جمال العربية

جمال العربية

"البلبل"
لشاعر اليمن محمد محمود الزبيري

لا يختلف اثنان في اليمن على أن الزبيري هو صوت اليمن الشعري إلى الوطن العربي والعالم بأسره، وعلى أن حياته وشعره قد انصهرا في بوتقة نضال اليمن من أجل حريته وتحرره ووحدته، صحفيا وزعيما ووطنيا ووزيرا وروائيا ومهاجرا وكاتبا وشهيدا.

وفي المقدمة الضافية التي صاغها الشاعر والناقد اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح لديوان الزبيري نجد صورة لهذه الحياة الشعرية المفعمة بالصدق والتجرد والبطولة، وتحليلا للزمان والمكان باعتبارهما عنصرا طاغي التأثير على حياة الزبيري وشعره.

يقول المقالح: "ولد الزبيري في صنعاء عام 1328 هـ من أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، يشتغل بعض أفرادها بالقضاء والبعض الآخر بالتجارة، ونشأ شاعرنا - منذ طفولته الباكرة - نشأة روحية متصوفة، جعلته غير ميال إلى القضاء وغير مهتم بالتجارة رغم شظف العيش الذي عانى منه، فالقضاء لا يشبع رغبته وطموحه إلى اكتشاف سر الحياة وما وراء العالم المباشر، أما التجارة فكانت أبعد ما تكون عن ميوله المثالية، حتى أخرجه الشعر إلى عالم الناس وربطه بحياتهم.

بدأ الزبيري حياته النضالية في السياسة وهو طالب في القاهرة - في كلية دار العلوم - وعاد إلى اليمن حاملا مشعل التنوير من خلال جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ألفها بعد عودته، فكان جزاؤه السجن ثم الفرار إلى عدن - عاصمة الجزء المحتل من البلاد حينئذ.

وقد تقلبت الحياة بالزبيري فهو وزير للمعارف في حكومة الانقلاب الأول الذي أطاح بالإمام يحيى عام 1948، ثم هو هارب بعد فشل الانقلاب يعيش حياة التشرد والغربة الطويلة في باكستان - طيلة خمس سنوات - يبكي مصارع الرفاق ويهدهده الحنين إلى الوطن، ثم هو بعد ثورة سبتمبر 1962 يعود وزيرا للتربية والتعليم ثم نائبا لرئيس الوزراء لشئون الإعلام والتربية، ثم هو يهجر مكتبه في المدينة ويذهب إلى الريف حتى تتوج حياته المتنوعة النضال بالاستشهاد، حيث استقرت رصاصة غادرة في قلبه الكبير، فسقط مضرجا بدمائه في 30 مارس عام 1965.

والذين يؤرخون للحركة الشعرية في اليمن، ينسبونه إلى الكلاسيكية الجديدة، ويضعونه بمثابة الرائد للشعر المعاصر في اليمن، فشعره - كما يقول المقالح - شعر الصحوة الوطنية والفنية، وهو شاعر اليمن المطلق الذي مهد الطريق أمام الشعراء في وطنه وجعل الشعر في خدمة الوطن والإنسان، بعد أن كان الشعر والوطن والإنسان في خدمة الحاكم الطاغية، وإليه يرجع الفضل في انتشار هذا القدر من شعر الوطنية في شعر اليمن الحديث.

