الحب في ديوان «رحلة البدء والمنتهى» للشاعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة

الحب في ديوان «رحلة البدء والمنتهى» للشاعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة

تغلب مفردات الحب، الهوى، العشق، وما يتفرع عنها أو يُحمل على محملها على مجمل قصائد ودواوين الشاعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة، التي كان قد نشرها متفرّقة في مجموعات شعرية على حدة، ثم عاد فجمعها في ديوان واحد تحت عنوان «رحلة البدء والمنتهى»، فهو شاعر إسلامي من شعراء الحب في الشعر العربي المعاصر، كما أنه شاعر وجد ديني في العشق الإلهي، وفي حب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) يصل به إلى مراتب العشق العرفاني.

وللحب في شعر الشاعر، مراحل ومراتب وعتبات. فهو في بعض أشعاره، يعتبر جزءاً من التيار الوجداني في شعر الحب، هذا التيار الذي كتب قصائده الجميلة الحالمة عدد من شعراء حركة «أبولو» وشعراء «الديوان» في مصر، من أمثال علي محمود طه وإبراهيم ناجي، وقصائدهم في الحب معروفة، وقد تم إطلاقها على ألسنة أكبر المغنين العرب في العصر الراهن مثل عبدالوهاب، وأم كلثوم. كما كتبت قصائد الحب الرومانسي جماعة «الرابطة القلمية» من شعراء المهجر اللبنانيين والسوريين، من أمثال ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ونسيب عريضة، مع إضافة نفحة تأملية مشرقية وعرفانية على أشعارهم. فقد كان جبران يتعامل مع الجانب الروحي في الحب، ويدخل في تواصل مع جلال الدين الرومي المولوي في قصيدته «أعطني الناي وغنّ» حيث «.. أنين الناي يبقى/بعد أن يفنى الوجود». إنه الناي الذي بدأ به جلال الدين الرومي كتابه «المثنوي» بقوله:

«استمع للناي كيف يقص حكايته
إنه يشكو آلام الفراق
يقول إنني منذ قطعت من منبت الغاب
والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي
إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق
حتى أشرح له ألم الاشتياق»

إنّ تسمية هذا التيار بالرومانسية، تسمية غربية وترجمة للتعبير الفرنسي عنه (Le Romantisme)، مع ما يحمله هذا الاتجاه من قيم وعناصر، كاعتبار المرأة عنصر الحب الأساسي في الوجود، وسرد حكايات الحب معها، فضلاً عن خطاب الطبيعة من خلال عناصرها، والانطلاق من الأحاسيس الحزينة باعتبار الحزن مكملاً أو مرافقاً له.

وإننا نعتبر أن هذا التواشج أو التشابه بين الشعر الغربي (الفرنسي والإنجليزي بشكل خاص) والشعر العربي في عصر النهضة، على الرغم من أهميته، لا يمنع من الحفر على المصادر العربية الأكثر عمقاً في شعر الحب. فهو شعر قديم بوجهيه البدوي (العذري) والمدني، وكان يعتبر جزءاً أساسياً من بناء القصيدة الجاهلية، يبدأ به الشاعر العربي قبل الوقوف على الأطلال، أو مع هذا الوقوف، وقبل الوصول لغرضه من مديح أو هجاء أو رثاء أو وصف، وما أشبه ذلك من أغراض الشعر. فقصائد مثل «بانت سعاد» و«من أم أوفى» و«ألا هبّي بصحنك» وسواها من معلّقات أو أمهات القصائد في الشعر الجاهلي، تبدأ بالغزل. وقد استمر هذا التقليد في الشعر الإسلامي، فكان للغزل الحضري (من الحضر) ممثلا بعمر بن أبي ربيعة، وللغزل العذري ممثلاً بجملة العشاق العذريين كمجنون بني عامر (قيس بن الملوّح) و«كُثيّر عزّة» و«جميل بثينة»، شأن في هذا الباب.

ومن أجمل مطالع الوجد والحب والاشتياق، مطلع قصيدة أبي فراس الحمداني «أراك عصي الدمع»، فشعر الغزل والحب نهر موجود في الشعر العربي من منابعه الأولى في الجاهلية حتى أيامنا هذه، ومفرداته تشكّل قاموساً غنياً في كتاب الشعر.

وكون الشاعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة واحداً من شعراء الحب المعاصرين، لا يمرّ من دون مراحل لهذا الحب ومراتب له وعتبات. وتتبادل الكلمات أدوارها ومواقعها أحياناً في شعره، تبعاً لتقارب المعاني أو لتداخلها، وهي مسألة يشترك فيها معظم من كتبوا قصائد الحب في الشعر العربي، فهو يكتب:

«الحب أمر القدر».

