصر لها في مجال استكشاف النفط والغاز والعلوم المتصلة بهما، كما تتيح الاطلاع على معلومات تتسم بالشمول واستيعاب الحقائق لتتلاحم خيوطها وتصبح نسيجا من المعرفة.

المنطقة الشرقية لها تاريخ

ومن الجولة المحدودة في معرض أرامكو نخرج إلى العالم الواسع في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية.

المنطقة الشرقية كا يدل اسمها هي الجزء الشرقي من المملكة وبها ساحلها المطل على الخليج العربي بطول 610 كم من رأس الخفجي شمالا إلى سلوي جنوبا مع متوسط عرض يبلغ 60 كيلومترا للسهل الساحلي المنخفض وسطحه شبه المستوي المليء بالأراضي المالحة، وتبلغ مساحتها 778 ألف كم 2 تمثل حوالي 36% من المساحة الإجمالية للمملكة والبالغة مليونين ومائة وخمسين ألف كيلو متر مربع، وهي بذلك أوسع الإمارات مساحة وتضم في نطاقها صحراء الربع الخالي الشاسعة بجانب صحراء الدهناء والنفود.

عدد سكان المنطقة يبلغ حوالي مليوني نسمة يتركزون في الجزء الشمالي الشرقي للمنطقة حيث العمران المرتبط بالنفط. إن إمارة المنطقة الشرقية التي يتولاها الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز تتكون من 10 إمارات رئيسية تتبع جميعها لأمير المنطقة وهي الأحساء والخبر والخفجي ورأس تنورة وقرية والقطيف وحفر الباطن والجبيل والعتق والنعيرية.

وتعود دلائل الاستيطان البشري بالمنطقة إلى نحو 5000 سنة قبل الميلاد. والكنعانيون أول قوم يذكرهم التاريخ كسكان لها منذ نحو 3000 سنة قبل الميلاد، وقد نزحوا من أواسط شبه الجزيرة حيث اجتذبتهم ينابيع المياه العذبة المتفجرة بسواحل المنطقة، ومن سلالتهم كان العمالقة والفينيقيون. ويرجح المؤرخون أن مملكة " دلمون " التي قامت بالمنطقة واستمرت من عام 3200 ق. م إلى عام 1800 ق. م هي دولة فينيقية المنشأ أسسها الفينيقيون أحفاد الكنعانيين قبل نزوحهم إلى شواطئ البحر الأبيض.

وقد تواصلت هجرات القبائل العربية بعد ذلك وكان أغلبهم من أغنى العرب يتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف وكانوا مسالمين إلى أبعد الحدود، فكان منهم الجرهائيون ثم قبائل قضاعة والأزد وإياد، ثم تربع بنو عبد القيس في المنطقة وسكن معهم أبناء عمومتهم قبيلة بكر بن وائل، وبنو عبدالقيس هم أشهر القبائل العربية التي سكنت المنطقة قبل الإسلام، وازدهرت في عهدهم الحياة الفكرية والأدبية، إذ كانت تقوم فيها الأسواق التي تعتبر مؤتمرات أدبية موسمية. ولما ظهر الإسلام سارع أهل المنطقة فبعثوا وفدهم إلى رسول الله. وقد أسلم كثير من أهل المنطقة، كما أسلم واليهم المنذر بن ساوي، ثم ولى الرسول عليهم العلاء بن الحضرمي، فانقاد له جميع السكان.

الدمام.. رأس المثلث الكبير

تلك هي المنطقة الشرقية في تاريخها القديم. أما الحديث فهو صلب الانطلاقة الكبرى التي تشهدها منذ ظهر كنز النفط في أراضيها، وهي انطلاقة يشهد بها النمو الحضاري خاصة في مثلث إنتاج البترول المتمثل في منطقة الالتحام العمراني لثلاثة أقطاب حضارية هي الدمام والخُبر والظهران، والتي نبدأ منها استطلاعنا فوق كنز الذهب الأسود.

يقول لنا مرافقنا الإعلامي حمد الماضي في بداية جولتنا: إن منطقة الدمام من أقدم المناطق المعمورة في الجزيرة العربية، وكان سكانها في الماضي يعيشون على صيد اللؤلؤ وزراعة النخيل والتجارة، ولكن عندما اكتشف النفط حدث تغير جذري في حياة المنطقة، وأخذت تشهد تطوراً تنامى بسرعة وبشكل متميز مع تنفيذ خطط التنمية الجديدة كسائر مدن المملكة.

والواقع أنه قبل سنوات تتجاوز العشر بقليل، كانت الدمام حاضرة المنطقة الشرقية، مدينة قائمة بذاتها، تقع على مسافة غير بعيدة منها كل من "الخبر" و " الظهران " بحيث لا يحتاج التنقل بينها إلى أكثر من دقائق معدودة.

ولكن الوثبة الحضارية التي تحققت، جعلت المدن الثلاث تتصل بعضها ببعض، حتى باتت أقرب ما تكون إلى مركز حضاري واحد، يطلق عليه اسم " منطقة الدمام" وتتولى مسئولياته أمانة واحدة وبلديات فرعية، ولكل منها خصائصها ودورها في إعطاء المنطقة شكلها الراهن الذي نفذت فيه عشرات من المشاريع التطويرية.

