قراءة: في ليلها المشغول بالفتنة.. سعدية مفرح تقول كلمتها الشعرية بكثير من الجرأة

قراءة: في ليلها المشغول بالفتنة.. سعدية مفرح تقول كلمتها الشعرية بكثير من الجرأة

كتابة سعدية مفرح طازجة، أي أنها تفصح عن نفسها داخل اللغة وقاموسها المتداول، وبشيء كبير من العناية بالأداة، همزة الوصل بين مفردة عادية وصياغة عالية وأنيقة، وبذلك تنتج مقولة شعرية جديدة ليست مؤطرة بقدر ما تفتّح المسامات في جسد النص ليرتفع بالمقولة نفسها إلى مصاف الدهشة متخلقاً من الساكن والخبيء والخافت، وهي إذ تخفي الصنعة قليلاً لتوهم المتلقي بعفويتها، وبعدها عن إبهاره تنميقاً ولعبة، فإنها تخصص لمنهجها في كتابتها «ليل مشغول بالفتنة» (الصادر أخيراً عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت) لتأتي القصيدة تالياً محمّلة بالمضمر، والهدفية والسعي إلى شكل ينهض بكل الألق الذي أرادته، والهاجس المتعب بحثاً عن تفعيل الساكن لاختراق منظومة متحجرة قائمة على الاجترار والإعادات الممجوجة اتكاء على المنجز أو امتطاءً للبوح باعتباره أبسط أشكال التعبير عند النساء (حصراً).

عندما نتحدث عن البوح لا نسبه، وإنما للتدليل على أن الشعرية لها أن تستفيد منه تحت الدرجة التي لا يستلب فيها الشكل المفترض للقصيدة وتقنياتها وانشغالها بملكات عدة، تجعلها متقدمة على أشكال فنية أخرى، بما فيها الأجناس الأدبية جميعها، ومن هنا تأتي القيمة في زحزحة البوح أو الانزياح الرافع لاستيعاب الدلالة والمضي بها.

اشتغال سعدية مفرح في ليل مشغول بالفتنة يجيء من وعي هذه الحالة بالضبط والعمل في جوانيتها، فهي حتى في استخدامها الضمير المخاطب المذكر لا تذل جملتها الخارجة عنها، أو مضمرها الخارج عليها أحياناً، في محاولة لإرضاء الطرف الآخر/المذكر، وإن تلمسنا طرفاً قوياً يشكّل ثيمة التوازن في القول، فإن هذا الآخر هو جوهر اللعبة، ومنطلق التأسيس إن كان مفترضاً بكتلته الميكانيكية كشخص أو أشخاص معيشين، أو محققاً في بعد ميثيولوجي وسيري وتخيّلي، على أن الكتابة جاءت مستحوذة على الشكلين بالرغم من الصعوبة في الجمع بينهما، أو خلق التوازن كما أسلفنا، إذ إن مجرد الشغل في هذه المنطقة النائسة والمحيرة يستوجب لغة عابرة لأي الطرفين في حال العزل بينهما، ما يعطي انطباعاً حسناً لدى المتلقي بصحة المقروء وشرعيته في التجاور مع النصوص المنجزة ويعطي للمنتج في هذه الحالة اعترافاً بسطوته على نصه وامتلاكه الذكاء الكافي لإدارته.

إيمان بالسيرة والقصيدة

والشاعرة مما تقدم تظهر مؤمنة بالقصيدة ومؤمنة بالسيرة، وقول جملة روائية، يتحقق فيها المكان والزمان المتماهي مع أرضية السرد، لاشك أن القصيدة/المجموعة بطولها النسبي بتحديها، والمراهنة على قصيدة التفاصيل، يجعل العمل في شغب مستمر للوصول إلى التكثيف الذي تتطلبه الومضة، وفي شغب مواز لإخراج القصيدة الطويلة من رتابتها وسرديتها، ذلك من التعب في اللحاق بالمفردة الصالحة، والجملة المهندسة لجوءاً إلى الحدث والنهوض به (لتشعيره) - إذا جاز التعبير - وفي ليل مشغول بالفتنة مطمح جلي للإمساك بالقيمة المتفاضلة من إدراك ما ذهبنا إليه تنظيراً.. تقول:

«تجيئين
مثل بلورة اصطفاها النور في منبعه الأول
لتكون سرّه وكينونته
مثل حصاة معتمةٍ
اهملتْ في طريق الرمل
وهو ينبثق من تَعَب الجبال الهرمة
مثل خيمة في أقصى حدود الريح»

