بطرسبرج من ميراث المجد إلى أحلام الثراء أنور الياسين

بطرسبرج..

" المدينة المتحف"، "جوهرة شاطئ البلطيق"، " فينسيا الشمال". صفات عديدة لمدينة واحدة، غيرت اسمها ثم عادت إليه، لكنها في كل الحالات لم تغير طابعها، ولم يزل عبق التاريخ يتضوع من أحجار جسورها، ومبانيها، وضوء الفوانيس القديمة وذهب القباب، والتماثيل، والحدائق.

في صفحات روائع الأدب الروسي زرناها، حضرنا حفلاتها الصاخبة، ومشينا في أزقتها المنارة بفوانيس الزيت، وفي شوارعها ومقاهيها التقينا بالأميرات ورجال الطبقة الأرستقراطية والمثقفين. عشنا حلما وزمنا.

ولأنها كانت العاصمة التجارية والدبلوماسية، وعاصمة الثقافة والمال، فقد كانت حياتها المادة الرئيسية في كتابات الأدباء الروس، جانب كبير من رائعة تولستوي " الحرب والسلام " دار في سان بطرسبرج، وفي الجزء الأول من هذا السفر العظيم كانت البداية مع حفلات المدينة وبين أميراتها وجنرالاتها، أما تحفة دستويفسكي "المراهقة " فهي تقدم تشريحاً كاملاً للمدينة وعرضاً بالغ الدقة لمجتمعها، تحللها وبدايات انهيارها.هكذا تجاوزت الرواية مجرد كونها قصة صبي عشق أميرة تكبره، إلى نموذج مذهل في الكتابة يدل على عبقرية كاتب أنجبته المدينة وعاد إليها ليصحبنا هائمين بين جنباتها.

مدينة سكنت أشعار بوشكين وليرمنتوف، ومنحت ألحان تشايكوفسكي قوتها وبهاءها.

مدينة تعرضت للحريق والحصار والقصف والجوع والفوضى، لكنها كانت تنهض دائماً وتصارع من أجل الحياة.

فهل يمكن مقاومة جاذبية مدينة هذا شأنها؟

مدن تزدهر مع الحياة

التطور الاجتماعي للمدن والحضارات عبر التاريخ يقول لنا إنه مع ازدهار الحياة ورواج التجارة تزدهر مدن، ليس شرطا أن تكون عواصم وحواضر، وحتى على مستوى المدن تزدهر أحياء وشوارع بعينها مع ازدهار الحياة. حدث ذلك في فلورنسا والبندقية في عصر النهضة، والقاهرة ودمشق، وبرلين وفيينا وسالزبورج والكوفة ولاهور، وعديد من المدن عبر التاريخ كله، ويرى علماء الاجتماع أن الطبقات والشرائح التي تتجمع حول الطبقة الحاكمة والتي تدير سوق التجارة والمال سرعان ما تنتخب لنفسها مدينة حينا تكون بجوار السلطة الحاكمة، أو في مدينة أخرى تكون هذه المدينة بمثابة عاصمة مزدهرة حدث ذلك في تاريخنا العربي القديم والحديث، كانت البصرة عاصمة مزدهرة عندما كانت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، وكانت الإسكندرية عاصمة مزدهرة عندما كانت القاهرة عاصمة رسمية، وكانت بها بورصة مالية ذات تأثير، وبها سوق القطن الرئيسي.

أحد الأسرار في وضع هذه المدن التي تزدهر مع الحياة، وعبر التاريخ، كان في كثرة تنقل الحاكم بين المدينتين: العاصمة السياسية والعاصمة المزدهرة. وعلى هذا النحو كانت بطرسبرج التي توجهنا إليها وهي تستعيد اسمها القديم، مؤذنة بانتهاء عصر وبداية عصر.

من الأطراف إلى القلب

في الطريق من مطار " بولكوف " إلى قلب المدينة، لن تمنحك الأرض الروسية سرها، ستحس رغم ترامي الأرض وانفجار الخضرة بأنك لم تمسك بشيء بعد. غابات الصنوبر والبتولا تنتصب راسخة في صمت وبين الغابات فضاءات فسيحة ومعالم غامضة لمصانع ورادارات وأبراج، ظلال خفيفة لدولة كانت عظمى، وربما لم تزل، كقوة تمتلك آلاف الرءوس النووية المخيفة.