وقصيدة " البلبل" التي أبدعها الزبيري في أعقاب فشل انقلاب 1948 وما تلاه من مشاعر الإحباط والضياع، نموذج فريد لتوحّد الشاعر مع هذا الطائر الجميل، الذي يشاركه مأساة ما حدث للوكر- الوطن- والذي نكب مثله بالخطب المعضل، فضاق الروض بمن فيه، واختنقت أجواؤه، فأصبح الشدو عويلا، والغناء بكاء، وامتلأ عالم الطير- كما يمتلئ عالم البشر- بالوشاة وبمن يتجسسون وينقلون ويوقعون ويسعون في الإفساد والتهلكة، البلبل إذن نبضة رومانسية مصطبغة بظلال من الرمز الشفيف، لا يتطلب عنتا أو مشقة في جلاء معانيه ودلالاته، واستقراء صوره وألوانه وظلاله، والبنية الشعرية للقصيدة تتكامل حلقاتها في تآزر وإحكام، وتنم عن قدرة الشاعر الهائلة في تطويع اللغة الشعرية- في سهولة ويسر- لحمل الدلالات وتآلف الصور الشعرية، وتحقيق الانسجام والتآلف بين عناصر الرؤية الشعرية والحياة الشعرية داخل النص الشعري، وبث مفردات معجمه الشعري في خفة وتلقائية، بحيث تضيء كالصوى في جنبات القصيدة، وتلتمع كالمنارات على طريق القراءة الهادئة الكاشفة، ليس من قبيل الصعوبة أو المجازفة إذن القول بأن "البلبل" هو الزبيري نفسه، وإن هذا الروض السجين المختنق هو الوطن الذي انهارت آماله ومطامحه - في لحظة من لحظات النضال المتصل - كان هذه الدعوة التي تحملها القصيدة للبلبل - في مقطعها الأخير- هي بمثابة الأمل الذي يطلقه الشاعر تعبيرا عن تفاؤله بالرغم من المحنة، وصموده في وجه عوامل اليأس والإحباط والضياع، ويقينا منه بأن الدور ينبغي له أن يؤدى حتى ولو غنى وحده، ولم يحتف أو يحفل به أحد، فغناؤه غناء طبع لا صنعة أو تكلف، كما أن نضال الشاعر نضال طبيعة وحياة لا نهزة أو اقتناص نفع أو مغنم عابر، وكما أن غناء البلبل لا ينبغي أن يكون فقط للمسرات والأفراح - بل للخطوب والأحداث الفاجعة - كذلك الشاعر المناضل، أو المناضل الشاعر، لا بد أن تكون كلماته وأفعاله دوما مغموسة بالمعاناة والألم العبقري، الذي وصفه شوقي في مسرحيته الشعرية "مجنون ليلى" بأنه أنبغ ما في الحياة:

تفردت بالألم العبقريّ

وأنبغ ما في الحياة الألم

وليس نبوغ "الزبيري" في شعره محل شك أو اعتراض، وإنما هو النبوغ المتوهج المشتعل، الذي تغذيه حياة حافلة ممتلئة، ونضال عارم لا يهدأ، وقلب يحمل بين جنباته طموح أمة وحلم وطن، وفي قصيدة البلبل بعض قسمات هذا النبوغ وبعض ملامح هذه الشاعرية، حتى وإن كانت القصيدة واحدة من قصائده المبكرة:

"البلبل"

بعثات الصبابة يا بلبل

كأنك خالقها الأول

غناؤك يملأ مجرى دمي

ويفعل في القلب ما يفعل

ويفعل في القلب ما يفعل

كأنك فوق الربى منهل

ترتل فن الهوى والصبا

شجياً، وإن كنت لا تعقل

وما الحب إلا جنون الحياة

وجانبها الغامض المشكل

غزتك إلى الوكر مأساته

ومسك من خطبه المعضل

فضاق بك الروض في رحبه

وأنت بأجوائه مرسل

نكبت بما نكب العاشقون

وحملت في الحب ما حملوا

هدوءك في طيّه مرجل

وريشك من تحته مشعل

خفيف على الغصن، لكنما

فؤادك من لوعة مثقل

أنينك ينساب بين الغصون

كما انساب من نبعه الجدول

ويسري إلى القلب مسرى الحياة

وفيه من الوجد ما يقتل

حبيبك جارك بين الزهور

وبينكما دوحة تفصل

ولست بعيداً على ناظريه

فمالك من أجله تعول

جناحك فيك، فلم لا تطير

إلى ما تحب وما تسأل؟

أفي عالم الطير لؤم الوشاة

ومن يتجسس أو ينقل؟

وهل للبلابل دين يصد

عن الحب، أو آية تنزل؟

ألا أيها البلبل العبقري

والصادح المدره الفيصل

تنفس، فأنفاسك الخالدات

دوح الرياض التي ترفل

جناحك آمن من ظلها

وريشك من زهرها أجمل

وأنت السعيد الوحيد الذي

حباك الزمان بما يبخل

غناؤك للطبع، لم تكترث

أضاعوا فنونك أم سجلوا

وتنشد وحدك، ما إن تحس

بمن يحتفي بك أو تحفل

وتأبى التصنّع بين الجموع

وإن صفقوا لك أو هللوا

وتبكي لفنك لا للخطوب

وإن كان فيهن ما يذهل

تغني وترقص في دوحة

كأن أزاهيرها محفل

ترحب بالشمس قبل الشروق

كأن حماك لها موئل

توهمتها وقفت نفسها

لوكرك ضيفا، به تنزل

كأنك "حاتم" في خدره

يحيي الضيوف ويستقبل

أتوه فقيراً، وفي صدره

فؤاد وفي فمه مقول !

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات