مسرح الأزبكية.. د. جابر عصفور

مسرح الأزبكية.. د. جابر عصفور

لم يكن من الممكن أن أدمن المرور على سور الأزبكية، حيث باعة الكتب الذين وجدوا مقرهم الأثير على امتداد سور الحديقة، في اتجاه ميدان العتبة، دون أن أختم جولاتي بالمرور على مسرح الأزبكية، حيث أقف متطلعا إلى إعلانات المسرحيات التي كان يعرضها هذا المسرح العتيد، في النصف الأول من الستينيات التي شهدت نهضة مسرحية لم يكن لها مثيل، خصوصا بعد أن تشكلت فرق التليفزيون المسرحية الأربع، التي تعددت عروضها ابتداء من موسم 62 - 1963 وهي الفرق التي أتاحت السبيل لتحول الشباب الذين تخرجوا في معهد الفنون المسرحية، فضلا عن مؤلفي المسرح الشبان - في ذلك الوقت - إلى أن يصبحوا نجوما بارزين في المسرح أولا، ثم في السينما والتليفزيون.

كانت بوابة المسرح تفضي إلى باحة واسعة، تدخلها سيارات نجوم العرض المقدّم، وكبار الكتاب والنقاد الذين يشاهدون العرض للكتابة عنه ونقده. وقد جذبني المسرح إليه، وقررت دخوله، خصوصا بعد أن قرأت فوق شباك التذاكر أسعار التذاكر، ووجدت أن سعر تذكرة أعلى «التياترو» يمكن أن تحتملها ميزانيتي، وقد حدث ذلك بالفعل، وحضرت عرضا مسرحيا مع صديق لي من المحلة، وبُهرنا من صالة المسرح التي كانت تشبه صالة الأوبرا في تصميمها، وفي زخارفها الذهبية، وقد كان المسرح من الداخل، خصوصا وأنت تراه من أعلى التياترو، قريبا من زخارف السقف ومقرنصاته الذهبية، فضلا عن مقاصيره العليا والمحيطة بالمسرح كالسور البيضاوي الشكل، ولمحنا «بنوارا» خاصا، يحمل التاج المصري مذهبا، وعرفنا أنه البنوار الملكي ولا تزال هناك، إلى اليوم، لوحة رخامية تحمل أسماء مديري المسرح.

دفعني الفضول، ممزوجا برغبة المعرفة، إلى الإلمام بتاريخ هذا المسرح الذي كان اسمه تياترو حديقة «الأزبكية»، حين أمر بإنشائه الخديو إسماعيل ليكون على مقربة من الأوبرا التي صمم معمارها ومعمار المسرح، فيما أظن، مهندس إيطالي، وذلك ضمن استعانة الخديو إسماعيل بالمهندسين الإيطاليين، إلى جانب الفرنسيين، لتحقيق حلمه الذي كان يهدف إلى جعل القاهرة أشبه بالعواصم الأوربية في كل شيء، ولذلك استعان بالمهندس الفرنسي الذي صمم حدائق التيوليري في باريس لتصميم حديقة الأزبكية، بعد ردم بركتها الشهيرة، وبناء الأوبرا التي كلف الموسيقار الإيطالي فردى بأن يكتب أوبرا خاصة بمناسبة افتتاحها، ضمن حفلات افتتاح قناة السويس سنة 1869.

وقد ظل مسرح الأزبكية يحمل اسم «تياترو حديقة الأزبكية» إشارة إلى الأثر الإيطالي الذي يتجلى في استخدام اللفظ الإيطالى الدال على المسرح، وقد ظل المسرح، على مدى نصف قرن، مكانا مفضلا للفرق المسرحية الزائرة التي كان أكثرها أجنبيا، بالرغم من وجود فرق عربية قدّمت عروضها عليه، وكان سر كثرة العروض الأجنبية راجعا إلى تزايد هجرة الأجانب إلى مصر، خصوصا من فرنسا وإيطاليا واليونان، فضلا عن إنجلترا التي أصبح جيشها يحتل مصر منذ سنة1882. ويضم «قاموس المسرح» الذي أعدته لجنة علمية تحت رئاسة فاطمة موسى معلومات وافية عن الفرق الأجنبية الشهيرة التي زارت المسرح، وعروض السينما التي قدّمت عليه، لكن مع غلبة العروض المسرحية، التي تزايد حضورها العربي الذي دعمه جورج أبيض الذي قام بتجديد المسرح وإحيائه في موسم 1912 - 1913، حيث قدم عليه مسرحيات لويس الحادي عشر، والشيخ متلوف، والساحرة، والنساء العالمات، وجرانجوار، وأوديب الملك، وعطيل، والأحدب، وجريح بيروت، وغيرها من المسرحيات التي استمر ورج أبيض في عرضها سنة 1914.