وما أن تبدأ في الإيغال في المدينة، قادما من الأطراف حتى تحس أنك تغوص بشكل متسارع تاركا خلفك الكثير من الأبنية النمطية المعاصرة، البلوكات السكنية الضخمة، وتدخل في التاريخ. وفي شارع "نيفسكي "، أي طريق نهر " النيفا" ستحس دفعة واحدة بأنك في بطرسبرج. مدينة بطرس الأول وبوشكين وليرمنتوف وجوجول وتورجنيف و وستويفسكي وتشايكوفسكي.

سترى شارع نيفسكي القديم، الجديد حتى نهايته. وسيعا وعتيقا وعريقا، وتلوح لك في وسطه قبة "بيت الكتب" الشهيرة، وبوابة كاتدرائية كازان "كازانسكي سابور" سيدهشك قدم الترام ذي الطلاء الأحمر والأصفر واعتوارات الأسفلت والحفر، وسيلفتك هذا إلى غلبة البناطيل الجينز والأزياء المستوردة بين الشباب جنبا إلى جنب مع ملابس كبار السن المتواضعة إلى حد البؤس.

وأمام محطة القطار سترى باصات السياحة، وقرب أبوابها المفتوحة سترى الأدلاء السياحيين يعرضون عبر مكبرات صوت صغيرة برامج جولات سياحية بالمدينة. فرغم كل الارتباكات والتغيرات والتوجس. لم تنس بطرسبرج نفسها "كمدينة متحف"، لكنه ليس متحفاً مقصوراً على عمارة وفنون وجنون القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بل هو متحف مدينة زلزالي القرن العشرين. هي المدينة التي افتتحت القرن العشرين بزلزال الثورة البولشفية، وهي المدينة التي ساهمت بهزة كبرى في زلزال انهيار النظام الذي قدمته هذه الثورة.

على الأقدام نمضي في شارع "نيفسكي" باتجاه النهر حتى نجد أنفسنا واقفين على أول الجسور "جسر الشعب"، تسمية توحي بأن من أطلقها هم قادة النظام القديم الذي أنهار لتوه، لكننا نسأل مرافقنا فنعرف أن الجسر المشيدة قوائمه وضفاف قناته من الجرانيت الوردي، تم بناؤه في منتصف القرن الثامن عشر، والأرجح أن التسمية أقرب عهدا من الأصل.

عودة إلى الجغرافيا.. والتاريخ

ينتهي نهر " النيفا " العريض الفوار إلى الخليج الفنلندي من بحر البلطيق، وفي طريقه نحو البحر يصنع النهر " دلتا " من جزر متفرقة تسبح في مستنقعات تسودها رطوبة خانقة في الصيف ويستولي عليها الصقيع والجليد في الشتاء.

من هدا الموضع العسير بدأ حلم بطرس الأكبر، أكثر القياصرة الروس طموحا إلى الانفتاح على أوربا. كان قد فشل في تحديث العاصمة موسكو عبر محاولات استمرت عشر سنوات. وببصيرة نافذة لحاكم فنان، مهندس، وابن بار لثقافة أوربا التي تعلم في إحدى حواضرها آنذاك- العاصمة الهولندية- رأى بطرس الحلم قابلاً للتحقيق على ضفاف نهر "النيفا "، ورأى جزر المستنقعات تتحول إلى فينسيا للشمال.

ولقد بدأ الحلم رحلة تحققه بالمرح.

نعم، ففي 16 مايو عام 1703، وعلى جزء من جزر دلتا " النيفا " شيد جسر " مويست لوست إيلاند" وتعني بالهولندية: أكثر الجزر مرحا. وفي نهاية عام 1704 شيدت قلعة مبنية بالصخور يؤدي إليها هذا الجسر، سميت قلعة المقدس بطرس، ووسط القلعة شيدت كاتدرائية " بتروبافلوفسكي "، وبالقرب من الكاتدرائية أقيم معسكر للجيش الروسي، وفي ضاحية المعسكر كان هناك مقر لإقامة القيصر.

هكذا زرعت الفكرة في دلتا" النيفا "، وجاء زوار بطرس الأول فاستحسنوا الفكرة، فراحت تتمدد وتزدهر وتتجه نحو الضفاف، إذ قرر بطرس الأول أن يحول ضفاف " النيفا " إلى ميناء تجاري مهم على بحر البلطيق ومنفذ شمالي للدولة يطل على أوربا كنافذة لعبور الأفكار الغربية إلى الإمبراطورية الروسية المنعزلة. ووظف القيصر لذلك معماريين إيطاليين لتصميم العاصمة الأوربية الجديدة على نمط الطرق المتداخلة التي تطل على منازل وحدائق وقصور فخمة وراسخة. وفي هذا السياق أنشأ بطرس الأول مقراً للحكومة وقصرين أحدهما للصيف والآخر للشتاء، أما قصر الصيف فما زال باقياً في مكانه وتحيط به الحديقة الصيفية الشاسعة الشهيرة، أما قصر الشتاء فقد شيد عام 1730 ليلتهمه بعد سنوات قلائل حريق ضخم أتى على جزء كبير من أبنية الضفة اليسرى، لكن حياً جديداً ما لبث أن طلع من رماد الحريق، بعد أربعة أعوام، وكان تشييده على طراز " الباروك "، وفي صدر الحي شيد قصر شتاء جديد أفخم وأضخم.

ولم تكف المدينة عن التمطي والانشراح على ضفاف " النيفا"، فما انقضى عام 1810 حتى بدأ تشييد الآرميتاج الكبير والآرميتاج الصغير ومسرح الآرميتاج وكاتدرائية كازان ذات البوابات والأعمدة الراسخة حتى أيامنا هذه.

ظلت المدينة تحمل اسم سان بطرسبرج أو بطرسبرج حتى تغيرت مع تغير النظام وزوال القيصرية فحملت اسم " ليننجراد " أي مدينة لينين نسبة إلى الرجل الذي عبر إليها بحر البلطيق آتيا من المنفى، لينفي نظاماً ويقيم نظاماً ما لبث حتى انقضى هو الآخر مع تصدع الإمبراطورية السوفييتية وانهيار النظام الشيوعي، ولم ينقض عقد التسعينيات حتى عادت المدينة إلى اسمها الأول بطرسبرج.

بطرسبرج التي صعدت من المستنقعات وارتفعت فوق رماد الحريق وجربت زلزال عشرة أيام هزت العالم عام 1917 لم تكف عن التزلزل.

سقطت عليها مائة ألف قنبلة من قنابل النازي دكت سبعة آلاف بناء من أبنيتها، ولم تستسلم، صمدت للحصار تسعمائة يوم فقدت خلالها أكثر من ستمائة ألف إنسان قضوا من شدة الجوع. وعادت المدينة ترمم نفسها وتواصل الحياة وتزدهر.

وأخيراً يعود إليها زلزال جديد بلا قذائف ولا حرائق ولا حروب، وهو: انهيار نظام عاش أكثر من سبعين عاماً، فماذا تفعل بطرسبرج؟

البحث عن طريق

نهار الشمال الطويل يدفع الناس إلى الشوارع بدلا من العودة إلى البيوت بعد الظهر، خاصة مع جو دافئ على غير العادة، يملأ المشاة الأرصفة ويتدفقون من نقاط العبور في كتل بشرية مسرعة. يبدو الطريق الرئيسي في المدينة " نيفسكي بروسبكت " معرضاً حاشداً لمختلف الصور، الطوابير التي لا تنقطع أمام بائعي الجيلاتي على الأرصفة، والمحبين الجالسين على أفاريز واجهات المحال ومداخل الجسور. وعند المنعطفات تتكاثف تجمعات بشرية في حالة نقاش محتدم.

إن التوقف أمام هذه الحلقات وتأملها يشي بالصراع الذي تخوضه المدينة بين ماضيها القريب وتطلعها إلى أفق غامض، فأمام حائط مغطى بالإعلانات والعرائض السياسية تعلو أصوات المتحاورين يوشك الجدل أن يتحول إلى تماسك بالأيدي، فالنقاش يدور حول نقل جسد فلاديمير لينين من مدفنه في الميدان الأحمر بموسكو، والخوف من دفنه بمقبرة محلية بالمدينة التي كانت حتى عهد قريب جداً تتسمى باسمه. يحاول أحد المسنين غاضباً إزالة عريضة مكتوبة بخط اليد ملصقة على الحائط مع رسم للينين بقرني شيطان، وتقول: علينا أن ننقذ مدينتنا من جثة لينين، إن جثة لينين هي جثة الشيطان، ويمنع الشبان الصغار العجوز المهتاج عن إزالة العريضة، فيما يستمر الأخير في هياجه متهما الصغار بالحمق وهم يدمغونه بالتهمة نفسها. وعلى القرب يدور نقاش أهدأ كثيراً يترجم لنا مرافقنا محتواه، ولا خلاف بين المتناقشين- رغم علو صوتهم - على ضرورة التخلص من آثار الشيوعية، لكن. المتكلمين يعكسون قلقاً على المستقبل ونوعاً من انعدام الثقة فيمن يقودون التغيير.

إن المدينة المشهورة بأنها مهد الثورة البولشفية عام 1917، وبعد أن عرفت لمدة 67 عاما باسم ليننجراد، تعود باسمها التاريخي سان بطرسبرج. إن تغيير الاسم في حد ذاته هو علامة رمزية. وتماثيل لينين لا تزال موجودة في جميع أنحاء المدينة، في المتنزهات العامة ومحطات القطارات. مجلس المدينة المثقل بالمشاكل الاقتصادية قرر عدم إنفاق أي مال على تغيير أسماء الشوارع أو علاماتها، ولكن التغير وإعادة البناء يعكسان انتقالا أعمق من ذلك مما يجعل المتفائلين يقولون إن ذلك قد أثر على الخمسة ملايين مواطن في المدينة " على السطح لم يتغير شيء في حياتنا" كما يقول سائق تاكسي، ولكن الناس في هذه المدينة قد تغيروا. التغيير في أرواحنا، إننا أخيراً، نشعر بأننا أحرار. ولكن سائق تاكسي آخر يبدي شكوكه في كل شيء وهو يردد: "التحطيم بسرعة ثم الندم هما قدر روسيا. إن كل شيء يدعو إلى اليأس".

ولكن العظمة المعمارية لسان بطرسبرج وحدها لن تساعد في تخطي العقبات الشديدة عند محاولة إصلاح اقتصاد المدينة. إن المسئولين يعملون في خطة لخلق "خط اقتصادي حر" حول سان بطرسبرج، وذلك بأمل أن تجذب الضرائب والرسوم الجمركية المخفضة الشركات والبنوك الأجنبية، ولكن أحد كبار الاقتصاديين في بطرسبرج يعترف بأن الفكرة قابلة للفشل إذا لم يتقدم الاقتصاد ككل. وهو يضيف "حتى إذا أحببنا أن نخلق الرأسمالية في مدينة روسية واحدة فإن ذلك من المستحيل. إننا نتعامل بالروبل نفسه وبالنظام الاقتصادي نفسه".

وستكون سان بطرسبرج أرض اختبار لتحويل المصانع السوفييتية من الإنتاج الحربي إلى الإنتاج المدني، حيث إن 70% من مصانع المدينة تعمل في الطلبات العسكرية، وبالرغم من أن البعض ينتقد أن تضيع الصناعة العسكرية، إلا أن الرد على ذلك هو في وفرة المؤسسات التي تنتج الأجهزة التكنولوجية المعقدة مثل الأقمار الصناعية وأجهزة الاتصالات التي تعطي الفرصة للمدينة لأن تجتذب رءوس أموال أجنبية، ولكن الشركات الغربية قد تتردد قبل أن تستثمر في دولة غير مستقرة مثل روسيا.

بين التفاؤل والتشاؤم

وهناك من يتوقع أنه إذا سارت الأمور على ما يرام كما هو مخطط لها بالنسبة للإصلاح الاقتصادي، فإن مستوى معيشة الفرد سيرتفع مع نهاية عام 1992، وهناك من يتملكه التشاؤم. والسؤال هو هل يستطيع أهل سان بطرسبرج الانتظار حتى ذلك الحين؟ يعتقد ليونيد كيسلمان- باحث علم اجتماع متخصص في استبيان الرأي العام- أن الناس ستصبر. ويقول "لقد عانى أهل هذه المدينة لفترات طويلة بدون أمل. والآن لديهم شيء حقيقي يأملون فيه". وإذا صح تقدير كيسلمان فإنه لن يمر وقت طويل قبل أن تصبح مدينة بطرس الأكبر قادرة على استعادة مكانتها بين المدن العظيمة في أوربا.