يقول لنا المؤرخ السعودي رئيس النادي الثقافي: "ترجع تسمية الدمام- حسب اعتقاد بعض الباحثين- إلى أنها كانت تسمع فيها دمدمة (أصوات) الطبول، إما لإعلان بداية موسم الصيد أو نهايته. وفي عام 1923 حل قسم من قبيلة الدواسر على ساحل الدمام بعد انتقالهم من البحرين، وأقاموا لأنفسهم مساكن من سعف النخيل والطين، واستمروا في الإقامة خمس عشرة سنة، انصرف الناس خلالها إلى الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، فتحسنت أحوالهم بحيث بنوا بيوتهم من اللبن. وحين انهارت أسعار اللؤلؤ عالميا بعد ظهور اللؤلؤ الياباني المزروع، هجر كثير من السكان مهنة الغوص، واتجهوا إلى مهنة أهم وأجدى، هي صناعة الزيت التي كانت قد بدأت تعكس آثارها على الحياة في المملكة ككل، وفي المنطقة الشرقية بوجه خاص.

بين القديم والحديث

نتجول في مدينة الدمام، إنها الآن مدينة حديثة عصرية تبدل فيها نمط المعمار فأصبح معظمه على النسق المتبع في المدن العصرية الحديثة، برغم أنها لم تنس ماضيها الذي لا تزال بعض آثاره قائمة منذ كانت مقراً للاستيطان لإشرافها على جزء كبير من ساحل الخليج الذي لعب دورا مهما في مجال الاتصالات البشرية والتجارية بين الحضارات القديمة. إن أبرز آثارها الظاهرة في جزيرة تاروت الواقعة بمواجهة القطيف والتي ترتبط بها بجسر طبيعي طوله أربعة كيلو مترات وعرضه حوالي 30 متراً. في هذه الجزيرة يوجد العديد من الآثار التي ترجع إلى فترات زمنية مختلفة، وأبرزها قلعة تاروت التي بناها البرتغاليون في القرن 17 م على أنقاض مستوطنات سابقة يعود أقدمها إلى 4500 سنة ق. م، ويقال إن هذه الجزيرة كانت موطنًا قديمًا للفينيقيين قبل نزوحهم إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وقد أطلق عليها اسم تاروت وهو في الأصل عشتاروت حيث معبدها القديم.

ونتنقل بين المعالم الحديثة للدمام، فمع التحول الحديث للدمام بعد دمج بلديات الدمام والخبر والظهران في بلدية واحدة، جرى تحسين مستوى الخدمات ورفع كفاءة الأجهزة الفنية فيها. وقد برز ذلك في ميناء الملك عبد العزيز أكبر الموانى على الخليج، وكان في البداية ميناء صغيراً يستقبل المعدات والآلات التي تستعمل في أغراض التنقيب عن الزيت، ويحتوي على 39 رصيفاً، منها أربعة مخصصة لمناولات الحاويات ورصيفان للأسمنت، كما يشتمل على صوامع للغلال، ويربط الميناء بالرياض شبكة من السكك الحديدية لنقل البضائع والركاب. وفي كل يوم يسير قطار واحد من الدمام إلى الرياض وآخر من الرياض إلى الدمام. ويبلغ معدل عدد الركاب في كليهما معا حوالي ألف راكب يومياً، كما يسير قطار للبضائع يومياً في كل اتجاه. والبضائع تنتقل غالباً من الدمام إلى الرياض وأهمها المحروقات والأسمنت والخشب والحديد والأسمدة الكيماوية والحبوب.

ونزور المنطقة الصناعية بالدمام، إنها من أول المناطق الصناعية بالمملكة، وقد أقيمت على مساحة من الأرض تبلغ 35 كم 2 في موقع يشاهد مدينة الدمام من الغرب. وتحتوي المنطقة على مائة منشأة صناعية للأصباغ والألومنيوم والألياف الزجاجية والبولسترين والأنابيب والبلاط والورق والعلب الفارغة، وتجميع هياكل السيارات والبيوت الجاهزة، والعديد من الورش والمطابع. كلما سرنا في شوارع الدمام وجدنا الشجر الجانبي وشجيرات الزهور تملأ الحدائق العامة. ومن أجمل المتنزهات، التي تضفي جواً جماليا في المدينة إلى جانب اللمسات التي تحمل تراث الماضي، متنزه الملك فهد الذي تغطي مساحاته الخضراء 273 ألف متر مربع. المتنزه عبارة عن حديقة كبيرة ومنسقة، مقسمة إلى أشكال هندسية جميلة، غرست فيها مختلف النباتات والأشجار وتتناثر في ممراتها المقاعد الحجرية والأنوار الملونة. وأهم المباني المقامة في المتنزه مسجد صمم على شكل قبة دائرية مئذنته ذات شكل فريد بارتفاع ثلاثين متراً، كل ذلك بالإضافة إلى مجموعة من البرك والبحيرات ومجرى مائي تتخلله الشلالات الصغيرة التي تصب في بحيرة كبيرة يقع أمامها مسرح مدرج، وجهز المتنزه بمختلف المرافق الترفيهية.

