د.محمد جابرالأنصاري و د.غازي القصيبي

  • أشعر بتعاسة غامرة عندم أترك التدريس وأذهب إلى عمل إداري
  • الأوضاع العربية مسئولية عن تعثر الكثير من حركاتنا الأدبية والفكرية
  • المدن الثلاث التي سحرتني هي بيروت ثم بيروت ثم بيروت
  • التوفيقية هي أيديولوجية اللاحسم في الحياة العربية المعاصرة
  • حرب الخليج لم تكن العاصفة الأخيرة. .هناك عاصفة أعتى قادمة

مرة أخرى يتجدد الحوار بين الدكتور غازي القصيبي الشاعر والمفكر السعودي المعروف، والباحث والناقد البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري كي يوضحا لنا بعدًا آخر من أبعاد الثقافة العربية على ضفاف الخليج العرب. لقد اختلفت المواقع هذه المرة وأصبح الدكتور القصيبي سائلاً وجاء دور الدكتور الأنصاري كي يدلي بشهادته.

ولد الدكتور الأنصاري في البحرين عام 1939 وحصل على درجة الدكتوراة في الفكر العربي الإسلامي من الجامعة الأمريكية ببيروت وعلى شهادة اللغة والحضارة الفرنسية من السوربون في فرنسا.

ويعتبر الأنصاري أحد رواد الحركة الأدبية في البحرين وقد أسس أسرة الأدباء والكتاب بها وكان أول رئيس لها عام 1969 كما شارك في تأسيس معهد العالم العربي في باريس.

وحصل الكتاب المهم الذي كتبه الدكتور الأنصاري تحت عنوان "تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي" على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي. وأصدر بالإضافة إلى ذلك العديد من المؤلفات الفكرية والنقدية وأهمها: "العالم والعرب سنة 2000 " وكتاب من " تراث البحرين الأدبي" بالإضافة إلى كتابه المهم "لمحات من الخليج العربي".

وتتميز كتابات الدكتور الأنصاري بالعمق والثراء الفكري بجانب صفاء اللغة العربية وهو الشيء الذي سوف يلمس القارئ بعضا منه في هذا الحوار الذي أجراه معه الدكتور غازي القصيبي.

سعادتي في التدريس

  • بدأت حياتك العملية مدرساً، ثم انتقلت إلى عالم الإدارة، وتدرجت في سلكها حتى وصلت إلى ما يعادل مرتبة وزير، في مرحلة ما قبل الاستقلال في البحرين، ثم تركت المنصب إلى الدراسة من جديد، فالعودة إلى التدريس... وبهذا اكتملت الحلقة... فكيف رأيت مهنة التدريس، حين بدأت حياتك العملية بها؟ وكيف وجدت الإدارة إذ كنت في غمارها (وغمراتها)؟ وكيف ترى التدريس الآن؟ وما هي، حسب تجربتك، طبيعة العلاقة بين الفكر والإدارة (أو السياسة إن شئت)؟ أهي تجربة تضر بأحد طرفي العلاقة... أو كليهما؟.

- أعتقد أن من يعد نفسه للتدريس، ويتخصص في علم لسنين طويلة من حياته، فعليه أن يتجه للتدريس ويبقى فيه، كالمتخصص في الطب أو الهندسة... ومن يمل للإدارة أن يعد نفسه لها ويدخل في غمارها (وَغمراتها). المسألة بطبيعة الحال مسألة استعداد وميل. وبالنسبة لي فإني أشعر بسعادة غامرة عندما أكون في الفصل بين الطلبة، كما أشعر بتعاسة غامرة- أيضاً- عندما أوضع في عمل إداري (حتى لو كان جامعياً !) إذ أشعر عندئذ أني في قفص مغلق... وأن هناك مئات الأفكار خارج المكتب الإداري تولد تحت ضوء الشمس وتتفتح مع الأزهار وأنا في ذلك المكتب أحدق في جدول الأعمال!.. بعيداً عن الحياة الحقيقية... وعن الهواء الطلق... وعن الكتب... وعن العقول الشابة المتعطشة للمعرفة... هذه الثروة الحية كيف أضحي بها من أجل مكتب أو منصب إداري؟!.

وهي ثروة حية بالنسبة لي على الأقل. ومن ير ثروته في الإدارة فعليه بها. ولكن الذي لا أفهمه حقاً - ولن أفهمه- أن يتخصص متخصص في علم من العلوم لسنين طويلة من حياته، ثم يتخلى عن تخصصه العلمي فجأة من أجل منصب إداري. هذا ما لا أفهمه. إذن لماذا درس كل هذه السنين. وأعتقد أنك طرحت هذه " الإشكالية " بوضوح يصل إلى حدود التهكم على ظاهرة التزاحم على المناصب الإدارية، عندما قلت في بحث لك عن التنمية والجامعات: لماذا لا نفتح كلية للعلوم الإدارية ليدخلها جميع الطامحين إلى الإدارة منذ بداية حياتهم الدراسية بدل ذهابهم إلى كل هذه الكليات العلمية التخصصية وإضاعة وقتهم فيها وتحميل المجتمع والدولة عبء تدريسهم؟ وهذه الإشكالية مرتبطة بصميم التقدم الحضاري في مجتمعاتنا. إذ كيف سيتم هذا التقدم إذا هجر المختصون مواقعهم العلمية والتقنية و " تسربوا " إلى الإدارة... من سيبقى في ساحة التقدم العلمي؟... العناصر المستجلبة من الخارج؟ إذن كيف يتجذر التقدم بهذه الطريقة؟ إن هذه الظاهرة تؤكد المفارقة القائمة لدينا: تضخم بيروقراطي يقابله ضمور علمي. أما العلاقة بين الفكر والإدارة (أو السياسة) فأنا من المؤمنين "بعدم الاختلاط" فيهما! على الفكر أن يصل إلى حقائق حسب قوانينه، وعلى الإدارة أو السياسة أن تطبق وتختبر حسب منطقها. وعلى الجانبين أن يتفاعلا ويتبادلا الخلاصات والنتائج، بالتأكيد...

أما أن يجمع فرد واحد بين الجانبين فهذه حالة استثنائية خاصة. وحتى هذا الفرد فإنه عندما يفكر بعمق يكون بعيداً عن ملابسات القرار السياسي، وعندما يعمل في السياسة يكون بعيداً عن تعمق البعد الفكري. لذلك لدينا في تاريخ البشرية مفكرون كبار في جانب، وسياسيون كبار في جانب آخر. وهم على صلات قريبة فيما بينهم بطبيعة الحال، لكنهم غير متطابقين كما في الأشكال الهندسية المتطابقة! ونحن نعلم كيف جاءت مقدمة ابن خلدون... هذا العمل الفكري العظيم... كيف جاءت؟ عندما اقتنع ابن خلدون " السياسي" أن عليه أن يترك السياسة و(غمراتها) ويتفرغ- تفرغاً علمياً كالتفرغ البحثي الأكاديمي في عصرنا- ليكتب مقدمته في قلعة منعزلة في شبه منفى... ولأربع سنوات متواصلة... هكذا تولد الأفكار الكبيرة في التاريخ... وليس من فوق المكاتب الإدارية، مع احترامنا لجميع الإدارين الأكفاء... فلهم دورهم المهم دون شك؛ ولكن من المهم ألا تصبح الإدارة في حد ذاتها (معبوداً) للجامعيين من أهل الاختصاص العلمي... لأن ذلك يعني وأد أي إمكانية للتقدم العلمي بخلو السماحة من أهلها...

الأب الروحي للحركة الأدبية البحرينية

  • يرى البعض - ولا يضيرني أن أعد نفسي واحداً منهم - أنك كنت "الأب الروحي "... أو "العراب"!... للحركة الأدبية الجديدة في البحرين، تلك الحركة التي بزغت في أواخر الستينيات الميلادية، والتي اتخذت طابعاً تنظيمياً بتكوين أسرة الأدباء والكتاب، والآن: بعد ربع قرن من الزمان، كيف ترى تلك الحركة؟ بعبارة أكثر تحديداً: هل حققت الحركة التطلعات التي كانت تراودك وقتها؟ ما هي أهم إنجازاتها، وأهم سلبياتها؟.

- بحكم اهتماماتي الأدبية والكتابية وتحصيلي الجامعي، ولعامل السن أيضاً، كنت أبرز الأدباء "الشباب" الذين عملوا من أجل قيام "أسرة الأدباء والكتاب" عندئذ. لكن الفكرة كانت موجودة في الجو الأدبي بالبحرين قبل عودتي من دراسة الماجستير في بيروت عام 1966/ 1967. وأذكر أن الأديب البحريني الراحل المرحوم محمد الماجد هو الذي طرح الاقتراح العملي بتأسيس الأسرة الذي تحمس له جميع الأدباء الشباب تقريباً في ذلك الوقت.

وهكذا تأسست الأسرة وتم انتخابي أول رئيس لها. هذا الجانب التنظيمي من العمل الأدبي لا يمثل على كل حال أهم إسهاماتي الأدبية في ذلك الوقت. فتجمعات الأدباء ما هي إلا الإطار المساعد على العطاء لكنه ليس جوهر العطاء. ما أعتز به حقا في تلك الفترة هو مقالاتي النقدية الباكرة التي كتبتها عن القصائد الأول والقصص الأولى لأدباء الحركة الأدبية الجديدة والتي ستبقى أول ما كتب عن نتاج هذه الحركة (حتى لو أغفلها بعض الذين "يؤرخون" للأسرة الآن) هذه الكتابات الباكرة التي جاءت على موعد مع الإبداع الأدبي الجديد في البحرين ستبقى مصدر اعتزاز لي وأنا الآن بصدد جمعها، مع كل ما كتبته عن أدب وثقافة الخليج والجزيرة العربية، لتصدر في كتاب متكامل.

وبعد ربع قرن، أرى أن الحركة الأدبية قامت بدور مهم ورائد في المسيرة الأدبية بالبحرين، وتاريخ البحرين الأدبي في ربع القرن الأخير هو تاريخها إلى حد كبير. لكن كانت لها سلبياتها وأخطاؤها بطبيعة الحال، وأهمها تقديم الاتجاهات الأيديولوجية الضيقة والعلاقات الشللية والشخصية على الاعتبارات الأدبية والفكرية التي يجب العودة إليها كمعايير في العلاقات الثقافية وهذه المشكلة كما تعلم ظاهرة عربية عامة.

أما إذا شئت الحكم المطلق، فقل لي أية "حركة" عربية في ربع القرن الأخير حققت تطلعات القائمين بها؟ أردت أن أقول إن الأوضاع العربية العامة مسئولة أيضا عن تعثر الكثير من حركاتنا الأدبية والفكرية. لكني متفائل الآن بالنسبة "لأسرة الأدباء والكتاب" في البحرين سواء من حيث الإدارة أو النشاط أو الإصدارات الأدبية أو التوجه الإيجابي لمجلتها "كلمات"...

بيروت ثم بيروت ثم بيروت!

  • تنشأ بين الإنسان، كل إنسان، والمدينة الني يألفها علاقة من نوع خاص يتجاوز علاقة الأحياء بالجمادات، وإلى تلك العلاقة الحميمة أشار النبي عليه الصلاة والسلام في ومضة رائعة مؤثرة عندما قال "أحد جبل يحبنا ونحبه."حدثنا عن ثلاث مدن ربطتك بها علاقة خاصة، وذكريات فيها.

- المدن الثلاث التي سحرتني وارتبطت بها- بعد موطني- هي: بيروت، ثم بيروت، ثم بيروت! ولقد عشت في لندن، وعشت في كمبردج، وعشت في باريس (هل أكثر جاذبية من باريس؟) وشاهدت برلين. وموسكو. وفيينا. ومدريد. وهمبورغ. وطوكيو.. إلخ وحاولت تعويض بيروت بمدن عربية أخرى، لكن بقيت بيروت عندي في المقام الأول، لا تتزحزح!.

وتسألني عن ذكرياتي أنا فيها؟ هي ذكرياتنا جميعاً- نحن الأجيال العربية منذ الأربعينيات إلى السبعينيات هل يوجد مثقف عرب، أو زائر عربي بلا ذكريات رائعة لا تعوض في بيروت؟ ألا تذكر أن أصرح حديث جرى بيني وبينك من على شرفة في بيروت تطل على بحر الرملة البيضاء؟.