نادزادا دروجانوف إحدى أشهر الشخصيات الشابة من سكان المدينة لدى السياح والصحافة الغربية التي كتبت عنها كثيرا كفتاة روسية في طريقها لتصبح مليونيرة رأسمالية، ففي أبريل قامت مع بعض أصدقائها من مسرح عرائس بتجميع مبلغ من المال وشراء محل لعب أطفال مملوك للمدينة أعلن إفلاسه بسبب نقص إمدادات الدولة. وقامت نادزادا وأصدقاؤها بعمل تصميماتهم الخاصة للعرائس ذات النوعية الجيدة، وبخيالهم الخاص مثل الحيوان ذي عيني الضفدع وقرون الاستشعار مكان الأذن وذيل الأرنب، وكانت دعايتها الوحيدة هي النوعية العالية التي لا تقاوم للألعاب التي تنتجها. وقد ارتفعت قيمة المبيعات بما يعادل 36 ألف دولار في مايو إلى 300 ألف دولار في سبتمبر، والمدينة نفسها قد حصلت على نحو 5 ملايين دولار نظير بيع 160 محلا، مثل الذي اشترته نادزادا ومن المتوقع أن تحصل على ملايين أخرى من الضرائب التي ستجمعها مع زيادة أرباحهم، وتقول نادزادا " أريد أن أشتري محلين آخرين".

كل ثلاثاء وخميس يتجمع نحو 100 من السماسرة الشباب، عادة يرتدون الجينز والجاكيتات الجلد، يتجمعون فيما كان سابقاً قاعة معرض ليضاربوا على أسهم أو عقود بضاعة في بورصة سان بطرسبرج. منذ عام 1986 ظل رئيس البورصة إيجور لكيونشيكوف يحاول فتح سوق البورصة، ولكنه لم يستطع إلا في عام 1990، عندما أعطاه سوبتشاك التصريح بنفسه. إنها ليست أكبر بورصة في الاتحاد السوفييتي وليست الأولى، ولكنها- مثل أي شيء في سان بطرسبرج- أكثرها إبداعاً، فهي الأولى التي تدعو للمضاربة على قروض البنوك الخاصة. والمشاكل كثيرة، فالسماسرة قد تعلموا أصول المهنة من الكتب المكتوبة باللغة الروسية والموجودة في المكتبات المحلية ويرجع تاريخها إلى ما قبل 1917. الشركات الروسية لا تنشر أرقام أكثر من عامين، هذا إن فعلت. وعلى الرغم من ذلك فإن البورصة قد حققت نجاحاً هائلاً خلال العام الماضي. فقد ارتفع سعر مقعد في التبادل إلى ثلاثة أضعاف من 72 ألف دولار إلى 225 ألف دولار.

يوري لفوف يدير بنك لين، أكبر البنوك الخاصة في المدينة والتي يبلغ عددها عشرين بنكا. منذ عام 1989 تضاعف رأس المال المجمع من المؤسسات المحلية، وتضاعف مرة أخرى خلال هذا العام ليصل إلى 180 مليون دولار، والبنك يسير وفق برنامج محدد للتنمية مدته خمس سنوات، وذلك للارتقاء بالموظفين والمعدات لتساير التقدم الغربي، وذلك بمساعدة بيت خبرة " بن كول " من بوسطن، وبالاتفاق مع بنك نوروست في مينيا بوليس. وقد جاءت النقلة الكبرى للبنك حين حصل سوبتشاك من حكومة يلتسين على تصريح للبنك بأن يتعامل مباشرة بالعملات الأجنبية، مما يبعده عن سيطرة البنوك المملوكة للدولة على تلك المنطقة الحيوية. " نحن ندين بكل شيء إلى سوبتشاك " كما صرح لفوف. سوف يمول بنك لين الصناعات الخاصة بدءاً من المحلات الصغيرة إلى الوحدات الضخمة، وأيضاً يخطط لوضع رأس المال الأساسي للصناعات التكنولوجية العالية والتي ستشابه " وادي السيليكون ".