الخبر.. التوأم المثير

الآن نذهب إلى الخبر. المدينة التوأم التي تثير الغيرة في قلب الدمام، فقد نشأتا معاً منذ حوالي 65 عاماً عندما جاءهما الدواسر، ولكن الخُبر اشتد عودها فجأة قبل حوالي ربع قرن وانطلقت كالمارد. وبسرعة مذهلة تحولت إلى مدينة حديثة خاصة بعد اكتشاف النفط، حيث بدأت في الاستفادة من كونها أقرب المراكز السكانية إلى الآبار المنتجة للنفط في الظهران. وعندما نسير في شوارع الخبر وأسواقها التجارية المتميزة نحس مدى التطور وسر الجاذبية التي تجتذب كل العاملين إليها حيث تمتلئ بهم الشوارع في شبه هجرة جماعية خاصة أيام الجمع والعطلات الرسمية، ثم فيما بعد الغروب. فالأهالي من سكانها ومن ضواحيها ينطلقون في أنحائها ويجوبون أسواقها، والأمريكان من العاملين في الشركات ومن رجال القوات الجوية القادمين من القاعدة الجوية، والأوربيون والموظفون العرب يتدفقون حتى يمتلئ بهم شارع الملك خالد الرئيسي وتفرعاته العديدة والتي تتحول كلها إلى ساحة للمتناقضات. نساء يسرن وقد غطاهن السواد من قمة الرأس إلى أخمص القدم، وبجوارهن أجنبيات يسرن سافرات الوجوه بأكمام قصيرة وبينهن نساء شقراوات وقد ارتدين الثوب الأسود الذي يغطي أجسادهن، ولكنه يبرز مفاتنهن. وبين الصفوف الطويلة يسير رجال يرتدون الشورت القصير والقميص المفتوح وأغلبهم من الفلبينين والأندونيسين، وإلى جوارهم عرب يرتدون البشت الطويل والعقال الأصيل. كل هؤلاء يتتابعون بعضهم وراء البعض الآخر بين المتاجر المتتابعة خاصة داخل السوبر ماركت وأبنية الأسواق الكبيرة الحديثة المترفة المليئة بكل ما يتمناه المرء من أنواع الكماليات والملابس من جميع جهات العالم. وليست الأسواق والمتاجر هي كل شيء في الخبر، فهناك الطريق الساحلي الفسيح المطل على مياه الخليج والشوارع العريضة الخضراء الممتدة باتجاه الدمام والظهران وتناسق تقاطعات شوارعها القائمة الزوايا.

الظهران.. القلب النابض

وننتقل إلى ثالث الأقطاب الحضارية في مثلث إنتاج البترول.. إلى مدينة الظهران التي يقع فيها المقر الرئيسي لشركة أرامكو والتي لا تبعد عن الخبر بأكثر من عشرة كيلو مترات. المدينة تقع على الجبل المسمى باسمها، وقد ارتبط وجودها باكتشاف النفط فانتشرت فيها وسائل العمران. وقد أنشأت المدينة شركة الزيت أرامكو وشيدتها على الطراز الحديث، وقامت الحكومة بإنشاء إدارة للشرطة مرتبطة إداريا بإمارة الخبر، كما أسس فيها الجامع الكبير على أحدث طراز. ومع التقدم والازدهار وما أنشىء من مشروعات نمت الظهران واتسعت لتصبح مركزاً للتكنولوجيا الحديثة في إنتاج وتسويق النفط.

بمناسبة التكنولوجيا نتجه لزيارة أحد المعالم البارزة في المنطقة، وهو جامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي أنشئت قبل حوالي ثلاثين عاما. الجامعة مثال رائع للتطور والحضارة والعلوم الحديثة، وشهدت منذ إنشائها تطوراً، متزايدًا في أعداد الطلاب الملتحقين بها والمتخرجين فيها، وانعكس هذا التطور في جميع منشآتها ومرافقها، فقد بلغ عدد الطلاب الذين التحقوا بها عندما فتحت أبوابها في سبتمبر 1964 ما لا يزيد على 67 طالبًا، ومنذ ذلك الحين والجامعة آخذة في النمو بشكل متزايد حتى بلغ عدد طلابها الآن حوالي خمسة آلاف طالب. وتضم الجامعة الآن كلية العلوم الهندسية، وكلية الهندسة التطبيقية، وكلية العلوم، وكلية الإدارة الصناعية، وكلية تصاميم البيئة، وكلية الدراسات العليا.

يقول لنا الدكتور علي بن غزم معاضة مدير إدارة تكنولوجيا البترول والغاز: إن هذا النمو الذي حققته الجامعة منذ إنشائها يضاهي إلى حد كبير معدل النمو الذي حققته المملكة في مجالي التنمية الاقتصادية والتقنية، كما يعكس اتساع المجالات والفرص المتاحة للمواطنين في بلد هو على الصعيد العالمي من أكبر وأهم مصادر الطاقة، لهذا فقد اعتمدت الجامعة أهدافاً من شأنها تدريب الطلاب على مستوى عال في المجالات المتعلقة بالعلوم والهندسة والإدارة والعمارة والحاسبات الآلية. الهدف الرئيسي هنا هو توفير الكفاءات المهنية والإدارية اللازمة في مجالات صناعة البترول والمعادن، بالإضافة إلى تطوير الأبحاث التي من شأنها بث المعلومات المتعلقة بهذه المجالات.

