ملف المخزنجي: ضد الغربة.. ثلاث ساعات سنويًا

  ملف المخزنجي: ضد الغربة.. ثلاث ساعات سنويًا
        

          للكاتب الأمريكي بول أوستر عبارة موحية يقول فيها: «إن القصص لا تحدث إلا لمن يعرف كيف يحكيها». أعتقد أن قصتي مع محمد المخزنجي الكاتب والإنسان في أحد جوانبها على الأقل قد حدثت وتطورت لكي تختبر قدرتي على الحكي. فهي بكل المقاييس قصة تستحق أن تُروى، ولها سنوات وهي تطالبني ملحةً أن أحكيها.

          في بدايات مغامراتي القصصية كنت مولعًا ( ربما كان الأدق أن أقول مهووسًا) بما سُمّي بعد ذلك بالقصة-الومضة، أو القصة-القصيدة. وكانت لي محاولات مضنية أكثرها فاشل للتمكن من الكتابة بذلك الشكل شديد الصعوبة، والذي لا يفصله عن الانزلاق إلى فئة النادرة أو الطرفة إلا خيطٌ دقيق لا يحسه إلا القلب المرهف والعين الناقدة الصارمة، خيطٌ يكاد يستعصي على الرؤية بالعين المجردة.

          لا أذكر بالضبط متى وقع في يدي ذلك الكتاب الجميل. أكان ذلك قبل أم بعد صدور مجموعتي القصصية الأولى بأشهر معدودات؟ لا أدري. ولكنني أذكر تمامًا، وبمنتهى الوضوح، حالة النشوة القدسية التي غمرتني وأنا أقرأه مرة تلو الأخرى، في ذروة من السعادة والإعجاب، بمحبة تغبط ولا تحسد.

          كان كتابًا صغير الحجم، من مطبوعات «الهيئة المصرية العامة للكتاب» بورقها المتواضع، وطباعتها المؤسفة وأغلفتها الأكثر تواضعًا. في وسطه شريط أزرق باهت كُتِب عليه بخط نسخ أبيض عنوان جهم الشاعرية من كلمتين اثنتين: «رشق السكين».

          عندما انتهيت من القراءة الأولى أدركت أنني أمام أستاذ متمكن من أدوات الصنعة التي أحلم بها وأصبو إليها، الصنعة التي تراوغني وتستعصي عليّ. وأحسست أيضًا أن هناك بين روحه وروحي تماثلًا يقارب الامتزاج، رغم الاختلاف الكبير في طريقة تعبير كلٍ منا عن رؤيته للعالم. وأدركت ثالثًا أن زماني قد أكرمني بأن أعيش في عصره وبمنحي فرصةً للتتلمذ على يديه إن سمحت ظروف الغربة باللقاء. لم يبق إلا أن أقابله وأن أشد على يده المبدعة احترامًا ومحبةً وأملًا في أن يتسرب إليّ، مع الاقتراب، قدرٌ من موهبته العظيمة يساعدني أن أرقى يومًا إلى ذراه البعيدة.

          في لقاء مع صديقي وأخي الشاعر الكبير «بهاء جاهين»، انطلقت بحماس وتدفق أنشد إعجابي وانبهاري برشق السكين، ورهافة كاتبها، ورحابة عالمه في قصصٍ يُقاس طولها بالأسطر أو عدد الكلمات، وقلبه الذي اتسع للدنيا بكاملها وتسامحه المطلق مع البشر في قوتهم وضعفهم، في انكسارهم وصلابتهم، في عقلهم وفي جنونهم. وكم كانت دهشتي كبيرة وسعادتي غامرة عندما أخبرني بهاء أن محمد المخزنجي يكن قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتقدير لمجموعتي «البساط ليس أحمديًا»، وأن قصة معينة منها تحظى بتقديره الخاص. بلهفة ومحاولة للتحكم في أنفاسي المتسارعة سألت عن القصة التي أعجبته. وكانت خيبة أملي هائلة عندما اكتشفت أنها أطول قصص المجموعة، لا المحاولات المضنية في كتابة القصة-الومضة، التي كنت أتمنى أن تستوقف «شيخ الطريقة» وتنعم بمباركته وتقديره!

