إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

لعبـة الحيـاة

بعد شهر واحد من اللعب النظيف انتهى مونديال أمريكا 94 لكرة القدم، وتواصل اللعب القذر. اختفت من شاشات التلفزيون ألوان الفرق المتنافسة كقوس قزح، وخمدت صيحات التشجيع والانتشاء، وعادت ألاعيب الساسة وبشاعات الحرب الأهلية ومسلسل التفجير والاغتيالات دون هدف أو مبرر، لا يهم من فاز بكأس العالم، ولا إن كانت الأهداف أو الإيرادات قد ارتفعت إلى أرقام قياسية أم لا، المهم أن البشرية قد عرفت أسلوبا من التنافس السلمي يختلف عن الأسلوب الدموي الذي تعودت عليه طويلا.

كرة القدم هي لعبة الحياة، ضع حجرا أمام أي طفل، سوف يركله، لأن هذا الفعل يخاطب غريزة اللعب الموجودة داخل كل واحد منا، وهي لعبة الحياة لأنك بقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تسعى تنال، ويبقى عليك أن تحاول أن تتوقى ضربات الحظ العاثر.

وربما كانت هي اللعبة الوحيدة المفتوحة، فكل أطراف الصراع فيها موجودون أمام عينيك في نفس اللحظة، فهي ليست مثل لعبة السياسة المليئة بالدهاليز الغامضة، وليست كالعلاقات بين الأفراد التي تبطن أكثر مما تظهر، كل شيء في كرة القدم يتم تحت أنظار الجمهور من السهل كشفه.. وفضحه.. هذا هو سر سحرها الآسر..

وهي لعبة الانتصارات غير المتوقعة، فيمكن لدولة صغيرة أن تفوز- ولو لمرة في العمر- على دولة عتيدة تفوقها في كل شيء تقريبا، ويمكن لبضعة من اللاعبين الموهوبين أن يعيدوا للدولة كرامتها التي فقدتها على المستويين الاقتصادي والسياسي.

ولكن مونديال 94 أثبت شيئا آخر، فقد أثبت أن كرة القدم هي لعبة الفرد الموهوب الذي يمكن أن يساوي فريقا بأكمله، وأن أساليب الاعتماد على اللعب الجماعي لم تعد مجدية، إنه شيء أشبه بالعودة إلى أسلوب الخصخصة والاعتماد على الحافز الفردي في الاقتصاد، فقد ضاع العقل المفكر من فريق الأرجنتين بعد أن توقف "مارادونا" عن اللعب بسبب تعاطيه المنشطات، وقاد "هاجي" رومانيا إلى مركز لم تحلم به، ولكن قواه ظلت تضعف مع تزايد الآلام حتى أنه كان يضع فخذيه في الثلج يوما كاملا بعد كل مباراة، وأنقذ "روبرتو باجيو" فريق "الآزوري" الإيطالي من الهزائم التي أوشك أن يقع في شراكها، ولكنه لعب المباراة النهائية وهو نصف مصاب، وكانت نتيجة ذلك أن أطاح بضربة جزاء سهلة في الفضاء.. وحده ظل "روماريو" محافظا على تماسكه وقاد فريق البرازيل إلى الفوز النهائي.

إنها لعبة الحياة بكل ما فيها من فرح وإحباط وبداية لا يدري أحد نهايتها، وسواء أحبت أمريكا هذه اللعبة أم لا، فسوف يخلف مونديال 94 في ذاكرتها أثرا لا يمحى.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات