د. نديم خشفة وهناء طيبي

د. نديم خشفة وهناء طيبي

ما زالت العلاقة بين الإبداع الأدبي والمدارس النقدية التي تتناوله بالتحليل تثير الجدل، فقد ظهرت جمهرة من هذه المذاهب النقدية وتراكمت عبر عصور متطاولة من النقد والتأليف والابتكار، وإن كانت كلهـا يغلب عليها طابع الأصوات المتفردة ذات الاختصاص، ومن ثم ارتفعت أصوات فكرية عديدة تدعو إلى نوع من المصالحة والتوفيق بين هذه المدارس لاستخلاص منهجية علمية مقبولة تراعي الحركات التحديثية في الأدب فكانت البنيوية. المنهجية البنيوية هي أحد جوانب حوارنا مع الكاتب والناقد نديم خشفة الذي اعتمد هذا المذهب كممارسة تطبيقية في كتابه "جدلية هناء طيبي الإبداع الأدبي " وهو من مواليد حلب وقد عمل في المجال الوظيفي قبل أن يحصل على إجازة الأدب العربي من جامعة دمشق، ثم قدم الدراسات العليا والدكتوراه في فرنسا حول النقد الأدبي الحديث وأقام في الجزائر مدة طويلة عمل خلالها في مجالات الثقافة والتدريس والإعلام والتلفزيون والإذاعة والصحافة، ومن مؤلفاته بالإضافة لما سبق مجموعة قصصية بعنوان "مباهج باريس " وترجمة لقصص فلسفية عن فولتير وكتاب البنيوية التكوينية ودراسات في الناقد لوسيان جولدمان، وقد أجرت الحوار مع نديم خشفة الصحفية والأديبة هناء طيبي وهي تختص بالحوارات الأدبية والفكرية.

  • دكتور خشفة: أنت اليوم من مطبقي المنهج البنيوي في النقد الأدبي، وقد اخترت هذه المنهجيـة تطبيقاً لنيل رسالة دكتـوراه بالفرنسية، تحت عنوان "جدلية الإبداع الأدبي " ما مبررات اختيـارك لهذه المنهجية وحدودها؟

    - اختيار العنوان مرتبط بلا شك بالموضوع العام للبحث وينبغي أن يدل عليه، ولو دلالة بعيدة، فالمقصود بالجدلية هو ذلك التحاور بين الذات والموضوع، وبين الشكل والمضمون، وبين الإنسـان والكون بشكل عام، هذه فرضية مسبقة ولكن للبرهنة عليها لا بد من تناول موضوع محدد ومنهجية قابلة للإجراء والتطبيق وقد شاع الآن بين النقاد، مفهوم خاطئ في اعتقادي وهو أن المناهج النقدية لها فترة محددة من البقاء والحياة بين السطور أو تحتها وهذا المفهوم يعني أن النقد هو موجة أو موضة تندفع نحو الشاطئ ثم تتراجع ولا تترك وراءها سوى الزبد، هذه الفكرة تتغاضى عن مفهوم التراكم المعرفي الذي تبنى عليه الحضارات بشكل عام، فكل عصر يحمل إلى الحضارة بعض المفاهيم والإضافات الفلسفيـة والفنيـة والتقنية ومع مرور الزمـان تتأكد مصداقية بعض هذه المفاهيم أو تنفى فيبقى شيء قليل منهـا أو كثير وتضيف الأجيال التالية ما وسعها من المعرفة إلى جهود سابقيها وهذا ما نعنيه بالتراكم المعرفي،، فليست هناك موضة تنسب إلى لانسون أو تين أو هازيلت أو بشلار أو سارتر أو بارت، بل هناك مناهـج نقدية ومفـاهيم جمالية، تحمل شيئاً من الصدق والواقعية، وكثيراً من الزيف والشخصانية فإذا انحسرت هذه الموجة تركت بعضاً منها في الذخيرة الإنسانية التي نسميها الحضارة البشرية، والذين يزعمون أن الظواهرية أو الوجودية، أو البنيوية، قد انتهت، لم ينتبهوا إلى هذا المفهوم الذي قدمناه. إذن كيف نفسر انتشار بعض المناهج دون غيرها في عصر من العصور؟.

    هناك شيء اشتهر لدى الألمان خاصة، وهو روح العصر، ومعناه أن بعض الأفكار أو المناهج المعرفية أو النقدية تسيطر على جيل ما لفترة محدودة، ولكن هذه السيطرة تتسم بالمبالغة والشطط فيكون رد الفعل عليها مذهباً آخر، يتلافى نواقصها ويضعها في حدود إمكاناتها فتنشأ من المذهب القديم ورد الفعل الجديد جدليـة أخرى تسير بالفكـر إلى التقدم، وهذا ما أشار إليه غورفيتش في مفهوم حول الاندفاع الذاتي للثقافة.