          ابتلعت حزني، وتظاهرت بالسعادة، وطلبت من بهاء أن يساعدني في ترتيب لقاء معه. وكانت خيبة الأمل الثانية عندما أبلغني أن محمد المخزنجي ليس موجودًا في مصر، وأنه يدرس في جامعة «كييف» بأوكرانيا. ووعدني أن يجمعنا في لقاء عند وجودنا نحن الاثنين في أرض الوطن.

          ومرت السنون. أنا في غربتي، والمخزنجي في غربته. أعود إلى مصر كل سنة مرة، ظامئًا للقيا الأحبة وللسير في الشوارع وللعودة لأحلام الصبا، وواثقًا أن القدر دون أدنى شك سيبتسم لي هذه المرة وأقابله. وفي كل زيارة يكون الرد: «كان هنا وسافر الأسبوع الماضي» أو «يا خسارة، سيعود بعد سفرك بأيام قليلة». ظللت لسنوات طويلة أتابع كل حرف يكتبه، وألتقي به في كل ما ينشر من أعمال، في قصصه وفي أدب الرحلات، ولا يخذلني قط. يعجبني ويبهرني ويثير في قلبي شجنًا حلوًا. وأرى في كل ما أقرأه له ما أطمح له وما أطمع فيه وما لن أصل إليه أبدًا، إذ أنني بعد صدور مجموعتي القصصية الثانية «أم الشعور«- التي قوبلت كسابقتها بصمتٍ مدوٍ يصم الآذان اتخذت قرارًا انفعاليًا غاضبًا ألا أكتب -وإذا كتبت- ألا أنشر كلمة بعدها.

          رغم كل محاولاتي، لم يسعدني زماني بلقائه. استمررنا في تبادل رسائل المودة عن بعد من خلال صديقنا المشترك بهاء جاهين الذي أخذت أقول له فيما يشبه المزاح إن هذه القصة تتطور بشكل يحتم أن تكون لها إحدى نهايتين: واحدة تتسم بالكمال الفني والأخرى تفيض بالسعادة الإنسانية. النهاية الفنية الكاملة هي أن نلتقي يومًا، ويحدث معنا ما حدث مع «تورجينيف» و«تولستوي» من غير تشبيه ولا تمثيل طبعًا لقاء بعد طول انتظار ثم يكره كل منا الآخر ولا يطيقه بغضًا على الرغم من سنوات الإعجاب الأدبي المتبادل عن بعد. أما النهاية الإنسانية الجميلة التي أتوق لها فهي بالطبع أن تولد بيننا صداقة وطيدة تتناسب مع ذلك التقارب الروحي الذي أحسه كلما قرأت كلماته وأعماله التي أتابعها بشغف لا ينضب.

          في صيف عام 2003 كنت أسير على شاطئ البحر قرب الإسكندرية. القمر بدر تام الاستدارة وشديد القرب من ماء البحر حتى ليمكن للواحد أن يمد يده فيقطفه. النسيم منعش، والحديث مع صديقي هامسٌ ودفيء. اللغة العربية التي تتناهى إلى سمعي من نداءات الباعة وأحاديث السائرين وألعاب الأطفال تروي ظمأ عام من الغربة القاحلة. فجأة رن هاتفي المحمول. رأيت على الشاشة رقمًا لا أعرفه. ترددت للحظة في الرد ثم غلبني الفضول. جاءني صوتٌ هادئ يفيض سلامًا يقول: مساء الخير، أنا محمد المخزنجي. تلعثمت وترددت ثم قلت بحبور: يا ألف أهلًا وألف سهلًا. هل تعرف بأي شوقٍ وبأي لهفة انتظرت هذه المكالمة؟ متى سأراك؟

          معجزة صغيرة أخرى في هذه القصة الجميلة. لم أكن أعرف شكله. لم أر له صورة من قبل. ومن المؤكد أنه لا يعرف شكلي أيضًا. كيف إذن قام من جلسته في ركن مقهى جروبي طلعت حرب ليحييني متهللًا؟ وكيف عندما رأيته على البعد أخبرني قلبي أنه هو؟ تصافحنا بمودة ومحبة.

          ومن جانبي بشوق وبتقدير يكاد يقارب التقديس. شربنا الشاي وأكلنا الحلوى التي لم يقارب مذاقها على لساني حلاوة سعادتي بالجلوس في حضرته.