ويسأل:

«لماذا أحبُّ وألهثُ خلف السرابْ
وأعرفُ أنّ طريقي إليكِ مُحالٌ
وأنّ طريقي يباب؟

ويشير إلى قوّة الحبّ وفعله في توليد الحياة، حتّى من العَدَم:

«قولي أحبُّك تنبع الأنهارُ في الصخر الأصمّ
قولي أحبّك تورق الأزهار من جَدْبِ العَدَم»

ويذكر أنماطاً أخرى من الحبّ وصولاً إلى أعلى مراتبه في العشق الإلهي، باعتباره عبادةً أو نمطاً من أنماط العبادة، وباعتباره قادراً على كل شيء، حتى على إحياء الموتى، كما يذكر العشق وفعله في ذات العاشق وكأنه «الآزفة». الآزفة من أزف، كما وردت في القرآن الكريم وتعني القيامة، من قوله تعالى: {أزفَت الآزفة} أي دنت القيامة:

«أزفت بقلبي الآزفة
لما رأيت بأنه عشق الجراح»

ويصعّد الشاعر في العشق وصولاً إلى عشق العرفانيين ومفرداته وأفعاله في ذات العاشق:

«.. وأذبتني حتى الفناء
لا أنتِ أنتِ ولا أنا
صرنا ارتقاء وانتشاء»

وثمة محطة مهمة في سلّم العشق لدى الشاعر، هي في حب الحبيب المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو ما يختم به أعماله الشعرية في ديوانين على التوالي: «شطآن الأمان» و«أسفار الرؤيا».

إن عبور الكلمات من منطقة لأخرى لدى الشاعر غالباً ما يتيح له أن يستعمل كلمات شتى مترادفة لدلالة واحدة أو دلالات متقاربة، على ما في هذه المفردات من ظلال وفروق تعبيرية تميّزها عن بعضها البعض أحياناً، أو تقرّبها من بعضها في أحيان أخرى، وذلك للدلالة على تلك الحالة النفسية من الحب: حب المرأة أو حب الرسول أو حب الله. وهي المحطات الرئيسية في أشعاره، يضاف إليها أنماط أخرى كحب الوطن وحب الأماكن وحب الأبناء. وإننا إذ نشير إلى هذه الفروق بين مفردةٍ وأخرى في عبارات الشاعر، فذلك لأن هذه الفروق تبدو أحياناً جوهرية، لجهة كونها من خلال موقعها في العبارة، تنقل المعنى والدلالة من اتجاه لآخر، فتنقل معنى الحب، على سبيل المثال، من الحيّز البشري أو الإنسي، إلى حيّز آخر هو الحيز القدسي حب النبي محمد «[» أو المطلق «حب الخالق عز وعلا». كما أنها تنقل الشعر نفسه من الحيز النفسي والدنيوي إلى الحيّز المجرّد والغيبي، لكي تتحقق من خلال ذلك نقلة نوعية في شعر الشاعر، أو انزياح في الدلالة، تبعاً لانزياح العبارة.

فهو يذكر العشق الإنسي، نصيا، من خلال قوله:

«أعجبها عزفُ الأجسادِ
وطقوس العشقِ الأنسيّ»

ويمهّد له بالعلاقة الحسيّة الجسديّة:

«عزف الأجساد».

ولعله يضع في مقابل هذا العشق الإنسي، عشقاً آخر هو «العشق القدسي» من خلال أوصافه، أو من خلال موضوعه، أو الرحلة الموصلة إليه، كما يظهر في قصيدة «رحلة المنتهى»، حيث نجد فيها توالي مفردات الحب والعشق والتتيّم والهوى والجنون في بيت واحد في القصيدة، يلي ذلك وصف هذه الرحلة بأنها «رحلة قدسيّة»:

«هتفتُ إني عاشق ومتيّم
هذا الهوى المجنون لا ندري مداهْ
......
......
في رحلةٍ قدسيّةٍ غيبيّةٍ أجلو بها صنعَ الإلهْ
وأعودُ حتى أعتلي
أقصى المُنى في مرتقاهْ
وكأنني
من مرتقاهُ لمنتهاهُ هوى تناثَرَ في سناه».

فمن خلال سياق هذا المقطع، يظهر أنّ مفردات العشق والهوى والحبّ تتفق في اتجاه واحد، وتتبادل الأدوار في هذا الاتجاه، وأن التتيّم والجنون يأتيان بمنزلة وصف أو حال مرافق لهذا المقام في الحبّ.

ولو توخّينا مزيداً من التدقيق في العبارة، موقع المفردة منها لجهة الدلالة، لوجدنا من خلال التقصّي المعجمي أماكن من التقاطع، وأخرى من الافتراق، بين عدد من المفردات المترادفة أو المتقاربة هي: حب، عشق هوى، غرام، غزل، وجد... إلخ. إلا أن الاستعمال الشعري لهذه المفردات، سمح للشاعر ببعض من الاستبدال، وببعض من الانزياح عن المعنى المعجمي للكلمة، ما جعل نصوص الحب نصوصاً خصبة وقابلة للتأويل والانتقال من حال إلى حال. فالحبّ، على ما ورد في لسان العرب للإمام العلاّمة ابن منظور (630هـ - 711هـ) «نقيض البغض، والحب الوداد والمحبّة. والجذر (حـ.ب) ينطوي على معنى الإقامة. يقال حبَّ إذا وقف، وحبّ إذا تودّد».