وعندما أقول لك بيروت ثم بيروت ثم بيروت، فأنا لا أبالغ ولا أكرر، هي أجمل "ثلاث" محطات في حياتي: محطة الدراسة الجامعية الأولى بكل جديدها واكتشافاتها وانطلاقاتها وفرحها (1958- 1963) ومحطة الدراسة الجامعية الثانية (الماجستير) بكل انفتاحها على البحث والفكر ومعها (شهر العسل) مع أم بناتي (1965- 1966) ثم محطة الدراسة الجامعية العليا (الدكتوراة) (1971- 1976) وقد تحملت قسماً منها بين أصوات القذائف، علما أني ذهبت لدراسة الدكتوراة في كمبردج، وبعد شهور عدت إلى بيروت! وفي المرحلتين الأخيرتين قمت بالتدريس في الجامعة الأمريكية. وأعتقد أني أول مثقف من منطقة الجزيرة العربية والخليج يتمكن من التدريس في الجامعة الأمريكية ببيروت في ذلك الوقت (منذ 1965 وما بعدها) وفي بيروت كتبت في صحافتها الفكرية والسياسية، وكنت أيضاً أول كاتب من الخليج والجزيرة العربية يكتب فيها بانتظام. وفي بيروت تعرفت إلى بعض أبرز المفكرين والأدباء العرب كالمرحوم الشاعر خليل حاوي الذي كانت لي معه صداقة حميمة فكراً وشعواً، والأستاذ قسطنطين زريق، والأستاذ مطاع صفدي وغيرهم.

كما تعرفت إلى نماذج رائعة من الأساتذة الجامعيين، والباحثين الأكاديميين، من الطراز الأول، مثل أساتذتي الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد يوسف نجم، والمرحوم الدكتور أنطوان كرم والدكتور كمال اليازجي، والمرحوم جبرائيل جبور، والدكتور أنيس فريحة، والدكتور نديم نعيمة.

ثم من بيروت أخيراً تابعت ورصدت كل التجارب والانتصارات والهزائم العربية في ماضيها وحاضرها، وفيها تبلورت رؤيتي الفكرية والبحثية إلى حد كبير.

وكما تعلم فنزار قباني يبالغ كثيراً، لكن أتراه مبالغاً عندما قال: ياست الدنيا يابيروت؟!.

رحلة قصيرة مع الشعر

  • لا يعرف الكثير من قرائك، خاصة الشباب منهم، أنك كتبت العديد من القصائد الشعرية، بالشكلين التقليدي والحديث، وأذكر أنه تجمعت لديك، ذات يوم، حصيلة تكفي لإصدار مجموعة شعرية، وأنك اخترت لهذه المجموعة اسم "ثقوب في جدار الصمت"، وكنت تعتزم طبعها، فما الذي حدث؟ لماذا انسدت الثقوب (الشعرية) وعاد الجدار صلداً (من النثر)؟ أريد أن أقول لماذا توقفت عن كتابة الشعر؟.

- كان النثر متمكنا مني منذ البداية. وفي أيام الصبا الباكر عندما كنت أنظم الشعر، كان أساتذتي يقولون لي: نثرك أفضل! ولكني نظمت الشعر أحياناً لإثبات القدرة على النظم، والنظم غير الشعر كما تعلم، ونحن العرب لنا ولع بالشعر غريب. والمرحوم العقاد- الناثر العظيم- نظم عشرة دواوين لإقناع نفسه والناس بأنه شاعر، ولكن الكثيرين يشكون في ذلك. وبالنسبة لي فإن عقلي يعمل تحليلاً ونقداً وتركيباً أفضل من عاطفتي، التي أحاول ضبطها غالباً، والتأكد من خضوعها للعقل. ولكني كتبت عدداً قليلاً من القصائد في حالات معينة أعتقد أنها تدخل في فن الشعر ومنها الديوان الذي تشير إليه. وعدم نشر ذلك الديوان- مع مجموعة قصص قصيرة أيضاً- يعود ببساطة إلى قلة " شطارتي " في مجال الطبع والنشر. فأنا أفكر دائما في الجديد الذي أكتبه وأنشره فوراً في الصحف والمجلات. أما التفرغ لإعداد الكتب للطبع، فذلك ليس من أبرز (مواهبي) على الإطلاق! وفي هذا المكتب الذي أكتب عليه هذه السطور تقبع في الأقل خمسة كتب من مؤلفائي تنتظر الطبع منذ سنين، ولا أدري متى سأطبعها. ولقد قرأت أنت أطروحتي للدكتوراة في ثلاثة أجزاء على الآلة الكاتبة، ومازالت كما رأيتها. ومنذ الصغر سيطر عليّ شعور- ترسخ في الجامعة- أنه عندما يقدم الإنسان على إصدار كتاب، فليكن (الكتاب) الذي سيقول فيه أهم وأعمق ما لديه. وأنا ما زلت أعتقد أني لم أقل أهم وأعمق ما لدي بعد. أما الكتب (التمهيدية) لذلك فلم يكن يهمني كثيراً صدرت أم لم تصدر. ولكني بدأت أشعر بضرورة إصدار الكتب وتدارك هذا الأمر، فالأفكار تموت ويتجاوزها الزمن إن لم تظهر في وقتها...