          لا أذكر بالتحديد ما قلناه ليلتها. أذكر فقط إحساسي بالبهجة الصافية برؤيته وبالاستماع إليه. كنت أيامها أمر بأزمة هائلة بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي زلزلت عالمي كمصري عربي نيويوركي مسلم ووجدت نفسي للمرة الأولى منذ وقوع ذلك الحدث- أفتح قلبي وأقول كل ما فيه، وسعدت باستماعه إليّ دون أحكام وبتسامح مطلق لا يقدر عليه إلا قديس. ليلتها أهداني كتابه «وقائع غرق جزيرة الحوت» بإهداء رقيق يقول: «إلى فلان الذي نفتقده إنسانا وكاتبًا جميلًا». هذا رغم أنني لم أكن قد نشرت كلمة لأكثر من عقد من الزمان. مست هذه الكلمات البسيطة الرقيقة نقطة في أعمق أعماقي وفجرت في قلبي حنينًا جارفًا للكتابة. وسألت نفسي كيف غاب عني إنه من العار أن أقابل الصمت بالصمت؟ الصمت لا يواجه إلا بأعلى صوت. وفي طريق عودتي للبيت أخذت أتصفح الكتاب وأفكر «هل هي صدفة أن يخرج أديبان مصريان من الوطن في نفس الوقت تقريبًا ويتجه أحدهما إلى أوكرانيا والثاني إلى أمريكا ليشهدا بأعينهما كارثتي «تشيرنوبيل» و11 سبتمبر؟» وهاهو محمد المخزنجي قد قام بواجبه، وأنت ماذا فعلت؟ انزويت محتجًا كطفلٍ غاضب مطالبًا العالم بأن يحتفي بك وإلا حرمته من أعمالك؟ ألا تخجل؟

          وهكذا بفضل محمد المخزنجي ولقائنا الأول في جروبي طلعت حرب عدت للكتابة وللنشر، وكانت أربعة أعمال ما كان لها أن تخرج إلى النور لولا ذلك اللقاء الأول معه. محمد المخزنجي ليس أعلى كتاب جيلي قامةً ولا أكبرنا موهبةً فحسب، وإنما هو أيضًا صاحب فضلٍ شخصيٍ عميمٍ عليّ. وها أنا أعترف بالفضل لأهله.

          منذ ذلك اللقاء أسعدني حظي بأن ألتقي به مرة في كل عام عند زيارتي السنوية لمصر. أقضي معه ثلاث ساعات قد تنقص أو تزيد بضع دقائق، لكن الغبطة التي تبعثها في روحي والنور الذي تضيئه في عقلي لا ينقص أبدًا. ولا ينقص امتناني لدنياي التي تتيح لي أن أستريح في ظله الوارف ثلاث ساعات سنويًا.

          عندما تعض بأسنانك في ثمرة ناضجة وتتلذذ بطعمها الشهي، أنت في الحقيقة تذوق نور الشمس التي أنضجتها، وتتذوق تقلبات درجات الحرارة بين الليل والنهار التي ركزت السكر فيها، وتذوق الماء الذي رواها، وتذوق أحلام من زرعوها ومخاوفهم وعرقهم الذي سقاها وتذوق آمالهم وبهجتهم بالحصاد، في قضمة واحدة تذوق حياةً بأكملها صنعت تلك الثمرة الناضجة. وهكذا الحال مع كتابات محمد المخزنجي؛ في كل سطر وفي كل كلمة تقرأ ثقافته الواسعة، ومزجه للعلم الرصين بالأدب الجميل، وتقرأ روحه الرحبة وقلبه الذي اتسع للناس جميعًا في قوتهم وضعفهم، في انكسارهم وصلابتهم، في عقلهم وفي جنونهم.

          عندي تصنيف للأعمال الفنية يخصني وحدي، لا ألزم به أحدًا ولا أسعى قط لأن أقنع به أحدًا. هناك أعمال تعجبني، وهناك أعمال تبهرني، وهناك أعمال يجب أن يقف أمامها الواحد بخشوع وإجلال. هذه في رأيي ذروة سنام الأمر. ولا أعرف لمحمد المخزنجي عملًا لا يدخل في تلك الفئة .. الأعمال التي يقف أمامها الواحد بإجلال..
-----------------------------------
* كاتب مصري مقيم في نيويورك.

 

حسام فخر*