مسرح جديد

تغيرت أحوال المسرح وإدارته التي نهض بها عديدون، إلى أن قامت ثورة يوليو 1952، والتفتت إلى أهمية الفنون، فتولى إدارة المسرح أحمد حمروش الضابط السابق الذي لم يفقد انتماءه لحركة الضباط الأحرار، والمثقف الذي له دور لا ينكر في إشاعة ثقافة ثورية جديدة، غزت عقولنا، ودفعتنا إلى الانتساب إليها، وكانت عروض المسرح قد تغيرت بعد فرقة جورج أبيض مع شركة ترقية التمثيل العربية فرقة عكاشة التي قرر المسئولون عنها هدم المسرح وتشييد مسرح جديد من رأس مال الشركة وتم المشروع خلال عامى 1919 - 1920 في سياق ازدهار ثورة 1919. ولذلك لم يكن من الغريب أن يفتتح المبنى الجديد من أول يناير 1927 بعرض أوبريت هدى، من تأليف عمر عارف وتلحين سيد درويش فنان الثورة، وبقي المسرح بالرغم من سقوط الملكية وقيام ثورة يوليو، وتولى الإشراف عليه أحمد حمروش الذي نهض به نهضة عظيمة.

وقد استقر اسم المسرح على اسم «المسرح القومي» سنة 1958، ولكننا، نحن المصريين فيما يبدو، لا نقبل تغيير الأسماء الأولى، ونبقى على استخدامنا لها، على الرغم مما يحل محلها من أسماء جديدة، وكما ظل اسم شارع فؤاد قائما بالرغم من تحول اسمه إلى شارع يوليو، بقي اسم مسرح الأزبكية قائما بالرغم من اسم المسرح القومي، ذلك الذي تولى مهمة تقديم جيل جديد من الكتّاب الذين تشبعوا بالأفكار الثورية في النهوض بالمجتمع، وقد ضم هذا الجيل نعمان عاشور صاحب «الناس اللي فوق» (1957) و«الناس اللي تحت» (1958) و«عيلة الدوغري» (1963).. إلخ، وألفريد فرج صاحب «سقوط فرعون» (1957) و«حلاق بغداد» (1964) و«سليمان الحلبي» (1965)، ويوسف إدريس صاحب «ملك القطن» و«جمهورية فرحات» (1957) و«اللحظة الحرجة» و«الفرافير» (1964)، وميخائيل رومان صاحب «الدخان» (1962). وقد انطلقت من المسرح القومي صحوة المسرح الشعري بعد أن كان قد فقد صوته بوفاة أحمد شوقي (1932) وصمت عزيز أباظة (1973)، وقد كانت أصداء مسرحيات الشرقاوي، ابتداء من «مأساة جميلة» وليس انتهاء بمسرحيتيه عن «الحسين» تملأ أسماعنا وتثري وجداننا، مع الأسماء التي تبعته من طراز نجيب سرور وصلاح عبد الصبور.