أتذوق الأدب.. ولكننا
نحتاج للعلوم الاجتماعية

  • يقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر: لقد بدأت حياتك كاتباً، بدراسة الأدب وحده، والشعر بنوع خاص، ثم تنوعت اهتماماتك، وانتقلت من الأدب إلى آفاق أرحب، تمزج الفكر بالسياسة بسائر العلوم الاجتماعية، وكانت النتيجة أننا فقدناك أديباً خالصاً، فهل طلقك الأدب، أعني الأدب "البحت" أم طلقته؟ وهل هناك أمل في العودة؟. علما أنك كتبت رسالة الماجستير عن أديب أندلسي مغمور، لدى عامة القراء على أية حال، فما الذي دفعك إلى اختيار هذه الشخصية بالذات؟ وما هي الآفاق التي فتحها البحث أمامك؟ وهل يمكننا أن نراجع اهتمامك بمشكلة التواصل، والانفصال!، بين مشرق العالم العربي ومغربه، إلى هذه المرحلة من حياتك؟.

- مازلت ميالاً للشعر والأدب كمتذوق وأجد شيئاً يجذبني للشعر الصوفي. وربما عدت للكتابة في النقد الأدبي- وهو أكثر فروع الأدب قرباً إلى نفسي- عندما أجد من الأعمال الأدبية ما يستحق الكتابة. ولكني وجدت أن التطور الراهن في الحياة العربية يحتاج إلى العلوم الاجتماعية لفهم ما جرى وما يجري. إن منزع التفكير الاجتماعي الذي يرى جذور الأزمة المجتمعية العربية وخصوصيتها هو أشد ما تفتقر إليه وتحتاجه الثقافة العربية. وجهودي الفكرية مركزة الآن في هذا المجال. ولا يفوتنا أن عصرنا هذا هو عصر سيادة العقل وسيادة النثر الذي يعبر عنه. ولفهم هذا العصر لابد من منزع عقلي نثري. هذا ما أحاول التركيز عليه الآن. وأظن أنك من أكثر الشعراء اعترافاً بأن الشعر لم يعد له دوره السابق في العصر الحديث، بينما كنت أنا في فترة سابقة أحاول الرد عليك بخلاف ذلك. سيبقى للشعر دوره بطبيعة الحال، وسيحتاجه الإنسان الحديث كلما اشتدت عليه وطأة الكمبيوتر. ولكن العصر العربي بالذات يحتاج أولاً إلى تأسيس عقلي- نثري فالشعر ما زال مسيطراً عليه. ولابد من ثورة العقل- من خلال النثر - أولاً. أما بالنسبة لاختياري رسالة الماجستير عن ابن سعيد المغربي فكان اختياري للمنهج العلمي وطريقة البحث العلمي مع أستاذنا الدكتور إحسان عباس أستاذ الدراسات الأندلسية بالجامعة في ذلك الوقت. فقد كان الدكتور عباس مدرسة قائمة بذاتها في البحث الأدبي وتحقيق التراث علمياً. واختياري لابن سعيد المغربي الأندلسي كان في واقع الأمر اختياراً لإحسان عباس!... أعني اختياراً للتمرس بطرائق البحث العلمي والتحقيق التراثي معه. وقد استفدت من هذا التمرس كثيراً في التعامل مع أمهات المصادر.