ويضيف الدكتور عدنان محمد الجار الله رئيس قسم تكرير البترول والكيماويات: لقد التزمت الجامعة دون تحفظ بأنها جامعة تكنولوجية في بلد إسلامي، فهي تقوم بتعميق وتوسيع مفهوم طلابها للمبادئ الإسلامية، وبأن تغرس في نفوسهم تقدير المنجزات العظيمة التي قدمها أسلافهم إلى العالم في مجالات الرياضة والعلوم، وتشكل المراجع والدوريات العلمية التي شهدناها عصب مكتبة الجامعة المركزية التي تشتمل أيضا على أحدث الكتب في مجالات العلوم والتكنولوجيا بالإضافة إلى مجموعات طيبة من كتب التراث الإسلامي والعربي والعلوم الاجتماعية والإنسانية.

أما معهد البحوث فيتألف من ست إدارات هي تكنولوجيا البترول والغاز، ومصادر الطاقة، والجيولوجيا والمعادن، والمياه والبيئة، والمقاييس والمعايير والمواد، والدراسات الاقتصادية والصناعية. وخلال جولتنا بين أقسام المعهد، قال لنا الدكتور عدنان إن المعهد يعنى أيضاً بشكل بارز بالبحوث التطبيقية غير الأكاديمية التي تهدف إلى حل المشاكل المعقدة التي تقف في طريق التنمية. ويتم تمويل هذه البحوث من ميزانية الجامعة أو بدعم من المؤسسات الحكومية والصناعية.

وقد أعطتنا زيارتنا لمركز معالجة الصور الفضائية صورة رائعة لما يجري في جامعة البترول والمعادن وعلى نطاق التقدم التقني في المملكة، فهذا المركز يهدف إلى استخدام تكنولوجيا الاستشعار من بعد للقيام بأبحاث وتطبيقات علمية مختلفة، ويحتوي المركز على نظام متطور لمعالجة الصور الفضائية مدعما بمعمل تصوير متكامل وخبراء متخصصين في معالجة وتحليل وتفسير بيانات الاستشعار من بعد. كما يحتوي على قاعدة معلومات أساسية تضم صوراً فضائية تغطي المملكة، ويقدم مساعدات لمعالجة وتحليل تلك المعلومات في المجالات العلمية المتعددة، وكذلك الاستشعارات والأبحاث التطبيقية في الجيولوجيا والجيومورفولوجيا والتنقيب عن المعادن ودراسات الرمال وتقويم مصادر المياه وتخطيط المدن والدراسات البيئية والمسح الزراعي والدراسات الساحلية.

الحقيقة أن معهد البحوث يمثل الطليعة المتقدمة للعلوم والتقنية والبحوث التي تسهم في حل العديد من المشكلات من خلال إمكانات وقدرات رائعة تقدم خدماتها لكل من يطلبها من أقطار الوطن العربي.

المطار والجسر

ونمر ونحن في طريق عودتنا بمطار الظهران، ذلك الذي هبطنا فيه فور وصولنا إلى المنطقة الشرقية.المطار جيد الإعداد وهو البوابة الشرقية الجوية للمملكة، كما أنه ملتقى لكثير من الخطوط الجوية التي تمر بالمنطقة. هذا المطار الدولي يخدم حوالي ألفي مسافر في الساعة ويربط الظهران برحلات جوية إلى معظم أنحاء العالم. أما المطار الداخلي فتقوم منه رحلات يومية متعددة إلى كل من الرياض وجدة، ورحلات مباشرة إلى كل من أبها والقصيم وجيزان وحائل والمدينة ونجران وتبوك والطائف.

المواصلات الجوية ليست كل شيء في منطقة الدمام، فبعد تطوير ميناء الملك عبد العزيز وإقامة محطة السكك الحديدية التي تربط المنطقة الشرقية بالرياض، وبعد تنفيذ المجمع التجاري والصناعي في الجبيل، أصبح من الضروري تطوير شبكة حديثة من الطرق البرية لمواكبة هذا التطور ومواجهة النمو المطرد في حركة المرور الثقيلة وحركة السيارات الخاصة.

وقد تم ربط الدمام بطرق سريعة ذات اتجاهين ومتعددة المسارات مع كل من أبو حدرية ورأس تنورة، وقد جرى ذلك وفق أحدث المواصفات والمقاييس التي تحقق كل درجات السلامة والأمان.

ولعل أبرز ما تم تحقيقه في هذا المجال إنشاء جسر السعودية - البحرين، والذي ينطلق من الدمام بطول 35 كم، وهو يربط البحرين باليابسة. وقد حقق الكثير من تدعيم الروابط والعلاقات بينها وبين جميع دول شبه الجزيرة العربية.

قال لنا مرافقنا: الآن إذا كنتم قد تعبتم فهيا بنا إلى فترة من الترويح بممارسة رياضة السباحة على شاطئ نصف القمر، أو على الشواطئ الأخرى المنتشرة على الواجهة البحرية، فإذا كنتم لا ترغبون في السباحة فعليكم بصيد السمك أو ركوب القوارب أو التزحلق على الماء أو الغطس، فإذا لم ترغبوا في هذا أو ذاك فلنعد إلى ارتياد الحدائق العامة الموجودة بكثرة في المدينة، أو لنذهب في رحلة لمسافة ستة كيلو مترات إلى جزيرة تاروت الأثرية التي ترتبط بجسر مع واحة القطيف، حيث ما زال يوجد عدد من المنازل الأثرية الجميلة.