من خشبة المسرح إلى شاشة التلفزيون

وكان التلفزيون قد عرض رائعة لطفي الخولي «القضية» مع غيرها من مسرحيات نعمان عاشور ونجوم التأليف المسرحي من شباب ذلك الوقت الذين كانوا مشبعين بأحلام وشعارات ثورة يوليو عن الحرية والاشتراكية والوحدة، وهو الأمر الذي أدى إلى ترجمة أعمال كتّاب عظام من أمثال بروتولت برخت وبرنارد شو وسارتر ولوركا وغيرهم، لكن كان النجم الساطع الذي يفرض نفسه علينا، في هذه السنوات الستينية، بعد نعمان عاشور وألفريد فرج، هو سعد الدين وهبة (1925 1997) الذي كانت مسرحياته معروضة، دائما، في التليفزيون المصري، الذي كان يقدم مسرحية كل ليلة، خصوصا بعد أن تكاثرت الفرق المسرحية، في زمن وزير الثقافة عبد القادر حاتم، الذي كان يهتم بالكيف أكثر من الكم، لكن كانت مسرحيات المسرح القومي (الأزبكية) متألقة باستمرار، فقد كانت تقدم جيلا جديدا من مؤلفي المسرح الذين جذبوا إليهم الانتباه على نحو غير معهود. الطريف أن أغلبهم جاء من مجالات ثقافية غير مسرحية، فقد كان لطفي الخولي ونعمان عاشور ويوسف إدريس كتاب قصة قصيرة، وكتّاب مقالات بارزة في الصحافة المصرية، ولم يكن سعد الدين وهبة، ضابط البوليس الذي استقال من عمله وهو برتبة رائد سنة 1956، استثناء، فقد كتب القصة القصيرة والمقال الصحفي، كما كان مثلهم في الانجذاب إلى فن المسرح بوصفه فنا جمعي التلقي، يمكن أن يحقق وظائف كثيرة في تنوير الأذهان، خصوصا في مدى ما يمكن أن نطلق عليه الواقعية النقدية.

سعد.. من البوليس إلى سكة السلامة

وقد أصدر سعد الدين وهبة مجلة «البوليس» قبل استقالته من الشرطة سنة 1956، وبعدها أصدر مجلة «الشهر» وكان يجتمع فيها الجيل الذي يضم سليمان فياض وأبو المعاطى أبو النجا ورجاء النقاش وغيرهم، وظلت مجلة «الشهر» تصدر ما بين 1958 - 1962، وكنت أتابعها، وسعيت إلى جمع ما فاتني من أعدادها حين أقمت في القاهرة وكان سعد الدين وهبة قد انتقل من وظيفة سكرتير تحرير «الجمهورية» جريدة الثورة إلى مدير تحريرها من 1961 - 1964، حيث تتابعت مقالاته، وأخذت مسرحياته تلفت الانتباه إليها: المحروسة (1961) كفر البطيخ (1962) البنية (1963) كوبري الناموس (1964) سكة السلامة (1965)، إلى جانب مسرحياته العديدة التي كان يعرضها التليفزيون، فيزيد من جماهيريتها وشعبيته بين أبناء جيلنا، فضلا عن مسرحياته القصيرة التي ظل ينشرها في الأهرام التي أصبح كاتبا فيها خلال السبعينيات، وربما كان أهم ما يميز مسرحيات سعد الدين وهبة، قبل هزيمة 1967، هو أنه مضى على خطا توفيق الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف» ولذلك استمد وقائع مسرحياته من عالم القرية التي عرفها أولا بحكم مولده ونشأته الأولى في قرية دميرة مركز طلخا بمحافظة الدقهلية، حيث كان والده يعمل بدائرة الأمير عمر طوسون، وثانيا بحكم تنقله ضابطا للشرطة بين القرى التي اضطره عمله إلى الاحتكاك بأهلها، وكان يشبه نجيب محفوظ في مرحلة ما قبل «اللص والكلاب» في الاهتمام بحياة القرية قبل الثورة، هادفا إلى تعرية الفساد خصوصا الإداري والحكومي الذي كان من الأسباب الأساسية لقيام الثورة، وكان مثل نجيب محفوظ أيضا في مرحلته اللاحقة في نقد العهد الجديد، وتعرية الثغرات التي أدّت إلى هزيمة سنة 1967 ولذلك كان من الطبيعي أن يلجأ إلى الرمز، ابتداء من مسرحيته المسامير (1968) وليس انتهاء بمسرحية «يا سلام سلم الحيطة بتتكلم» (1971) التي وصل مغزاها السياسي إلى ذروته في مسرحية «الأستاذ» (1969) التي لم تعرض إلا سنة 1981، ولذلك لم يكن من الغريب عليه أن يقول: «هناك فكرة عامة في كل مسرحياتي، أعتقد أنها أكثر المشاكل التي صادفت الشعب المصري على امتداد تاريخه، وهي مشكلة الحكم من الذي يحكم؟ وما هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟

ولم يكن من الغريب، والأمر كذلك، أن أصطحب صديقي شوكت, من رفاق المحلة الكبرى الذي كان يزورني في القاهرة، لكي نذهب معا إلى المسرح القومي، ونشتري تذكرتين، في أعلى المسرح، دفعتهما من جيبي احتفاء بصديقي, ولا تزال علاقتنا باقية، بالرغم من تقلب المصائر واختلاف الاتجاهات، ودخلنا المسرح القومي، ودلفنا إلى الممر الجانبي الذي يقودنا إلى السلم، واستقر بنا المطاف على كرسيين متجاورين، مبهورين بكل شيء، نتأمل روعة المبنى الذي كنا نراه للمرة الأولى، ونستعد لمشاهدة المسرحية التي كان يخرجها سعد أردش - عليه رحمة الله - وكانت الموسيقى من إعداد عواطف عبد الكريم, ولم يكن يخطر ببالي أنه بعد حوالي ثلاثين عاما، ستتصل جبال الود بيني وسعد الدين وهبه، الذي حرص على أن يهديني أعماله المسرحية الكاملة، ولا أدري لماذا لم أحكِ له عن مكانته في نفسي قبل أن يرحل عن دنيانا، فجأة، بعد مرض فتك به سريعا سنة 1997. ولم أكن أتخيل، بالقدر نفسه، أنني سأعرف الدكتورة عواطف عبد الكريم التي عرفتها عن طريق الدكتورة سمحة الخولي التي كانت ترأس لجنة الموسيقى، في المجلس الأعلى للثقافة الذي أصبحت أمينه العام لسنوات عديدة، وأن أطلب إليها - مدّ الله في عمرها - أن تتولى رئاسة اللجنة بعد وفاة سمحة الخولي التي كانت شخصية فريدة، وينطبق الأمر نفسه على سعد أردش الذي ظللت على إعجابي به وصداقتي له إلى أن توفاه الله .

السبنسة.. الحب الأول

وبدأت مسرحية «السبنسة» التي لا أزال أتذكر أحداثها، فالمسرحية الأولى، دائما، أشبه بالحب الأول الذي لا ينسى، ومن المحزن أن الكثيرين من أبطالها قد توفاهم الله، أذكر منهم الصول درويش الذي كان يؤدي دوره المرحوم أحمد الجزيري، وحسن البارودي الذي كان يؤدي دور الشيخ سيد، وشفيق نور الدين الذي كان يؤدي دور العسكري صابر، وفردوس حسن التي كانت تؤدي دور فردوس، وتوفيق الدقن الذي كان يؤدي دور خبير القنابل، وإبراهيم الشامى المأمور، وكمال حسين ممدوح، وفؤاد شفيق الحكمدار رحم الله الجميع، ومد في عمر رجاء حسين التي كانت تقوم بدور جليلة، وسميحة أيوب التي كانت تقوم بدور سلمى، ومحمود الحديني محفوظ، وعبد الرحمن أبو زهرة عبد التواب، وعادل هاشم رشوان، وغيرهم من الذين عرفتهم معرفة شخصية بعد سنوات طويلة، وما كان يخطر على بالي أنني سأعرفهم. وبقدر ما أشعر بالأسى على فقد العمالقة، أولئك الذين قام على أدائهم الرفيع الصرح الاستثنائي لمسرح الستينيات، أدعو بطول العمر للباقين الذين لايزالون يضيئون حياتنا بإبداعهم الأدائي سميحة أيوب ورجاء حسين ومحمود الحديني وعبد الرحمن أبو زهرة وغيرهم.

وهأنذا أسترجع صفحات «السبنسة» المطبوعة ضمن الأعمال الكاملة لسعد الدين وهبة، وأسترجع المنظر الأول في الفصل الأول، وأقرأ «حجرة ضابط نقطة الكوم الأخضر مكتب خشبي قديم فوقه جوخة ممزقة جربانة وعليه دواية نحاسية ودانة مدفع، وفوق الحائط صورة الملك وتحتها قصيدة للشاعر خليل مطران، وفي مواجهة المسرح بعض الجنازير والقيود الحديدية معلقة، وأمام المكتب كرسي خشبي، وبجوار الحائط دكة خشبية، وبالجانب الأيمن بابان، أحدهما موصل إلى صالة تفتح على باب النقطة الخارجي، والثاني يوصل إلى داخل النقطة، حيث الإسطبل وحجرة العساكر وسلم موصل إلى سكن الصول في الدور العلوي».