أما إشكالية التفاعل بين المشرق والمغرب فلم تكن واردة في ذلك الوقت- أعني زمن ابن سعيد- فقد كان التواصل هو القاعدة، وكان ابن سعيد من رموز هذا التفاعل في رحلاته وكتاباته المشرقية. أما المشكلة المعاصرة بين المشرق والمغرب فلم أكتشفها إلا عام 1985 عندما قمت بزيارة للمملكة المغربية وتونس واطلعت على بعض الكتب الصادرة حولها، واكتشفت حدة الشعور بها لدى إخواننا المغاربة- فيما يعتبرونه موقف تجاهل من المشاركة تجاههم- وعالجتها في كتابي "الحساسية المغربية والثقافة المشرقية عقدة تجاهل.. أم أزمة تواصل".

هل هي هجرة فكرية؟

  • ومن رسالة الماجستير ننتقل إلى أطروحة الدكتوراة التي استغرق إعدادها سنين طويلة وجهداً خارقا، يتجاوز بكثير ما يتطلبه إعداد أطروحات الدكتوراة عادة، الأمر الذي يوحي بأنك لم تكن بصدد تحضير بحث علمي بقدر ما كنت في "هجرة فكرية" لما بحثاً عن مفتاح يعينك على فهم الكثير من مغاليق العقل العرب، فهل ترى أن هذا الوصف دقيق بالفعل؟ وهل وجدت في " التوفيقية" مثل هذا المفتاح؟.

- كانت أطروحة الدكتوراة بالنسبة لي كما تقول فعلاً: رحلة فكرية، أو بالأحرى إعادة نظر فكرية شاملة. وهي وقفة مطولة احتاج لها كثيرون من أبناء جيلي المنشغلن بالفكر والهموم العربية العامة بعد هزيمة يونيو 1967 وتوالي التراجعات العربية المتتالية بعدها.

ومن الناحية المنهجية فقد أردت مقاربة الفكر العربي والإسلامي الحديث- الذي أثقلته المذهبيات الماركسية والغربية- بفكرة أو "مفتاح" من داخله دون إخضاعه بافتعال لمناهج فكرية ذات تحيز أيديولوجي لمجتمعات معينة في الغرب أو الشرق، فوجدت في التوفيقية هذا المفتاح.

والتوفيقية مصطلح لا يريح الكثيرين. وبعضهم يمارسونه ويتبرأون منه. وبعضهم يرونه جمعاً مفتعلاً بين المتناقضات. وحقيقة الأمر أن التوفيقية- أي التقريب بين الاتجاهات الفكرية المتباعدة أو المختلفة في طبيعتها- يمكن أن تكون معادلة فكرية رصينة كما حققها المعتزلة والفلاسفة الإسلاميون، بين الحكمة والشريعة، وبن العقل والوحي. وقد تكون تلفيفاً كما فعل الماركسيون العرب عندما " تأسلموا" لأغراض سياسية لا تتصف بالأمانة الفكرية. وباختصار فالمنطقة العربية تتصف بتناقضاتها المتأصلة فيها قديماً وحديثاً (القطرية مقابل القومية- القومية مقابل الفكرة الدينية - الفكرة الدينية مقابل الأفكار الغربية... إلخ) ولأن الحسم شبه مستحيل- وهو لم يحدث على كل حال حتى الآن لو كان ممكناً- فلا مخرج إلا بنوع أو آخر من التوفيق بين هذه المتعارضات.. لذلك سميّتُ التوفيقية: أيديولوجية اللاحسم في الحياة العربية المعاصرة... وكشفت عنها تحت أسمائها وأقنعتها المختلفة (من تعادلية توفيق الحكيم، إلى مدرحية أنطون سعادة، إلى المثالية الواقعية لدى المفكرين العروبيين... إلخ).

ولقد درستها كباحث أكاديمي وليس كداعية لها أو ضدها... وهذا ما لم يفهمه بعض الذين نقدوها... غير أنه يجب التنبه إلى أن للتوفيقية وجها آخر- عندما تكون أصيلة وعميقة- فهي مظهر آخر من مظاهر " الوسطية " التي امتازت بها الحضارة الإسلامية وحققت من خلالها إنجازات فكرية وحضارية لا تنكر.

المهم أن نفهم الظاهرة كما هي وفي جوانبها الإيجابية والسلبية. ثم للفكر العربي أن يقرر استمراره عليها أو تعديله لها... أو خروجه عنها... لكن لابد للباحث أن يصف الأشياء كما هي ويسميها بأسمائها.. وهذه مهمة أعتقد أن العرب المحدثين مازالوا مقصرين فيها بحق أنفسهم وحاضرهم وماضيهم.