  • لقد طرح المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مناقشته مع المفكـر المصري حسن حنفي، إشكالية المشرق والمغرب، وبحكـم وجودك مدة طويلة في المغرب العربي والجزائر خاصة، من خلال عملك في مجال الثقافة والإعلام، نجدك مؤهلاً لإعطـاء رأيك في مجمل ما قدمته مناقشة المفكرين؟

    - لقد تابعت المناقشة على صفحات "اليوم السابع " ولي عليها بعـض الملاحظات ولن تكـون منصبة على القيمة العلميـة والثقافية للمتحاورين، فـلا جدال في ذلك ولكن الفرضيـة التي انطلق منها الحوار خاطئة في رأي، فعندما نفترض وجود شخصية معـرفيـة للمشرق وأخرى للمغرب نقوم بإسقاطات معاصرة على حالات قديمة غير موجودة، فابن رشد مثلاً لا يمكن اعتباره فيلسوفاً مغربياً (أندلسياً) إلا من حيث مولـده، أما تكوينه الفلسفي فهو خلاصة للتراكم المعرفي للثقافة الإسلامية، كما أن ابن خلـدون على الرغم من مولده التونسي ونشأته الأندلسية لا يمكن اعتبـاره تـونسياً إلا من حيث الميلاد أما تكوينه الفكـري ومنهجيته النقدية التاريخية فهي ضاربـة جذورها في أعماق الثقافة الإسلامية بشتى أقطارها، فالقول بأن الفكر الفلسفي (المغربي) يتميز بالعقلانية، بينما يتميز الفكر (المشرقي) بالوجدانية، لا يأخذ بالاعتبار وحدة الفكر في العصر الإسلامي الوسيط، ودليل ذلك أن ابن خلدون مثلاً، كان قاضياً في الأندلس، ومصر وبلاد الشام ولم يجد صعوبة في استخدام معارفه، على الرغم من الفوارق الجغرافية، أما محتوى تلك المناقشات فقد أظهر أن جدلية المشرق والمغرب، لا تزال قائمة في فكر الإخوة المغاربة على الأقل وأن قضيـة المركز والأطراف تستأثر باهتمامهم، ولا أظن هذا صحيحاً في عصر الاتصالات الحديثة التي ألغت المسافات وألغت بالتالي مفهوم المركزية.

  • ولكن، وعلى الرغم من أننا في عصر ألغت فيه الاتصالات الحديثة المسافات - كما ذكرت - فإننا لا نعـرف الكثير عن الأدب المغربي عامة، والمكتوب بالفرنسية خاصة في أي إطار تضع هذا الموضوع؟

    - يمكن وضع هذا الموضوع في إطار المثاقفة، أو التأثير الثقافي، فيجب ألا ننسى أن المغرب العربي بدوله الثلاث (تونس - الجزائر - المغرب) قد تعرض لتأثير اللغة الفرنسية مدة قرن أو يزيد، وقد واجهت اللغة العربية المتحجرة على ألفية ابن مالك، وشروح الموطأ، واجهت لغة أجنبية تستمد قـوتها من أعلام النهضة الفرنسيـة وكتـاب الأنسكلوبيديا، فلم يكن الصراع متكافئة ونتج عنه وجـود جيلين أو ثقـافتين، المثقفـون بالفرنسية، والمثقفون بالعربية، ودون الدخول في تفصيلات واسعـة، نقول إن اللغة الفرنسية وضعت المبدعين المغاربة مبـاشرة في القرن العشرين، واستخدموا أشكال التعبير الحديثة للإعراب عن قضاياهم الوطنية والانفعالية، فالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية يملك تقنية عالية، لأنه لا يمكن الفصل بين اللغـة والفكـر، وبالتالي بين اللغة والثقافة بشكل عام، وبكلمة أخرى لقد اختصر الأدباء المغاربة المسافات ولم يندرجوا كما فعل زملاؤهم في المشرق من الخاطرة إلى المقالة إلى القصـة التعليمية إلى القصة الفنية الحديثة بمقوماتها الفنية.

    التجربة الحضارية.. الربح والخسارة

  • ألا تظن أن ما ربحه الكتاب المغاربة في الـزمن قـد خسروه في عمق التجـربـة الحضارية؟

    - التعامل مع التراث يختلف بلا شك في منطقة المغرب عن المشرق، وذلك لأسباب تاريخية ومعرفية ذكرنا بعضها، ونضيف إليها خاصية سيوسيولوجية تتعلق بالتركيبة البشرية، لكلتا المنطقتين، فعلى حين لا يوجد في منطقة المغرب سوى الديانة الإسلامية على المذهب المالكي وبعض الإباضية، ولا يوجد سوى عرقين، العرب والبربر، نجد في المشرق ملغمة AMALGAME في الديانات أو المذاهب والأعراق واللغات واللهجات وغيرها، هذا التنوع نشأ عنه اختلاف في التكوين الفكري والحضاري لكلتا المنطقتين وهو في رأي ما يميز المشرق عن المغرب بشكل رئيسي، كما أن تعرض المغرب للسيطرة المباشرة للثقـافة الفرنسية قطعه بشكل أو بآخر عن جذوره الحضارية، ولم يحدث في أي قطر من أقطار المشرق أن تعرض لمثل هذه القطيعة المعرفية - الكتاب المشارقة يئنون تحت ثقل من التراث الشفهي والمكتوب وهم سادته وأسراه في آن واحد، سادته من حيث معايشتهم له والانغماس في عبقه وتنفسـه في حياتهم اليومية وخيالاتهم الإبداعية، وهم أسراه لأن الانفلات من شباكه عسير جداً، لم ينجح فيـه سوى قلة أمثال جبران وبعض المهجرين، ومما يؤيد رأينا أن النهضة الحديثة جرت بجهود هؤلاء المهجرين بعد أن تحرروا من الإطار الجغرافي والمحيط التاريخي والحضاري بشكل عام لبلادهم الأصلية.