القطيف

مادمنا قد رحلنا إلى القطيف التي تبعد عن مطار الظهران بحوالي 30 كم تقطعها السيارة في نصف ساعة فلنتجول في أنحائها ونطلع على معالمها.

تضم منطقة القطيف مدنا تاريخية قديمة أهمها مدينة القطيف نفسها، وهي قديمة جدًا يعود تاريخها حسبما تبينه الحفريات إلى آخر عهد من عهود العصر النحاسي أي في حدود 3500 سنة قبل الميلاد.

واحة القطيف تتكون من غابة كثيفة من النخيل كانت من قبل متصلة بعضها بالبعض الآخر، ثم أخذت تنفصل نتيجة امتداد العمران في المنطقة وإقبال الأهالي على تقطيع النخيل وإحلال الزراعات الأخرى كالخضراوات محل النخيل، والقطيف في الأصل بلدة صغيرة ولكنها أخذت تتطور وتنمو، وإن كانت لا تزال محتفظة ببعض ملامح طابعها القديم. والقلعة أبرز الملامح القديمة وهي تطل على ساحل الخليج العربي وكان يحيط بها سور قديم لم يبق منه سوى أجزاء متهدمة بينما شقت الطريق الجديدة في قلب القلعة. بين جدران قلعة القطيف يوجد الكثير من الآثار التاريخية من أهمها جامع يرجع تاريخ بنائه إلى القرن الثامن الهجري، ولكن جدرانه تداعت الأن فلم يعد متبقياً سوى بعض الأطلال.

على أن أشهر معالم القطيف التي قمنا بزيارتها كانت البئر التي أراد القرامطة أن يجعلوها بديلاً لماء زمزم وموقعاً للكعبة التي حاولوا اصطناعها بدلا من بيت الله في مكة. وقصبة القرامطة ومحاولاتهم تحتاج إلى أن نستعيد حكايتها مما يرويه التاريخ.

يقول المؤرخ البغدادي إن الذين وضعوا أساس حركة القرامطة التي قامت ضد العباسيين كانوا من أولاد المجوس وكانوا ميالين إلى دين أسلافهم غير مخلصين للإسلام، فخرجوا على أسس الشريعة الإسلامية وأباحوا شرب الخمر وجميع الملذات، وأمر أميرهم ابن أبي زكريا ابن الحسين القرمطي بقطع يد من أطفأ ناراً بيده، وبقطع لسان من أطفأها بنفخة. وانتقلت حركة القرامطة من العراق وتفشت في أنحاء سوريا واستشرت في فارس والبحرين والأحساء، ونفذت إلى قلب الجزيرة العربية. واستطاع أبو سعيد الجنابي القرمطي أن يستولي على هجر (الأحساء) وأعلن استقلاله بالحكم.

وعمل القرامطة على وقف قوافل الحجاج التي تقصد مكة المكرمة لأنهم كانوا يعدون الحج من شعائر الجاهلية وعبادة الأصنام، ولم يكن سليمان ابن سعيد الذي تولى الأمر من بعده ليتورع عن التصدي لهذه القوافل ونهبها ومنع الحجاج من زيارة بيت الله الحرام، وزين له الشيطان أن يجعل من منطقة هجر- الاسم العربي القديم لمنطقة القطيف والأحساء- وارثة لمكة.

وادعى سليمان الجنابي القرمطي أن المهدي المنتظر غزا مكة للمرة الأولى في محرم سنة 312 ه (934 م) وقتل أكثر الحجيج وسبى الحرم الشريف ثم عاد إلى هجر، وكرر القرامطة غزو مكة ثانية بعد ست سنوات وارتكبوا في هذه الغارة ألوانا عجيبة من الحماقة بحق أبناء المدينة المقدسة والحجاج نساء ورجالا. وأعملوا سيف الفتك بكل من تعلقوا بالكعبة معتصمين، وردموا بئر زمزم بجثث القتلى وفرشوا بهذه الجثث مساحة المسجد الحرام، واندفعوا بخيولهم في أبهائه يصولون ويجولون وقائدهم أبو طاهر ينادي في جنده يحثهم على المزيد من القتل "اجهزوا على الكفار وعبدة الأحجار".

إلى جانب هذه الأعمال البربرية، فقد قلعوا باب الكعبة وخلعوا الحجر الأسود من مكانه وحملوه معهم إلى الأحساء. وفي الموقع الذي أرادوا أن يقيموا فيه كعبتهم المزعومة قرب موقع البئر الحالي وضع الحجر الأسود وبقي الحجر الأسود في كعبتهم المزعومة حوالي 22 سنة حتى أخطرهم الخليفة المنصور الفاطمى، وكانوا يأتمرون آنذاك بأمره، برده إلى مكة فأعادوه سراً عام 339 ه. ويقول المؤرخ البغدادي إن سليمان القرمطي قد قتل في هذه النزوة ثلاثة آلاف رجل، وسبى سبعمائة امرأة وخرج بمغانم أكثر من أن تحصى.

شهرة لها تاريخ

ونتجول في أنحاء القطيف الحديثة.