وكنقيض للصور السابقة والتي لا يستطيع الكثيرون تحقيقها تبرز صور أخرى تهدد بفوضى اجتماعية وأرق سياسي كبير.

فمع ضعف قدرة المدينة على الإبقاء على إمدادات الطعام والمحافظة على القانون والنظام والخدمات الأساسية، فإن الناس تتزايد قدرتهم على أخذ الأشياء بأيديهم، فإيجور، 22 سنة من يومانسك مثال على ذلك، فهو ليس لديه تصريح إقامة في سان بطرسبرج، ولكنه يقيم في مبنى شقق خال للتجديدات، المبنى ليس به تدفئة أو مياه ولكن به كهرباء. إيجور يقول إنه يساعد في تنظيم الطعام والأعمال الغريبة لنحو سبعين من الراشدين و30 طفلاً ممن يقيمون ويحتلون هذا المبنى. يقول إيجور "أنا رئيس هذا المبنى، يمكن أن تسميني العمدة، هاجم البوليس المبنى بحثاً عن المخدرات، وعندما لم يجد أيا منها تركنا وترك المبنى ". الأطفال هناك هاربون من الملاجىء، وأخذهم محتلو المبنى للإقامة معهم. إن المقيمين بغير تصريح مخالفة للقانون يساعد بعضهم البعض الآخر. الذين استطاعوا إيجاد عمل يشاركون الآخرين في طعامهم. يقول إيجور " إن الشيوعية الوحيدة في هذه الدولة تجدها في مبنانا هذا".

إن التسكع واحتلال الأملاك ليس بالشيء الجديد، ولكنه الآن اصبح أسهل وأكثر. يقول أحد موسيقي الشوارع: "كنا في الماضي نرشو البوليس ليجعلنا نفيم، ولكننا الآن لسنا بحاجة إلى ذلك، في الماضي كان المتسكعون يحتلون شققاً منفردة، ولكنهم الآن يسيطرون على مبان كاملة. الفنانان فيكتور وماردينا جريبوف يعتبران من المحتلين المحظوظين من النسل الجديد في مبنى إيجور. إن لديهما أعمالهما وشقتهما الخاصة ولكنهما قاما بتنظيف الدور الأخير في مبنى إيجور وجعلاه مرسمهما الخاص. والآن يودان أن يشتريا المبنى من إيجور ويحولاه إلى مركز فني للأطفال غير القادرين مثل الأيتام، ولكن المدينة ترفض، حيث تفضل أن تبيع المبنى لشركة أجنبية مقابل عملة صعبة، يقول فيكتور "إن المدينة تهتم بالمال أكئر من اهتمامها بالأطفال أو الفن".

مثل هذا النقد ليس عدلا، ففي المدينة لا يوجد هذا الفرق بين الأسود والأبيض، فسان بطرسبرج تبقى مدينة الرماديات، حيث يتعايش الخير والشر في كل المجالات، حتى في الفن. يقول يوري ألسكندروف مدير أوبرا باليه كيروف: "لا تستطيع أن تقود الثقافة، إن المدينة عليها أن تتخذ قرارات مالية صعبة فستزيد خطين جديدين للأتوبيس قبل أن تبني مسرحاً جديداً، ويقول أيضا: "إنه منذ عهد جورباتشوف أصبحت لدينا حرية فنية أكبر، ولكن مازلنا محاصرين بالإمكانات الضيقة. إن السباك يتقاضى ثلاثة أضعاف أجر الموسيقي، فإذا لم نستطع تصحيح الأوضاع فإن أغلب فنانينا المتميزين سيهاجرون ".