  • إذن هل الكتاب العرب المشارقة، وخاصة روائيي مصر المحدثين والأكثر حداثة، أمثال إبراهيم أصلان، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيـد.. وغيرهم، هل هـؤلاء يخضعـون لجدليـة السادة والأسرى؟

    - نرجع إلى فكرة التراكم الثقافي، لقد حدث منذ أن كتب المويلحي "حديث عيسى بن هشام" حتى نشر نجيب محفوظ ثـلاثيتـه، تراكم ثقـافي في مجال الرواية وجرب الروائيون عدداً من أشكال التعبير بمختلف مذاهبها الفنية والتزاماتها الأيديـولوجية، وجيل الغيطاني مثلاً يعتبر تجاوزاً لمرحلة نجيب محفوظ، فهذا الجيل يبحث عن أصالة الانتماء وأصالة التعبير عن هذا الانتماء، وهنـا نشير إلى التمازج المعروف بين المضامين الثقافية، وأشكالها المعبرة عنها، ونستطيع القول إن النهضة الثقافية الحقيقية تبدأ عندما تجد الأنساق الفكرية أشكالها الملائمة لها، أما في المغرب العربي، فلم يتعـرض المثقفون إلى مثل هذه التجربة الحضارية لأن النهضة الفكرية استمدت نفسها من شجرة الثقافة الفرنسية، ونجد أن الإبداع اتخذ اللغة الفرنسية وسيلة تعبيرية، وطرح لذلك إشكالية جديدة حول الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية.

    وطن الأدب

  • وأين نصنف هذا الأدب المكتوب بالفرنسية؟

    - سأجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر، طرحه سارتر وهو: لمن يكتب الأديب؟ فإذا كان يكتب للجمهور من المثقفين بالفرنسية فإنه سيبقى حتى يستنفد جمهوره، ونلاحظ هنا أن الأدب المغـربي بالفرنسية لا يعتبر بـالنسبة لتـاريخ الأدب الفرنسي أدباً فرنسياً، فهو ليس أدباً عربياً ولا أدباً فرنسياً، في المختارات الشعرية التي تطبع في فرنسا لا نجد سوى اسم "جان عمروش " مثلا، ونفتقد أسماء مثل كاتب ياسين، مالك حداد، جمال عمراني، وعشرات غيرهم، فالسؤال عن هوية هذا الأدب هو سؤال بالتالي عن هوية هـذا الجيل الذي يملك قلباً وفكراً وشعوراً عربياً، ولا شك في ذلك، ولكن لسانه ينطق بالفرنسية، والسؤال إلى متى نستطيع تجاهل البديهية المعروفة في الألسنية وهي العلاقة الجدلية بين اللغة والفكر.

    التغريب والأصالة

  • سؤال أخير، هل تعتقد أن النوعية الثقافية الفكرية في المغرب هي ضد التغريب الذي تعرضت له هذه البلدان؟

    - يجب الإشارة بدءاً من أن عملية التغريب لم تكن بنفس الحدة لبلدان المغرب العربي، فعلى حين أن التراث كان أكثر حضوراً وتأثيراً في المملكة المغربية وتونس نجد أن الثقافة الفرنسية أكثر تأثيراً في العمق والامتداد في الجزائر، ولا شك أن العودة إلى الأصالة هي عمل مشروع ومفهوم في العملية الثقافية، لقد ظهرت كتابات في المملكة المغربية تتسم بـالنضج والعمق وهي محاورة للذات جمع الآخـر، ولا ريب أنها استندت إلى تجربة المفكرين في المشرق لكنها حافظت على تفردها المبتكر سواء كان ذلك في المجال الفلسفي أو النقدي أو الإبداع التشكيلي، فقد أظهر المغاربة أصالتهم وتميزهم، ولا أحب المقارنات، لأن كل إبداع هو خلق جديد، وأظن أن الأمل في تجديد النقد الأدبي معقود على النقاد المغاربة خاصة لقـربهم من المصادر الأصلية وسهـولة استيعابهم لها، وعدم وقوعهم تحت الوطأة القاتلة للجزء المتحجر من التراث، وذلك على شرط أن تتسم كتاباتهم بالوضوح ونضج التجربـة والإشارة إلى المراحل الفعالة من النقد القديم.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. نديم خشفة





هناء طيبي