أما العشق فمن الجذر (ع ش ق) فهو «فرط الحبّ». والعَشق لزوم الشيء لا يفارقه. ولذلك قيل للكلف عاشقاً للزومه هواه. سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن الحب والعشق أيهما أحمد؟ فقال الحبّ لأن العشق فيه إفراط. وسمي العاشق عاشقاً لأنه يذبل من شدّة الهوى كما تذبل العشقة إذا قطعت. والعشقةُ شجرة تخضر ثم تدق وتصفرّ (عن الزّجّاج). وأما الهوى ففيه فعل «هوى» أي سقط من فوق إلى أسفل (ابن سيّده). والهوى العشق يكون في مداخل الخير والشرّ. قال اللغويون: الهوى محبّة الإنسان الشيء وغلبته على قلبه». قال الله عزّ وجلّ في كتابه .. ونهى النفس عن الهوى معناه نهاها عن شهواتها. وقال عزّ وجلّ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى . لذلك فغالباً ما يأتي الهوى موصوفاً ويحدد الوصف له معناه.

أما الجهة جذر (غ ر م)، فيقال: «غرم الرجل» حمل ديناً. منه قوله عزّ وجلّ .. والغارمين وفي سبيل الله ، والغرام الولوع، وقد أغرم بالشيء أولع به وهو الحبّ والعشق، مرتبط بالعذاب الدائم والشرّ اللازم. قال الله في كتابه: إن عذابها كان غراماً . تقول العرب: «إن فلاناً لمغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن».

والغزل (جذر: غ ز ل) «حديث الفتيان مع الفتيات (ابن سيّده)» قال: الغزل للهو مع النساء فيه معنى الضعف والفتور. رجل غزِل متغزّل بالنساء. يقال: هو أغزل من امرئ القيس».

والوَجْدُ «يقال للحب الشديد، وله صلة بمعنى الحزن، وصلة باليسار والسعة».

.......
.......
هكذا نرى أنه لو وضعنا «الحب» في وسط هذه المنظومة، لرأينا أنه مرتبط بالإقامة والألفة. لذلك سمّى العلاّمة ابن حزم الأندلسي كتابه في الحب «طوق الحمامة» «في الألفة والألآف». ونرى أن الهوى أدنى مرتبة من الحب، لأنه ينطوي على معنى «سقط» ويكون في مداخل الخير والشرّ. أما العشق ففي مرتبة أعلى من الحب لأنه من فرط الحب وملازمته.

وأما «الوجد» فتصعيد في الحب ونحسب أنه في مرتبة أعلى من العشق.

من ناحية أخرى، نلاحظ أنّ الغزل يغلب عليه الحديث واللهو، وأنّ الغرام يحمل شيئاً من الغرم وفيه عذاب أو شرّ. ولا نحسب أنّ في معجم «الحب» الذي يستعمله الشاعر خوجة في ديوانه، دقة قاموسية في استخدام المفردات، فثمة ما يشبه تبادل الأدوار من جهة، وثمة ما يشبه الانزياح من جهة ثانية.

إن للشاعر ديواناً بكامله بعنوان «وجد على وجد»، كما أن ثمة خيطاً ما أو خطّا يفرّق بين ما أسميناه «الحب الإنسي و«الحب القدسي» في أشعاره. لكن الكثير من هذه الأشعار يأتي وليداً لانزياح الدلالة تبعاً لانزياح العبارة. ذلك أنه من خلال هذا الانزياح (Deviation) بالذات، يقوم الشعر بوظيفة من وظائفه المهمّة، وهو الوظيفة التحويلية أو التخييلية، من خلال أداة اللغة، فليس من السهل استبدال كلمة بأخرى في نسق من الأنساق اللغوية في الجملة الشعرية، من دون استبدال مرافق لذلك في المعنى أو الدلالة.

إن ثمة نقلة في الشعر تتم من خلال الخروج عن عمومية الكلام (Parole) إلى خصوصيّة اللغة (Langue) كما يرى فردينان دي سوسيير. وهناك نقلة أخرى تتم من خلال اختيار مفردة بعينها للجملة الشعرية، من بين عدد من المفردات المتشابهة أو المترادفة، وذلك من أجل تأليف النصّ الشعري وصوغه في ما هو متميّز من نصوص اللغة، فيغدو التركيب أو الشكل آنئذٍ هو المضمون، والمضمون هو الشكل، كما يصح تسمية الشعر «لغة شعريّة».

 

 

جهاد فاضل