نيرودا الخجول يحرّضه لوركا على الكفاح

نيرودا الخجول يحرّضه لوركا على الكفاح

لا شك في أن فيديريكو جارثيا لوركا وبابلو نيرودا، هما عملاقا الشعر العالمي في بانوراما الآداب الإنسانية في القرن العشرين، وكلاهما ترك للخلود إرثاً ثقافياً مؤثراً، يتجاوز حدود المكان والزمان، صدى أناشيده التي تمجّد السلام والحرية، والتآخي، وتسيّج الكرامة الإنسانية، بأبيات أثيرية، بسيطة وعميقة في آن، تستوعب واقع عصر وأبعاد تاريخ، تتكرر أحداثه، مختصرة في عناوينها الكبرى وتفاصيلها الصغرى، حكاية، الصراع الأبدي بين الحياة والموت، الحرية والقهر، الطغاة والمستضعفين.

ولا عجب بعد ذلك أن تترجم أعمال الشاعرين المبدعين والمناضلين إلى أكثر من خمس وثلاثين لغة، ويستأثر إنتاجهما بلا انقطاع باهتمام الباحثين، بالرغم من أن دراسات، أكثر من كثيرة قد تناولتها تفسيراً وتحليلاً. قضى الأكاديمي البلجيكي كريستيان دو بايبه حوالي ثلاثين عاماً يدرس إنتاج لوركا، وكذلك كرّس، الباحث التشيلي، هرنان لويولا، أربعين سنة من عمره لدراسة سيرة نيرودا وإنتاجه، وقد أصدر أخيراً، كتاباً من جزأين، جمع فيهما، أوراق الشاعر المبعثرة، وتشمل، دفاتر ملاحظات، مقابلات صحفية، مقالات شبابية ونصوصاً غير منشورة، يعود تاريخها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ومن بينها، النص الكامل، لمقالة «أنا هنا»، الموقعة عام 1935 في مدريد، ويتخذ نيرودا من خلال أسطرها موقف المواجهة، كردّ على التهجم المتكرر الذي كان يتعرّض له من شعراء وكتّاب كانوا يشعرون أن وجوده أقوى، من ظلّهم، وأبرزهم التشيلي فيثيته هويدوبرو . وتعليقاً على هذا الموقف الذي يتبناه نيرودا في إسبانيا، يشير لويولا في بحث يضيف جديدا يكتب لأول مرة عن سيرة الشاعر، المقاتل الذي شهّر بجرأة بالطغيان، لم يهادن ديكتاتوريات، وتحمّل الاضطهاد الرسمي والتشرّد، ليوقّع قصائد من نار تدين مستغلّي الإنسان وساحقي الشعوب، وتقرّبنا إلى شاعر كبير، جريء ومسئول، يتحدّى بدءاً من ديوانه «إسبانيا في القلب»، أقوياء العالم الضعفاء، وهو واثق من نفسه ومن اختياره لطريق كفاح طويل، يكون فيها نصيراً للإنسان البسيط المستضعف، وللشعوب المقموعة.

إن من يقرأ تلك القصائد النيرودية الخالدة، التي نظمت بين عامي 1936و1968، ليزداد إنسانية، وإحساساً بقهر المستضعفين، وليزداد حباً للحرية وللكرامة البشرية ونفوراً من الظالمين، لا يخطر بباله أن الشعر الذي تدعو أبياته لمواجهة الظلم والطغيان، كان حتى عام 1934، إنساناً خجولاً، لا يحسن الدفاع عن نفسه، إزاء عدوانية الآخر، وأن فيديريكو جارثيا لوركا، هو الذي دفعه بقوة وعمق شخصيته الرائعة إلى أن يتجاوز خجله، في مرحلة من الصعب أن تتغير فيها طباع الإنسان. هذا هو جديد بحث لويولا المهم، الذي استأثر باهتمام دارسي سيرة وإنتاج الشاعرين المبدعين، اللذين جمعت بينهما صداقة رائعة، ولم يعرف الحسد طريقه إلى قلبيهما، وكان كل منهما يفرح بعطاء الآخر، ويقدر قيمته الإنسانية.

الحث على القتال

يذكر لويولا أن نيرودا كان خجولاً بطبعه، وتحمّل بصمت عدوانية حسّاده، وأن لوركا هو الذي حرّضه في بوينوس إيريس عام 1934، ليرد على التهجمات، ودفعه لممارسة عصرية مقاتلة، وحثّه على الكفاح في مواجهة الآخرين دفاعا عن النفس، كما نقل إليه خلاصة تجربة التعرّف إلى الذات، التي عاشها في نيويورك، ما بين عامي 1929 و1930.

يؤكّد لويولا إن إطلاق نيرودا العنان لتهجميته، يرتبط بصداقته مع فيديريكو جارثيا لوركا: لعله لم يخطر ببال شاعر الإنسانية العظيم يوم حرّض صديقه على المواجهة في أمر خاص، إنه وجّه أولى خطواته في طريق نضال أشرس وأطول، لمواجهة الطغاة وقاهري الشعوب، بدأ السير فيها منذ اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية (1936) التي غيّرت كلياً نبرة صوته، وبدأت بالنسبة إليه مع «غياب» شاعر صديق اغتيل، وتسلّم منه راية الحرية، ورفعها عالياً في الدقيقة التي سقط فيها «سوسنة مضرجة بدمائها، ورقد قيثارة جريحة تحت التراب».

بصوت متهدج من وجع الجرح البليغ الخاص، ناصر بابلو نيرودا في ديوانه «إسبانيا في القلب» مزارعي الأندلس، عمال المناجم في استورياس، النجارين والبنائين، والعمال المياومين، الفقراء والمستغلين في المدن والقرى: كان هؤلاء الأنقياء البسطاء الذين يدافعون عن الحرية والكرامة الإنسانية، ينتمون إلى عرق لوركا، ومواجهين جبروت الطغاة، وواقفين ومنشدين للحرية والعدالة ولقيم الحياة الكبرى، كان يجب أن تبقى صورتهم خالدة من خلال أبياته في ضمير العالم.

في محاضرة ألقاها عام 1937 في باريس، -هناك استقر بعد أن أقيل من منصبه الديبلوماسي، لمناصرته الجمهوريين في بداية الحرب الأهلية في احتفال تكريمي للوركا، اعتبر بابلو نيرودا، أن اسم فيديريكو جارثيا لوركا، يختصر أسماء كل العمال البسطاء والمستغلين، الذين أحس، صديقه المغتال بقهرهم ومآسيهم، ودفع، شبابه ثمناً لمناصرتهم، وبالتالي، سقط آلاف، منهم في، ميدان الصراع ضد مستغليهم، وكانوا رمزاً للمدافعين عن الحرية والكرامة الإنسانية. في تلك المحاضرة التي زاد مضمونها علاقته بحكام التشيلي سوءاً، شهّر نيرودا مرة أخرى بجريمة بيزنار، التي وقعت في الثامن عشر من أغسطس في ضواحي غرناطة، وقال إن الذين اغتالوا لوركا، قد أحسنوا الاختيار «عندما أرادوا أن يطلقوا الرصاص على روح عرقه، ليخضعوا إسبانيا، يقتلوها شهيدة، ويفرغوها من عطرها الأذكى». كذلك أكّد نيرودا في نهاية كلامه، إن شعراء أمريكا اللاتينية وإسبانيا، لن ينسوا أبداً اغتيال مَن يعتبرونه الأعظم بينهم، ولن يغفروا الجريمة أبداً.

جرح الاغتيال

وبالفعل، لم ينس نيرودا أبداً، شاعر غرناطة المسلمة، وأعلن للدنيا في احتفال إزاحة الستار عن نصب لفيديريكو في ساو باولو عام 1968، إن جرح الاغتيال مازال مؤلماً في أعماقه، وذكّر العالم أن «غناء فيديريكو ودمه، مازالا يتكاثران في كل إنسان، وإن حياته القصيرة تسنبل وتسنبل، وقد كان دمه المراق، فائضاً ببذار، ولم يعرف الذين اغتالوه، إنهم يبذرون قطراته، وأنه ينبت جذورا، ولذلك ينشد الدم ويزهو في كل الأمكنة وفي كل اللغات، وفي كل مرة أكثر تأثيراً وأكثر توهجاً.

في حياته وموته، أثر فيديريكو جارثيا لوركا إيجابياً، وبعمق، في عمر نيرودا وفي مسيرته الشعرية، ولم يعد، الباحثون، يستطيعون، وبعد ما كتبه لويولا، ألا يشيروا إلى هذا التأثير في دراستهم لقصائد الكفاح التي وقّعها شاعر التشيلي الكبير، بعد ديوانه «الإقامة في الأرض» نظمه في جنوب غرب آسيا، أي في المستعرة البريطانية، التي كان فيها شاهداً على أبشع صور استغلال الإنسان للإنسان، أوحت له قصائد أليمة، أشبه بالمونولوج، تنزف أبياتها في سجن الواقع، وحدة جارحة كحدّ السكين، وتنزف يأساً وضياعاً.

تغير نيرودا لما ازدادت الصداقة عمقا بينه وبين لوركا في مدريد: هناك، ظهر الهم الاجتماعي في إنتاجه لأول مرة، وبالذات في قصيدة، طويلة من 125 بيتا، تحمل اسم شاعر الإنسانية العظيم، وتتداخل في مقاطعها، أبيات أثيرية وبعضها سوريالي، يصف فيها الشاعر بتأثر وحب كبير، شخصية صديقه الرائع، العبقري والمتعدد المواهب، الذي تنقل ضحكته لأرز عاصف، عدوى الفرح بالحياة، لكل مَن يعيشون حوله، والذي جعله بكاؤه لرؤية المتألمين يلتفت صوب الآخر المعذب ليؤاسيه، وليكتشف أن هدف الشعر الأسمى، هو الدفاع عن، الحرية والعدالة، وعن كرامة الإنسان.

في حياته وموته، أثر فيديريكو جارثيا لوركا بعمق في عمر نيرودا، ومسيرته الشعرية، ولم يخطىء من كتب أن يوم 13 نوفمبر العام 1933، الذي التقى فيه ملاقا الشعر لأول مرة في بوينوس إيريس، يعتبر موعداً نجمياً، صاغته عرائس الشعر السماوية، وهو يوم رائع ومميز في تاريخ الآداب الإنسانية، لأن الصداقة استمرت بين الشاعرين في مدريد، ومع وجع جرح الاغتيال - الغياب، ارتفع نيرودا إلى فضاءات الشعر، مدافعاً عن الإنسان المستضعف، ليجسد في قصائده، العظيمة، رمزاً، من أحلى رموز الحرية، والعدالة والكرامة الإنسانية في القرن العشرين، وفي بانوراما الزمن.

قصيدة: نشيد إلى فيديريكو جارثيا لوركا

لو كنت أستطيع البكاء في منزل وحيد،
لو كنت أستطيع أن اقتلع عيني وآكلهما،
سأفعل ذلك من أجل صوتك لليمون في حداد،
ومن أجل شعرك الذي ينساب وهو يصرخ .
لأن المستشفيات، من أجلك، بالأزرق تصطبغ،
وتكبر المدارس والأحياء البحرية،
وتمتلىء بأجنحة، الملائكة الجرحى،
وتتدثر بحراشف زفافية، الأسماك،
وتشرع تطير باتجاه السماء، القنافذ .
من أجلك، مشاغل الخياطة، وغلالتها السوداء،
تمتلىء بمعالق ودماء،
وتبتلع أشرطة حمراء، وتقتل بعضها بعضا بالقبلات،
وتتزيا بعباءة بيضاء.
عند ما تحلق مرتديا، دراقا
عندما تضحك بضحكة أرز عاصف،
عندما تحرّك لتغني الرغامى والفكين،
حنجرتك وأصابعك ،
سأموت من أجل الوداعة، التي هي أنت،
سأموت من أجل البحيرات الحمراء،
في عزّ الخريف، تعيش
مع حصان مطهّم واهن، وإله مدمّى
سأموت من أجل المقابر،
التي، كأنهار رمادية، تنساب
ليلا، حاملة مياها وقبورا،
بين ألبسة غطس غرقى:
أنهار متراصة مثل مضاجع
جنود مرضى، فجأة، تتجه صعدا
نحو الموت، في سواق مرمرية الأرقام،
وتيجان عفنة، وزيوت مرمرية.
سأموت، لأراك ليلا،
تتطلع إلى المصلوبين الخاضعين، يمرون،
واقفا وأنت تبكي،
لأنك أمام نهر الموت تنتحب،
تبكي منتحباً، بعينين مليئتين
بدموع، بدموع، بدموع،،

...............
ما نفع الأبيات، إذا لم تكن لهذا الليل الطويل،
الذي فيه، يخترقنا خنجر مرّ، لهذا اليوم،
لهذا الغسق، لهذه الزاوية المهشمة،
حيث يتهيأ القلب المجلود للإنسان، للموت؟.

------------------------------------
في كل مساء،
حين تدق الساعة نصف الليل،
وتذوي الأصوات
أتداخل في جلدي أتشرب أنفاسي
وأنادم ظلي فوق الحائط
أتجول في تاريخي، أتنزه في تذكاراتي
أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم الميت
تستيقظ أيامي المدفونة في جسمي المتفتت
أتشابك طفلاً وصبياً وحكيماً محزوناً
يتآلف ضحكي وبكائي مثل قرار وجواب
أجدل حبلا من زهوي وضياعي
لأعلقه في سقف الليل الأزرق
أتسلقه حتى أتمدد في وجه قباب المدن الصخرية
أتعانق والدنيا في منتصف الليل.

صلاح عبدالصبور

 

 

ناديا ظافر شعبان

 




نيرودا





نصب لوركا





نيرودا





فيديريكو جارثيا لوركا