وتبدأ الأحداث التي تدور، واقعيا، حول اكتشاف قنبلة ويقوم العسكري صابر شفيق نور الدين بالإبلاغ عن اكتشافه لها على «كوم الزبالة» المجاور لعشة الجميلة سلمى (سميحة أيوب) وأمها، وينقلب المركز ويأتي الحكمدار، وخبير القنابل، ويعلن الخبير كاذبا بالطبع، طامعا في مكافأة أن قطعة الحديد قنبلة شديدة الخطورة، كان يمكن أن تنسف كل ما يحيط بها. وتتكرر الفصول عارضة الصور المتعددة للفساد في كل شيء، والذي يمتد من الصغار إلى الكبار وتتجلى الشخصيات حية مليئة بالواقعية والحياة، كأننا نشهد أحداثا حقيقية لكنها تحدث في الماضي، وتتجلى عبقرية أداء شفيق نور الدين العسكري صابر الذي وجد القنبلة، وفؤاد شفيق الحكمدار خرب الذمة وسميحة أيوب سلمى الفلاحة النقية وسط هذا المستنقع العفن من الفساد، ويطمع فيها الجميع من اللحظة الأولى لظهورها وسط حشد السادة لكن قبل أن يأتي السادة، الذين تم إبلاغهم بالحادث الجلل ممثلا في اكتشاف القنبلة يعلن العسكري صابر للصول درويش أن القنبلة سرقت، أثناء ذهابه لقضاء حاجته. ولا يستغرق الصول درويش وقتا طويلا في حل المشكلة، فيتناول قطعة الحديد التي يضعها فوق الأوراق، ويعطيها للعسكري صابر زاعما أنها القنبلة، ويظهر وجه المفارقة المضحكة أن خبير القنابل يعلن أنها قنبلة بالغة الخطورة، وأن العسكري الذي اكتشفها يستحق الترقية، ويقوم الحكمدار فعلا بترقية العسكري صابر ويأتي العمدة بالأبرياء الذين يلفّق لهم وضع القنبلة الزائفة، وتنتهي المهزلة بالقبض على ثلاثة من الأبرياء، بينهم شيخ الجامع الذي كان يفسر للمصلين قوله تعالى «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة» ومنهم محفوظ العامل في مصنع الثلج محمود الحديني الذي طالب صاحب المصنع بالعدل ويتحرر ضمير العسكري صابر، فيقرر إعلان الحقيقة، فيُتهم بالجنون، وبالفعل يلبسونه قميص المجانين، ويتم ترحيله مع المتهمين على القطار، لكن بعد أن يوقفهم ناظر المحطة في أماكن حسب درجات القطار، فالمتهمون وصابر المسكين في الموقع الذي يواجه السبنسة أي آخر عربات القطار وأدنى درجاته، وقبيل أن يأتي القطار، يصرخ صابر الذي أصبح رمزا لضمير الشعب المتهور، مؤكدا أن الحال لن يستمر على ما هو عليه، وأن الأحوال لابد أن تتحول، ويتغير وضع القاطرة، فتنقلب الأوضاع والأحوال رأسا على عقب، فتصبح «السبنسة» مع ركابها هى الدرجة الأولى، بينما تتحول مكانة درويش أفندى والبشوات والبكوات إلى «السبنسة» يعني أن البلد المظلوم المقموع لابد أن يثور، وأن القنبلة الحقيقية المختبئة في صدور المطحونين لابد أن تنفجر وتنتهي المسرحية، ونحن نسمع صوت صابر شفيق نور الدين كالنبوءة «برضه مش حتهرب يا درويش أفندى ولا أنت ولا البشوات والبهوات بتوعك.. حتهربوا تروحوا فين؟! القنبلة حتفرقع وتجيب عاليها واطيها، الأرض كلها قنابل. القطر مليان قنابل بلدنا انزرعت قنابل خلاص وحتفرقع وتجيب اللي قدام ورا واللي ورا قدام.. البريمو حيبقى سبنسة والسبنسة حتبقى بريمو». ويدق جرس المحطة ويعلو صوت القطار، لكن صوت صابر لا يضيع بالرغم من إغلاق الستار، فالمعنى كان واضحا مكشوفا لي وصديقي شوكت، فقد كنا ندرك أن طوفان الظلم الذي عاناه الفلاح المصري، أيام الإقطاع، وفساد الحكم هو الذي أدّى إلى ثورة يوليو التي كان أول شعار لها ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد ولقد كنت وجيلي مرفوعي الرأس في هذه الأعوام ولم لا؟ فقد كان عبد الناصر حبيب الملايين وزعيم الأمة العربية، وهو الذي كسر العدوان الثلاثي وانتصر عليه مع ملايين من الشعب العربي التي التفت حول شعارات الحرية والوحدة والعدل الاجتماعي.