المدينة تسير على طريق التنمية والتخطيط على أحدث طراز. الشوارع تشق وتعبد، والمباني الجديدة تحل محل المباني القديمة. ويجري خط أنابيب مياه الشرب من محطة تكرير مياه البحر في مدينة الخُبر على بعد 40 كم وقد تم تنفيذ مشروع المجاري العامة الذي يشمل القطيف وقراها. وتشرف البلدية على مكافحة الحشرات حيث يتم استئصال بعوض الملاريا.

نحن الآن في يوم الخميس، وذلك هو يوم السوق الأسبوعي الرئيسي. الشوارع تكتظ بالسكان والقادمين من القرى يبيعون ويشترون حيث يتردد على سوق الخميس أكثر من عشرة آلاف بائع ومشتر. ويأتي سكان الريف بالمنتجات الزراعية وأهمها التمور يعرضونها للبيع ويشترون ما يحتاجون إليه من محلات المدينة التي تنتظر هذا اليوم من كل أسبوع بلهفة شديدة.

شهرة القطيف الزراعية لا تقل قدما عن تاريخها المشهور، وقد أقيمت في منطقة القطيف واحدة من أكبر محطات التجارب الزراعية في- المملكة نظراً لأهمية المنطقة الزراعية وجريا على تنفيذ برنامج التوسع الزراعي. وتقع هذه المحطة بين بلدتي سيهات والقطيف وهي مقامة على مساحة تزيد على 100 هكتار (أكثر من 300 فدان).

وكما كانت القطيف تشتهر في الماضي بزراعة العنب، وقد أخذ اسمها من قطف العنب، فقد عادت زراعته تزدهر، كما أمكن إنتاج أنواع جيدة من البنجر لصناعة السكر. أما زراعة الخضراوات والطماطم والفواكه والزهور التي لم تكن معروفة في المنطقة في الماضي فقد ازدهرت تماماً من خلال الحقول التجريبية، وأقبل الأهالي على تطوير زراعاتهم حتى أصبح إنتاج المنطقة من الخضراوات يكفيها ويفيض مما جعل المنطقة تصدر إنتاجها الزراعي إلى المناطق المجاورة وإلى دول الخليج أيضاً. وقد نجحت زراعة الزهور حتى أنها أصبحت مورداً جيداً وهي تدر أرباحاً أكبر من أرباح الزراعات التقليدية.

الأحساء والمنطقة الشرقية

الآن ننطلق إلى الأحساء. منطقة الأحساء تبعد عن شواطئ الخليج العربي بمسافة حوالي 75 كم، وهي من أكبر الواحات في المملكة العربية السعودية. ويحكي التاريخ أنها كانت موطنا لحضارة زراعية واسعة تزدهر بخيرات وفيرة وكثرة في العيون وخصوبة في الأرض. وقد أتاح لها وجودها على مقربة من ساحل الخليج الاتصال مع حضارات البلدان المجاورة مما جعلها حلقة وصل بين هذه الحضارات وقلب الجزيرة العربية. وظلت الأحساء على مر العصور منطقة جذب للطامحين إلى استيطانها لوفرة ما تنعم به من رخاء، وكانت مدينة الأحساء نفسها قد قامت على أنقاض مدينة "هجر" التي لا تبعد إلا قليلاً عن مدينة القطيف، وظل اسمها يطلق على المنطقة الشرقية بكاملها حتى انتقلت قاعدة المنطقة إلى الدمام، وأصبح اسم الأحساء مقصوراً على الواحة نفسها.

من أبرز القبائل التي استوطنت الأحساء قبيلة بني عبدالقيس وهم من أوائل من دخل الإسلام في السنة السابعة للهجرة. وكانت الأحساء وقتها تضم قرية "جواثا " التي أنشئ فيها ثاني مسجد تقام فيه صلاة الجمعة بعد مسجد الرسول. وعلى مر الزمان زحفت الرمال على هذا المسجد ثم أعيد الكشف عن أجزائه المتبقية في السنوات الأخيرة.

الهفوف والمبرز

ندور في المدينة الحديثة لنشهد مدى التطور العمراني الكبير وما يجري تنفيذه من مشاريع الخدمات والحدائق العامة. ومع تنقلنا بين الأحياء الجديدة نجد أن مدينتي الهفوف والمبرز قد التحمتا نتيجة لامتداد العمران على طول المسافة التي كانت تفصل بينهما، كما نشهد عملية التطوير الواسعة للأحياء القديمة في وسط المدينة حيث شقت الشوارع الفسيحة وأقيمت على جانبيها المباني الحديثة. بينما مداخل المدينة قد زينت بالمساحات الخضراء والأشجار الباسقة على الجانبين. وإذ أردنا أن نشاهد كيف يجري التوسع في الخدمات الرئيسية، فقد زرنا مشروع المياه ومجاري شمال وجنوب الأحساء التي تكلفت 540 مليون ريال، بالإضافة إلى مشروع مماثل لبعض الأحياء الأخرى.

ونزور عيون الأحساء الطبيعية المشهورة، وأشهرها عين أم سبعة التي سميت كذلك لأن مياهها تتدفق في سبعة مجار، وعين نجم التي تمتاز بمياهها المعدنية والتي تم تجهيزها بأحواض السباحة والمرافق والخدمات.