خصوصية المجتمع العربي

  • يجرنا الحديث عن هذا " المفتاح " إلى "مفتاح" آخر أعرف أنك تعلق عليه أهمية خاصة في فهم التاريخ العربي القديم والمعاصر، وهو ظاهرة "القبلية"، الأمر الذي حدا بك إلى الشروع في كتابة مؤلف عن هذه الظاهرة، فهل تحدثنا، في نظرة الطائر، عن هذا المفتاح من مفاتيح النفس العربية؟.

- في تقديري، أن جدلية الحاضرة- البادية بما تنطوي عليه من تأصل الظاهرة القبلية، بادية وحاضرة، هي قانون أساسي من قوانين التاريخ العربي، بل والحاضر العربي أيضا. يكفي أن تلقي نظرة على مصير الأيديولوجيات المدعوة "تقدمية" حتى في البلدان المدعوة "حضرية" لترى كم تكشفت تلك الأيديولوجيات عن انشقاقات ذات منشأ قبلي بل وعشائري. وبالنسبة للتاريخ فيكفي أن نعود لابن خلدون لنرى ملامح هذه الظاهرة في غاية الوضوح.

وأعتقد أننا سنصل إلى تشخيص وفهم أفضل وأدق وأكثر علمية للماضى العربي إذا درسنا هذه الظاهرة دراسة علمية موضوعية متجردة (وليس بأسلوب بعض الكتاب العرب الذين أقحموا هذه القضية إقحاماً في مجادلات الإعلام السياسي العربي في أثناء حرب الخليج الأخيرة فقلبوا الموازين وشوهوا الحقائق).

إن مثل هذه الدراسة الموضوعية للخصوصية المجتمعة العربية لابد منها لتشخيص مكمن الداء في الواقع العربي وربما أخرجتنا من دوامة التفسيرات الوضعية والماركسية التي اتضح إفلاسها... ولم تفدنا بشيء.

نحن والتجربة اليابانية

  • ومن الغرب إلى الشرق! لفد استحوذت التجربة اليابانية على كثير من اهتمامك، ولاشك أن هذه التجربة غنية وخصبة بكل المعايير، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، والذي واجهك أكثر من مرة، يقول: "ما هو الدرس الذي يمكن للعرب أن يقتبسوه من التجربة اليابانية؟ "، علما أن بعض المراقبين، ويقفز إلى ذهني على سبيل المثال الأستاذ محمد حسنين هيكل، يرون أن الاختلاف التام بين الوضع في العالم العربي والوضع في اليابان لا يسمح بأي إمكان للاستفادة من التجربة اليابانية؟

- في التجربة اليابانية هناك عدة دروس أساسية:

1 - ضرورة توحيد الكيان الجماعي وتماسكه قبل الشروع في التحديث.

2 - ضرورة اختيار النظام السياسي- الاجتماعي الذي سيرعى تماسك الكيان ويقود عملية التحديث، وأهمية الاستقرار عليه والاستمرار فيه وتطويره من الداخل دون تقلبات منهكة.

3 - تحقيق فاعلية إنتاجية داخل ذلك الكيان والنظام بالإعلاء من قيم العمل وانضباط السلوك الجمعي.

4 - تجنب الانشقاق في الشخصية العامة وشخصيات الأفراد بين سلفية وتحديثية، والجمع بينهما في سلفية تحافظ على قيم الأمة، وتحديثية تطور ما يجب تطويره وتتقبل اللازم من جديد العصر.

أعني أن يكون رجل النهضة سلفيا وتحديثيا في الوقت ذاته دون معسكرين متصارعين. وهذه الدروس تقدمها لنا بشكل آخر تجارب شرقية أخرى- كل تجربة حسب خصوصيتها- كالتجربتين الصينية والهندية، أما كيف سيطبق العرب هذه الدروس على واقعهم الخاص فهذا هو الاختبار الذي ما زال يواجههم...

الدرس الأعظم من أزمة الكويت

  • ما دمنا بصدد الحديث عن "الدروس"، وحيث إننا قد خرجنا منذ فترة وجيزة من أعنف أزمة مر بها تاريخنا العربي الحديث، أعني أزمة احتلال الكويت، فما هو "الدرس الأعظم "- أم الدروس إن شئت- الذي يمكننا أن نستخلصه من هذه الأزمة، إن كان ثمة درس كهذا؟.