السلامة التي تحولت إلى الندامة

وشعرت أنا وصديقي شوكت أن شعارات الثورة في طريقها إلى التحقق المتزايد، وأن القنابل التي تحدث عنها العسكري صابر (شفيق نورالدين) قد انفجرت في فجر الثالث والعشرين من يوليو، وامتدت منها إلى الأقطار العربية، وإلى كثير من أقطار العالم الثالث، وخرجنا من المسرح ونحن ممتلئون بالحبور لجمال التمثيل، وإدراك الدلالة الرمزية للعرض الذي أثار وعينا الناصري في ذلك الوقت، مدركين أننا نسير في سكة السلامة، وأن الآفاق المفتوحة أمامنا لا نهاية لوعودها.

وبالطبع لم نكن نعلم، أو نتخيل، أن قنابل أخرى سوف تنفجر بعد سنوات معدودة، في يونيو 1967، وأن ما حسبناه سكة السلامة تحول إلى سكة الندامة. ولكن على الرغم من كل ما حدث بعد ذلك، على المستوى العام للوطن، وعلى المستوى الخاص في مسار حياتى، فلا أزال كلما ذهبت إلى المسرح القومي أتذكر اسمه القديم الذي ظل باقيا في القلوب، وأشعر بهزة اللقاء الأول للمسرحية الأولى التي شاهدتها فيه، والدفء الذي شعرت به عندما وجدت نفسي ماضيا محاطا بالخارجين من المسرحية وهأنذا، وبعد كل هذه السنوات البعيدة، وبعد كل ما شاهدت من مسارح، أتذكر النهضة العظمى للمسرح المصري في الستينيات، وأولئك العباقرة الأفذاذ من الكتاب والممثلين الذين أغنوا نفوسنا بجمال الإبداع الذي انتقل منهم إلى أجيال لاحقة، لا تزال تدين لهم بما كسبته منهم وعنهم من قيم الحق والخير والجمال.

أما سعد الدين وهبة، فهأنذا أتطلع إلى أعماله الكاملة، وألمح من بينها كتابه «من مفكرة سعد الدين وهبة» وصورته التي رسمها له مصطفى حسين تفترش الغلاف بابتسامة واثقة من الإنجاز، وأفتح الصفحة الأولى فأرى إهداء كتبه لي، وأقرأ فيه: «إلى الصديق العزيز جابر عصفور تحية إلى جهاده المتصل في خدمة الثقافة». وألمح التاريخ 10/4/1994 فأكتشف مرور خمسة عشر عاما على الإهداء، فأضمها إلى ما يقرب من خمسين عاما حين كانت مسرحيته «السبنسة» أولى المسرحيات التي شاهدتها في مسرح الأزبكية، فأجد أن الزمن قد جرى أسرع مما ينبغي، ولكن الذاكرة تقاوم الزمن بفعل التذكر الذي هو نوع من مقاومة العدم.وأنتقل إلى الكتاب الثاني الذي يسبق الأعمال المسرحية فأجد كتاب «معارك آخر العمر وموقف أمة» وهو الكتاب الذي حرره الأمير أباظة وأصدره الاتحاد العام للفنانين العرب الذي كان يرأسه سعد وهبة وقد صدر الكتاب بعد وفاته تكريما لذكراه، وفيه سلسلة مقالات «معارك آخر العمر» التي تحدث فيها عن صراعه مع المرض اللعين، في مستشفيات أوربا، ثم مئات الكلمات التي كتبت وقيلت بعد وفاته، وآخرها عشرات الصور التي أثارت في نفسي شجنا وحزنا، هربت منهما إلى الذاكرة، وقادتني الذاكرة إلى السؤال عمن يذكر مثل سعد الدين وهبة وأبناء جيله، وأساتذتهم من الأجيال التي أسعدني زمني بمعرفتها، فلا أجد إجابة أصلح من جملة نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا» آفة حارتنا النسيان. رحم الله الجميع.

 

 

جابر عصفور