هذا المقبوس بدء القصيدة، والمفتتح (تجيئين) مخاطبة الأنثى، دفع على الولادة والخصب ودخول الرهان في تذليل الآخر التاريخي، واحتفاء بالحضور على عادة كل الآمال في مبتدئها وبعدها عن الغياب والخفاء، ما نلمسه في ختام القصيدة، كتعبير مقتضب عن الخيبة والتشظي:

«تضعين يديك المعروقتين
على حافة البئر القديمة
تنظرين فلا ترين سوى سراب متلاش
تمتحين دمعة معلقة على جدار البئر
وتناوشين بقية المعنى»

ومهما يكن من أمر البئر كحاضن أسرار، أو هو بئر يوسف، أو هو العمق عمق, المعنى أو عمق الأسى، فإنه أي المقبوس القريب من المفتتح، هناك خيمة الريح، وهنا السراب المتلاشي، وهنا القول الناهي لليّل المشغول بالفتنة:

«تروحين
تموتين
لعلك.. تموتين
مدججة بقلب حي»

وبين تجيئين وتروحين، ثمة ما يتأرجح بين الحياة والموت، وما يلف القصيدة كاملة بخيط ناظم ابتداء من فعل المجيء إلى الأنثى المخاطبة في الانطلاق والمستقر، في حين أن المتن حظي بالمخاطب المذكر صراعاً أو سوى ذلك، لتكتمل روينة العمل، بحيث لا تقرأ الجملة الشعرية هنا إلا كساند ومرتكز لاختراق التجنيس، والنظر إلى الـ(فيما بعد)، وما يحمل وما سيحصل وما سيتحقق من فعل على المستويين الشعري والسردي أو ما يسمى بالسير ذاتي، وإن اختفت الأنا لمصلحة الأنت الـ«الهو» في الانتقال من أنت المخاطبة لسان الراوية - إلى الـ«هو» الغائب، في اشتباكه مع ضمير المخاطب والتجاور الموفق بين المونولوج الشبهة في علاقته مع السير ذاتي، إلى الـ«هو» المحقق للبوح، وعلاقته الوثقى بحدث يلقي بظلاله على حياة المنتج هنا. سعدية مفرح تقف في منطقة أخرى، تطل على نصها وترى شخوصه عن كثب، ثم ترسمهم بطريقتها وتعيد توزيع أدوارهم مع معرفتها بدواخلهم، داخلها نفسها، وقد انفصل عنا قليلاً لتتابعه عن قرب وتحاكمه. تقول استناداً أو تناصاً مع موروث شعري:

«يامن هواه أعزه وأذلني
وأذله وأعزني
وأقامني في ظل عاطفة
تؤرخ موتها
بقيامتي
وأماتني
في ليلتين
وكأنني
لا.. لم أكن
أنا لم أكن».

لغة وحياة

وإن تمت المخاتلة بالضمائر, من أنت بفتح التاء إلى أنت بكسر التاء، وكأن شخصين يتعاركان داخل الضمير الواحد لغة وحياة، وكأنهما في لعبة سعدية مفرح يخصان الراوي أو يتماهيان معه، وما التفريق بينها إلا جزء من مشاغلة التابو ومراوغته، فإننا والحالة هذه نرى تصعيداً للإيقاع ومكاشفة لنفس تؤسس عنفوانها كموضوعة ومتلازمة تخص الحقيقي من شخص المنتج الإبداعي في ليل مشغول بالفتنة، فيما يتنصل النص في موضع آخر من جبروته وإيقاعه وشخصاً نيته العالية أنفة كشغل يمكن أن يوزع في أكثر من مساحة توازعت القصيدة الطويلة:

«يامن هواه أضاعني
قسماً توزعني
وأنبت في دمي
نصاً يؤرق وحدتي
بحمامة بيضاء
وأغنية
وذاكرة
كي لا أكف
أنا لم أكف..!»

وفي حال توقف اللغة عن المخاطبة وضيق المساحة هنا، أو تعطلها في ذهاب النص إلى منتهاه، فإن استراحة المحارب تأتي مدروسة من خلال فرد حيز غني للتشاكل مع الكوني والإنساني كموروث، وكتراكم قرائي ومعرفي وتجاربي يؤازر اللغة للصعود فوق، حيث البداهة لا البساطة وحيث التبئير لا التسطيح، وحيث المجاز الكفيل بالدهشة والسلاسة البعيدة عن إيقاع مجاني، وكأن الشاعرة لا تراهن عليه، شعورياً لا منطقياً، فهي بالرغم من جملتها المستهلكة «يا من هواه أضاعني» والمتناصة مع بيت شهير تكمل نحو تثقيل المتن المكمّل بالنص المؤرق، والحمامات البيض والأغنية والذاكرة، في توجه ثري ترتثيه قصيدة النثر، المستندة أساساً إلى علاقات تتجاور وتتنافر أحياناً باستخدام مفرداتي مستوعب للمعنى، ويكون حامـلاً من حوامل الشعرية في الوقت نفسه.