السياحة

يقول أحد المسئولين المحليين: " لن تغتني هذه المدينة إذا لم تتدارك صناعة السياحة فيها. الأرقام الرسمية تبين أن عدد الزائرين الأجانب تناقص من مليون و 74 ألفا في عام 1989 إلى 447 ألفا العام الماضي، ويرجع ذلك أساسا إلى التغييرات التي حدثت في أوربا الشرقية ثم في الاتحاد السوفييتي وتفككه مما جعلها مصدر جذب سياحي أكبر، وأيضاً بسبب المنظر الملطخ للمدينة، فلم تعد قنوات المدينة تلمع مثل تلك التي في فينيسيا، ولم تعد قصور القياصرة على المستوى نفسه لقصور فرساي. حتى الآن كل ما استطاع مجلس المدينة عمله هو رصد خمسة ملايين دولار لتصليح البلكونات والأبواب والأسوار، ولكن لزيادة معدلات السياحة بصورة ملحوظة فإن مئات الملاين مطلوبة لتجديد المتاحف والقصور والثروات المعمارية الأخرى.

ورغم الحديث المتشائم للمسئول المحلي، فإن ما يتبقى للسياحة في بطرسبرج كثير، يبهر ويسحر ويمتع، فالرحلة في زورق نهري عبر قنوات المدينة تذكرنا بفينيسيا، لكن فينيسيا الشمال هذه، بطرسبرج، تلوح راسخة الجمال. فالقنوات المبطنة جنباتها بالجرانيت المصقول والجسور المشيدة قواعدها من الجرانيت أو الفولاذ توحي بالثبات. والعمارة القريرة على جوانب القنوات متشابهة في رسوخها، ومختلفة في الوقت نفسه وهي في معظمها تنتمي إلى طراز الباروك الباذخ في زخارفه المؤطرة للنوافذ والأبواب والشرفات.

تحدثنا المرشدة السياحية الشابة التي تواجهنا في مقدمة الزورق ذي الجوانب الزجاجية الكاشفة عن الجسور، فنكتشف أن لكل جسر روحاً وتاريخاً لا يشبه أحدها الآخر، رغم أن المدينة تحتوي على ثلاثمائة جسر تربط بين مائة وعشر من الجزر التي تتكون منها المدينة.

فهذا جسر " جريبويروف " أقدم الجسور الحجرية بالمدينة، أقيم عام 1766 من الجرانيت على ضفاف قنال ايكاتربنا، وتم تمديده ليصل إلى كاتدرائية كازان الشهيرة.

وهذا هو جسر بداية المدينة، الجسر الحديدي الذي أقيم في مكان أقدم الجسور عندما نشأت بطرسبرج.

وهذا جسر الجامعة والقصر المشيد عام 1741 ليربط بين قصر الشتاء ونواة الجامعة.

الآرميتاج

ومن كنوز العمارة إلى كنوز تحفظها العمارة في بطرسبرج.

في أحد متاحف الدنيا الكبرى، متحف الآرميتاج، ندخل فتحتار العين هل تتأمل محتويات المتحف أم المتحف نفسه. مقتنيات فنية ثمينة من لوحات أشهر فناني الدنيا، وحتى قطع الآثار النادرة في قسم المصريات، وإضافة إلى ذلك تظل تتألق كنوز روسيا من بورسلين ليننجراد الإمبراطوري والمنحوتات الذهبية وأبليكات الزمرد والأوباليت وثريات الذهب والكريستال النادر.

ندرك أن الآرميتاج مدينة فن يلزمها التمهل وطول المكث، فنكتفي مسحورين بما خطف البصر من ألوان وبوارق. ونخرج إلى ضفة " النيفا" التي يطل عليها الآرميتاج، نتنفس أمام اللوحة الفسيحة للنهر العفي، ونتطلع إلى سفن النهر الكبيرة التي تطير على وسائد هوائية فوق الماء، فتنادينا لمحة ساحرة بعيدة من أقاصي المدينة المتحف.

ولا تكتمل الزيارة بدونها

من يذهب إلى بطرسبرج ولايزور " بترودفيرتس " يرتكب خطأ جسيماً، هذا ما أخبرنا به مرافقنا، وحتى لا نرتكب هذا الخطأ ركبنا صاروخا يحملنا إلى " بترودفيرتس " وهو في واقع الأمر ليس صاروخا، ولكنهم هكذا يسمونه "راكيتا" أي الصاروخ، وما ذلك إلا سفينة نهرية سريعة تنطلق فوق الماء، خفيفة، تحملها وسائد هوائية، ولفرط سرعتها تبدو وكأنها تطير.