ونذهب إلى أحد المعالم البارزة الأخرى، إنه جبل قارة، ذلك الجبل الصخري الذي أحدثت فيه عوامل التعرية شقوقا ومغارات داخلية واسعة، إذا دخلتها فستشعر بالفارق الكبير بين الجو الخارجي وتلك البرودة في الداخل حتى في أشد أيام الصيف حرارة. وننظر حولنا فنجد أن الجبل قد تم تجميله وإنارته من الداخل بطريقة جذابة رائعة.

ومن خلال التقدم العلمي والتقني ندرك كيف استطاع الإنسان مواجهة قوى الطبيعة التي تضافرت على الأحساء ممثلة في عاملين رئيسيين. الرمال المتحركة التي دفنت من قبل ما يقرب من ثلاثة ملايين من الفدادين وأكثر من 50 قرية.

أما العامل الثاني فهو زيادة الملوحة الناتجة عن مياه الآبار الارتوازية وسوء الصرف، مما أدى إلى تقليص المساحة المنزرعة من الواحة القديمة.

هذا الإنسان السعودي لم يقف عاجزاً أمام الطبيعة، فاعتمد على التقنية والعلم والتفكير السليم أسلحة للتحدي، فأنشأ مشروعين رئيسيين لإنقاذ الأحساء الجديدة من الدمار.

وتمثل المشروع الأول في وقف زحف الرمال، أما الثاني فقد تمثل في تنظيم رائع للري والصرف. ولنشهد مدى نجاح هذين المشروعين، نقوم بجولة لا تقل مدتها عن خمس ساعات على طول الطرق الزراعية التي تربط بين أراضي الواحة الزراعية. القرى الجديدة التي شملها العمران الحديث ازدهرت أرضها من جديد مع انتشار أكثر من عشرين مليون شجرة من غابات الآثل والخروع التي أوقفت زحف الرمال وتحول بعضها إلى متنزهات عامة يقضي فيها السكان أوقات فراغهم يتمتعون بالخضرة والمياه والجو الجميل.

إن هذه الغابات الكثيفة استطاعت أن توفر الحماية لبقية المساحة المنزرعة من الواحة، بالإضافة إلى ما حققته الخطوط الدفاعية الأخرى أمام الرمال التي تأتي من الخليج العربي ومن صحراء الربع الخالي. وللعمل على حماية الواحة الخضراء من الرمال الزاحفة، تم تنفيذ مشروع تثبيت الرمال الوافدة من صحراء الحافورة في شمال الأحساء عن طريق غرس أحزمة أخرى متتابعة من الأشجار على امتداد 160 كم، وحفر الآبار لري هذه الأشجار، وبناء الحواجز والمصدات لحماية المنطقة ومزروعاتها، أما مشروع الري والصرف الضخم والذي زادت تكاليفه على 500 مليون ريال، فانه يتوخى تحقيق هدفين رئيسيين. الأول زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، والثاني الاستفادة الكاملة من مياه الري بطرق سليمة، وإيجاد نظام سليم لتصريف المياه الفائضة دون أن تؤثر الملوحة على خصوبة الأرض.

الجبيل.. القلعة الصناعية

لا نستطيع أن نختتم زيارتنا للمنطقة الشرقية دون أن نزور القلعة الصناعية في الجبيل على مسافة حوالي 80 كم شمال مدينة الدمام.

الجبيل، ومعها مدينة ينبع في الغرب، هما أحدث المدن الصناعية في العالم، ويسوَّق إنتاجهما في جميع أنحاء العالم الخارجي.

في مقر الهيئة الملكية بالجبيل يعرض علينا فيلم يستعرض كيف قامت الهيئة وكيف يجري العمل في القلعة الصناعية الكبيرة، كما نتنقل بين نماذج متكاملة من كل ما تضمه المدينة من مصانع وأجهزة، ونستمع إلى فكرة شاملة عن الأهداف الرئيسية للتصنيع في المملكة.

إن أهم الاتجاهات كانت ترمي إلى التطوير الكامل للمنشآت اللازمة لتحويل الجبيل إلى مجمع صناعي كامل مع جميع المرافق الاجتماعية والسكنية. وقد ارتبط كل ذلك بتنفيذ مجموعة رائدة من الصناعات الثقيلة الواسعة النطاق، وكان لابد لمحاكبة هذا التطور الكبير من أن تتولى الهيئة تدريب القوى العاملة الوطنية السعودية في المجالين التقني والإداري لكي تقوم تلك القوى بإدارة وتشغيل الصناعات الجديدة والمنشآت والتجهيزات وجميع المنظمات الاجتماعية.

أما الصناعات الرئيسية التي تمت إقامتها فهي صناعات أساسية بترولية الأسس وكثيفة الطاقة، مع توفير مواقع لإقامة الصناعات الثانوية التي تستمد مواردها الأولية من منتجات الصناعات الأساسية، إلى جانب توفير مواقع أخرى لإقامة صناعات مساندة تزود الصناعات الأساسية والثانوية بالسلع والخدمات ورفع مستوى المعيشة.