ومن هذا الباب، فإن الاختراق الحاصل للجنس الأدبي لم يأت والزاوية هذه فاضحاً وميالاً لقول القصة - الحكاية - إذ نهض الشعر بمقولته، وذلك تناغماً مع الشعور المتعالي والمتقاطع مع ذهنية الشاعرة المؤسسة على الرفض والانتقاء، انتقاء المفردة والحالة الشعرية المتناسبة معها، على حساب الروي الذي أخفض رأسه لمصلحة القول الشعري وشهوته العارمة نقرأ:

«كانت البداية
أو لعلها البداية المؤجلة
منذ الأزل
حيث الأنثى الأولى
والذكر الأول
وأرض وسماء وجنة ماضية»

تنزاح الشاعرة إلى طبيعة الشعر بمتحه من الصورة والإخلاص لمكونات تلك الصورة التي هي بالضرورة وجه متكلم، فيه الفردانية والذاتية المفرطة لرسم شخصية شاعرة ومتألمة، لكنها في الوقت ذاته غير مستجدية لا ترتبط بالنحيب والبكاء والنشيج.

انشغال بالمنجز الشعري

ويبدو أن سعدية مفرح، أنها مشغولة إلى حد ما بمنجز المرأة شعرياً في الخطوط العريضة من حيث النفَس المولد للحكاية، أو المؤرخ للجرح والانكسار، لكنها - وكما أسلفنا - في غير موضع تفلت من إسار التقاطعات العامة حين يتمظهر اشتغالها على البداهة على ألا يكون تكرار (بداهة) في تتبع صياغات وتكوينات الشاعرة تهمة تعني إنتاجها، مقتصدة في الكلام ومتوسعة في المعنى، وكأن بها استفادت من مقولة لهيدجر «أدعوكم إلى اللعب، إلى النظر بكل تيقظ، أي أنني أدعوكم إلى التفكير «بمعنى أن المنتجة تعي فعلها وما وجودها في المنطقة الصعبة إلا نتيجة طبيعية لتجاوز الذات إنسانياً وإبداعياً.

وهذا اللعب الذي قصدته ورأيت فيه اقتراباً من هيدجر لايسم الجملة أو التوترات -المقطوعات - المقسمة للعمل وحدها، بل يتعدى إلى استخدام الشاعرة علامات الغياب، أو ما يسمى بأدوات الحذف والإفراغ، والنظر إليها كحوامل جمالية وبصرية لها الفعل الكفيل بتنصيبها بدائل إيصال صارت القصيدة الحديثة تتكئ عليها، لتحفيز ذهنية المتلقي:

«بين الظنون
تداهنين وقته الفائض
دمعة....
فدمعة....
وكفى

ثم هناك تذييل بعض المقاطع الطويلة بما يشبه الخلاصة أو الحكمة أو التقطيع مثل (للطفولة نزقها المعذب للهواء الخافق بين الرئتين)، و(للخذلان كوابيسه المستيقظة ليلاً ونهاراً) و(للأسئلة طعم الملح في الجروح المفتوحة تواً)، تضمين بين الأقواس الكبيرة فإنها برأيي لا تتناسب والروح العالية المبثوثة في المتن، فقد أتت مصادرة وموضحة ما يعطي انطباعاً للقارئ بأن خللاً في سيرورة النص استوجب هذا التدارك، بجمل غير مشحونة أساساً بطاقة متجاوزة للمقروء الذي سبقها أو تبعها، لتكون سعدية هنا وقعت في مطب اللعبة البحتة، وإذ نحن بصدد اصطياد بعض الهنات سنأتي على ذكر اللام التبريرية والفاء الاستئنافية، وقد جاءتا كمسعفتين في التلكؤ عند الانتقال من جملة إلى أخرى, ما أثقل بعض الجمل وأوهنها لتخرج من الجمالية إلى الوظيفية.

سعدية مفرح في (ليل مشغول بالفتنة) الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، قصيدة من 75 صفحة من القطع الوسط 2008 ولوحة الغلاف للفنان عبدالله يوسف قالت كلمتها بكثير من الجرأة.

 

 

محمد المطرود

 




الشاعرة سعدية مفرح





غلاف كتاب ليل مشغول بالفتنة