ركبنا الصاروخ الذي طار بنا فوق المياه من نهر "النيفا" الى بحر البلطيق، وأحاطت بنا المياه بعض الوقت حتى ظهر في الأفق شاطئ تغطيه البساتين وتبرز من بين أشجاره أبنية " بترودفيرتس " أي قصور بطرس، وعلى جسر مخصص لمثل سفينتنا السريعة حط بنا الرحال وترجلنا إلى تحفة البساتين والنوافير الشهيرة، وكان لابد أن نمزج بين صوت التاريخ وما تراه عيوننا.

"بترودفيرتس " عبارة عن مجمع لقصور غارقة في البساتين والحدائق " مساحة قدرها ألف وخمسمائة هكتار من الزهور والخضرة والذهب والمرمر والرخام والجرانيت والمياه.

نموذج للارتباط العضوي بين العمارة والبيئة والفن حققه بطرس الأولى الحاكم والفنان على شاطئ الخليج الفنلندي لبحر البلطيق، يبعد عدة كيلو مترات عن بطرسبرج المدينة، وهو بمثابة مقر إقامة صيفي للقيصر بدأت إقامته في أوائل القرن 19 على شرف شواطئ بحر البلطيق 1700 - 1721.

مجمع من القصور تتقدمه حديقة أمامية ذات نسق هندي، وتردفه حديقة خلفية تغطي منحدرات شاطئ الخليج حتى حافة المياه، وتأخذ شكل حدائق المناظر الطبيعية، وتتوزع بين جنباتها المثقلة بالأشجار والزهور والخضرة مائة وسبع وأربعون نافورة وتمثالا من الذهب والمرمر يعود تاريخها إلى طرز القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ومن الغريب المدهش أن هذه النوافير التي يندفع ماؤها حتى ارتفاع واحد وعشرين متراً، كما في نافورة المركز الذهبية، لا يخدمها أي محرك ميكانيكي ولا وسيلة ميكانيكية لضغط المياه. فالمياه التي تأتي مباشرة من البحر تأتي مندفعة بفعل ميل محسوب في قناة بديعة تحوطها الفسقيات لتملأ ثمانية عشر خزاناً تمتد مسافة عشرين كيلو متراً تخزن قرابة المليون ونصف المليون متر معكب من المياه وعبر تدرج الخزانان تندفع المياه وترتفع عبر فتحات النوافير.

نوافير رائعة الجمال بذهبها ونحتها وأشكالها الثرية والمتباينة، ولقد صمم فكرتها القيصر الفنان بطرس الذي كان مرحاً ولعوباً، حتى أن هناك نوافير تمثل مصايد للمرح كان القيصر يوقع بها زواره ليضحك وليضحكوا. فهناك نافورة باسم المظلة الصينية ما أن يدخل تحتها الضيف ويجلس حتى تتدفق من حوافها المياه ويحبس الجالس إلى حين، وشجرة ما أن يمر بجوارها عابر حتى تغرقه برشاشهان وأرض يفرشها الحصى ما أن تضغط على بعضه قدم حتى ينطلق الماء عالياً ليغمر العابر.

مصايد للمرح عجيبة، وعجائب أخرى مثل نافورة البطات الأربع التي يطاردها كلب صغير، ومن دوران المياه - بدون تدخل ميكانيكي - وخروج الرشاش من مناقير البطات وفم الكلب ينتج صوت صياح البط ونباح الكلب.

وعبر جولة في الحدائق االخلفية وبين نوافيرها نلمح تمثالاً برونزيا لبطرس الأول منشئ هذا الجمال كله. شخص قصير القامة بادي المرح، عبقري لا يملك كل منصف إزاءه إلا الاحترام. ولعل ذلك يفسر شدة اندفاع سكان المدينة لإعادة اسمها المنسوب إليه.

يقال إن قصور بطرس هذه ولدت من زبد البحر عندما ناداها للحياة ملك البحرن ونكاد نصدق ذلك ونحن نمضي مبتعدين، نطل على مهرجان النوافير العامرة باندفاعات المياه، وكأن البحر يسكنها، فاندفاعاتها مازالت تنبض بإيقاع البحر وكأنها صدى أمواجه.