- أهم وأخطر درس أن أكثر المجتمعات العربية تعاني أزمة خطيرة في تكوينها السياسي، وأنها قد تتقدم في مجالات الحياة الأخرى علماً وتصنيعاً وتسليحاً... إلخ ولكن القرار السياسي يأتي لينسف كل ذلك في لحظة واحدة... ويعود بمجتمعه إلى الوراء مراحل عديدة... كما حدث للعراق.

لماذا يعاني "الرأس" في أجسام معظم المجتمعات العربية هذه المعضلة؟ هنا مكمن الداء... هنا نداء التحدي للمفكرين السياسيين العرب... وهي معضلة لا تقتصر في تقديري على أوضاع الحاضر العربي... بل تمتد طويلاً في التاريخ العربي. هل يمكن أن يشرح لنا أي دارس للتاريخ لماذا غرق العالم العرب في حروب أهلية (حرب الجمل، حرب صفين) بعد وفاة النبي الكريم بمدة قصيرة؟... بينما الأمة العربية تفتح العالم وتؤسس الحضارة؟ هل من جواب... غير مؤامرة ابن سبأ!!... وهذا يعود بنا إلى القوانين التي حكمت التاريخ وتحكم الحاضر العربي في إجابة سابقة.

ولابد لنا أن نشخصها ونستفيد من دروسها.

عاصفة أعتى قادمة

  • كان من اللافت للأنظار أنك توقعت انهيار الشيوعية في دول أوربا الشرقية قبل أي كاتب آخر، في العالم العربي على أية حال، ونشرت ذلك في مؤلف صدر قبل " الزلزال " بمدة طويلة، فما هي "الأحداث الكبرى القادمة "، في رأيك؟ ما هي "الزلازل" التي تنبأ بها مرصدك الفكري في عالمنا العربي، وفي العالم الواسع؟.

- يخالجني أحيانا إحساس بأن حرب الخليج الأخيرة- على فداحتها- لم تكن هي العاصفة التي مرت بالعالم العربي. بل هناك عاصفة أعتى قادمة. لأن الأوضاع في عالمنا العربي تعالج بأسلوب التهدئة والحلول المؤقتة سواء من قبل قوى الخارج أو الداخل...

فهناك قضايا ومشكلات جوهرية وخطيرة مؤجلة الحسم في المجتمعات العربية... بينما هذه المجتمعات مأزومة وتحتاج إلى حلول جذرية. فإلى متى ستفلح التهدئات والحلول المؤقتة- داخلياً وخارجياً- في إبقاء الاستقرار في العالم العربي مع تجنب الخيارات والقرارات الجذرية التي لابد منها من حيث تطوير هذه المجتمعات وحل أزماتها الطاحنة وتقرير توجهاتها الحضارية الملائمة؟ وحتى لو تم حل أزمة الصراع العربي- الإسرائيلي... فماذا عن الصراع العربي- العربي فكرياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً؟.

أما بالنسبة للعالم، فأعتقد أن الحديث عن (نهاية التاريخ) بعد سقوط الماركسية هو حديث خرافة... فالتاريخ لم يبدأ بالصراع بين الرأسمالية والماركسية لينتهي الآن بخروج إحداهما من الساحة... إن أكبر صراع في العصر الحديث قد حدث بين الرأسماليات والرأسماليات المنافسة لها (كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية)... والآن تتواجه الرأسماليات في سباق اقتصادي لاهث... لا نعلم متى سيتخذ أشكالاً أخرى من الصراع... والاقتصاد الياباني في صعود بينما الاقتصاد الأمريكي في أزمة... فأية نهاية للتاريخ؟ كما يبدو لي أن الصين تحاول من ناحيتها وراثة الاتحاد السوفييتي في مجال الحرب الباردة مع أمريكا... وقد تحاول إنشاء كتلة آسيوية غير مندمجة في النظام الجديد القائم بزعامة الولايات المتحدة، كتلة تمتد من الصين إلى إيران عبر باكستان وصولا إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، هذه "الكتلة" المطلة على الخليج والنفط، إذا لم يتم إدخالها في " النظام الجديد " يمكن أن تمثل نقيضه، وتبدأ القصة من جديد، أي يعود التاريخ إلى دورة أخرى من المواجهة.