خلال جولتنا بسيارة الهيئة الملكية داخل المنطقة الصناعية، يقول لنا مرافقنا: الهدف الأساسي من إنشاء مدينة الجبيل الصناعية، يقوم على مبدأ إنشاء تسعة عشر مصنعا تعمل بطريقة التكثيف الرأسمالي بكلفة 74 بليون ريال، مما يوفر 144 ألف وظيفة جديدة حتى بداية القرن الميلادي المقبل، واستغلال ما يساوي أربعة بلايين دولار من الغاز الطبيعي، الذي كان يعتبر في السابق طاقة مهدورة، وإنتاج الفولاذ والألومنيوم والبلاستيك والأسمدة من خلال المصانع التسعة عشر، مع 136 صناعة ثانوية، ومائة صناعة مساندة. أما الصناعات الأساسية فهي الصناعات الكبرى التي تتطلب تكنولوجيا عالية المستوى، ورءوس أموال ضخمة، واستهلاكا كبيراً للطاقة.

وتتولى هذه الصناعات "الشركة السعودية للصناعات الأساسية" المعروفة باسمها المختصر "سابك " والتي أنشئت عام 1396 ه (1976 م) كشركة تملكها الدولة وتديرها، بهدف تطوير قطاع الصناعات الأساسية.

ومن أهم تلك المشروعات: الشركة السعودية للحديد والصلب (حديد)، والشركة السعودية للميثانول (الرازي)، وشركة الجبيل للأسمدة (سماد)، وشركة الجبيل للبتروكيماويات (كيميا)، والشركة السعودية للبتروكيماويات (صدف)، والشركة الوطنية للميثانول (ابن سينا)، والشركة العربية للبتروكيماويات (بتروكيميا)، والشركة الشرقية للبتروكيماويات (شرق)، والشركة الوطنية للغازات الصناعية (غاز)، والشركة الوطنية للبلاستيك (ابن حيان)، والشركة السعودية الأوربية للبتروكيماويات (ابن زهر)، والشركة الوطنية للأسمدة الكيماوية (ابن البيطار).

الصناعات الثانوية تعتمد على ما تنتجه الصناعات الأساسية، أما الصناعات المساندة فهي الصناعات التي تنتج ما تحتاجه الصناعات الأساسية والثانوية.

ويضطلع القطاع الأهلي بهذه الصناعات حيث أنشأ أربعة وأربعين مصنعا، إضافة إلى ستة وثلاثين مصنعا قيد الإنشاء والتصميم، حيث سيبلغ عدد المصانع مائة مصنع العاملون بالمدينة الصناعية لهم نصيبهم بطبيعة الحال وخاصة بالنسبة لإسكانهم والترفيه عنهم وعن أسرهم.

فالمنطقة السكنية في الجبيل الصناعية تتكون من ثمانية أحياء رئيسية مع ما يلزم من المساحات الخضراء. وقد صممت الأحياء بحيث يتكون كل منها من عدد من الأحياء الصغيرة تسمى كل منها " محلة" وهذه المحلات تنقسم بدورها إلى حارات تستوعب كل حارة منها حوالي 2500 شخص وفي كل حارة مسجد ومدارس ومرافق الخدمات المختلفة. وقد أقيمت المنطقة السكنية على شبه جزيرة تفصلها من ناحية اليابسة عن المنطقة الصناعية مساحات مفتوحة ومشجرة وفيها عدد من محطات الكهرباء ومحطات ضخ للمرف الصحي لمعامل معالجة المياه.

وقد وضعت الناحية الترفيهية في الاعتبار عند تخطيط وتنفيذ المرافق السكنية. فهناك الأندية الرياضية في بعض الأحياء، وهناك أحواض السباحة وملاعب كرة القدم والبيسبول والتنس والإسكواش، كما أن الخضرة تنتشر في جمع الأنحاء، وزرعت أشجار جلبت من جميع أنحاء المملكة، كما جلبت أنول أخرى من النباتات من الخارج.

إن الجبيل في الحقيقة قلعة صناعية تحقق الكثير من أهداف التنمية الاقتصادية، وهي إحدى قلاع القمة في المملكة العربية السعودية.

بالأرقام

* البترول المستخرج من المنطقة الشرقية يشكل 9 % من إنتاج العالم و 28 % من إنتاج دول الشرق الأوسط .

* الاحتياطي في باطن الأرض 20 % من الاحتياطي العالمي و 36 % من احتياطي المنطقة العربية ويبلغ 169 بليون برميل .

* عوائد تصدير البترول تشكل 70 % من إيرادات المملكة .

* البئر الواحد تنتج في المتوسط 4500 برميل يوميا .

* يبلغ احتياطي الغاز 126 تربليون قدم مكعب .

* حقل السفاتية أكبر حقل مغمور في العالم طوله 60 كم وعرضه 18 كم .

* بالمنطقة 4 مصاف للتكرير طاقتها الإنتاجية 780 ألف برميل يوميا ، هي مصافي رأس تنورة ورأس الخفجي وجيتي والجبيل .

* أشهر الحقول : بري طوله 40 كم وعرضه 20 كم - الحرملية 37 كم و 11 كم - خريص 88 كم و 17 كم - المنيفة 45 كم و18 كم - المرجان في الخليج 30 كم و 20 كم - القطيف 50 كم و 10 كم - الظلوف 30 كم و 15 كم - الخفجي مساحته 196 كم2 - الوفرة مساحته 124 كم2 - جنوب أم قدير مساحته 40 كم2 .