فخ التقانة وأزمة الإنسان

فخ التقانة وأزمة الإنسان

العلم، مهما كان التعريف المقترح لتوصيفه، كان ولايزال الرفيق الأبدي للإنسان منذ خطوته الحضارية الأولى في الكهوف، وإلى آخر الزمان.

على الرغم من أن العقل البدائي كما يقول ليفي بريل - ينصرف عن الأسباب الطبيعية في محاولة فهم ما يجري في المحيط والبيئة، ويميل إلى التأويل الغيبي وضروب العرافة والتمائم والسحر، فإنه يتطابق أحياناً في العمليات الذهنية العامة مع عقولنا نحن أبناء هذا العصر: «إذا سلّمنا بأن تعقل البدائيين للأشياء يتبع الاتجاه نفسه الذي يتبعه تعقّلنا لها، وأن عقلهم يتأثر بالإدراكات التي يتلقاها من الخارج، تأثر عقلنا بها، فقد سلمنا ضمناً بأنه لابد لهذا العقل أن يفكر في ظواهر الكون وكائناته، ويفسّرها على نحو ما يفعل عقلنا تماماً»، وهذا أول العلم.

ومع إدراكنا العميق لضرورة العلم وموقعه الرئيس في بناء حياتنا واتفاقنا مع ما قاله جواهر لال نهرو: «هل هناك مَن يجرؤ على تجاهل العلم؟ نحن نلتمس العون منه في كل أمر، ولا وجود في المستقبل إلا للعلم، ولكل من يناصر العلم» إلا أننا نرى طغياناً، أو لنقل فائضاً من المعرفة العلمية، ويبدو هذا الفائض أحياناً أكثر من حاجتنا إليه، وقد عبّر أبو «الطاوية» الحكيم الصيني لاو - تسو عن ذلك منذ زمن بعيد، فكيف الآن؟ يقول لاو - تسو: «هناك دولة صغيرة، قليلة السكان، لديهم أدوات تسهّل أعمالهم ولكنهم لا يستخدمونها، لديهم عربات وقوارب ولكنهم لا يركبونها، في حوزتهم أسلحة ماضية ولكنهم لا يحملونها، يعيشون في تلك الأيام الماضية، عندما كان العد والحساب باستخدام عقد الحبل». وهناك مقاطع كثيرة بهذا المعنى يلخّصها أرنولد توينبي بجملة واحدة: «إن إنجازات الإنسان التكنولوجية والتنظيمية إنما هي شرك لاصطياده»، ولذا يرى توينبي أن الإنسان المدجج بالمعرفة العلمية وأدواتها سيدمّر «المحيط الحيوي» الذي يعيش فيه، وهو يستعير هذا المصطلح من المفكر الفرنسي «بيار دو شاردان» ليصل إلى الاستنتاج التالي: «إن القوة المادية التي تستمتع بها البشرية قد ازدادت الآن إلى درجة قد تجعل المحيط الحيوي غير صالح للسكن».

محطات إنذار لا تُنسى

لاشك أن البشرية تقف اليوم فوق ذروة سامقة من الإنجازات العلمية الباهرة غير المسبوقة، وقد تمكنت من إحكام سيطرتها المطلقة على الطبيعة لولا بعض الثغرات، ولاتزال البشرية تواصل مراكمة معارفها العلمية إلى درجة لم يعد بإمكان رجل العلم الإلمام بأبجديتها، وصار التخصص الدقيق ملاذ العلماء.

مئات الأحداث الناجمة عن إنجاز علمي كادت تهدد، أو هي هددت بالفعل وجود الإنسان. من هذه الأحداث إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، والذي يقرأ التفصيلات التي رافقت إنتاج هذه القنبلة في لوس ألاموس بقيادة أوبنهايمر، سيكتشف أن الإنسان الخارق علمياً كان غاية في الحماقة والهشاشة الأخلاقية، وهذا التناقض هو الذي قاد إلى حصول الواقعة التي تمثل محطة إنذار متقدمة لما يمكن للعلم أن يفعله، وكم هي طاقته التدميرية غاشمة.

يقول ليكونت دي نوي: «إن شاغل الإنسان الأول كان حتى الآن السيطرة على هذا الكون. أما في الغد، فسوف يجد نفسه مضطراً لأن يتعلم كيف يسيطر على نفسه. إننا بحاجة إلى زمن طويل قبل أن يتمكن القسم الأعظم من الإنسانية أن يبلغ توازناً حقيقياً مع الشرائط المصطنعة التي غذاها عدد قليل من الاختصاصيين المخترعين الكيميائيين، الفيزيائيين، الميكانيكيين».

وهنا تكمن آفة العلم، فقدان التوازن الدقيق في «المحيط الحيوي» الذي يتمظهر اليوم بمشكلة الاحترار المناخي.

منذ حوالي نصف قرن، وهذه محطة أخرى لا تنسى، اشترت شركة ألمانية حق إنتاج أحد المبتكرات الدوائية، الذي من المفترض أن يساعد المرأة الحامل على تجاوز الأعراض المرافقة للحمل، وبعد سنوات من استخدام هذا المركب واسمه «الثاليدوميد» ولد آلاف الأطفال المشوّهين، من دون أقدام، وبيد واحدة، وكم كان من الأجدى أن تترك لمواجهة هذه الأعراض المؤقتة لتكسب مولوداً معافى!

نعود إلى الذرة في محطة ثالثة، ومسألة المفاعلات الذرية هي ثالثة الأثافي، وليس من ورائها سوى الشعور المفرط بالطمع والمكاسب الحسابية في سياق بحث الإنسان عن حلول لحاجته الملحّة إلى الطاقة.

«لنوضح ذلك بالأرقام: عند الاحتراق الكامل لـ1كج من النفط تنطلق كمية من الطاقة قدرها 11.6 كيلووات من الطاقة الحرارية. وعند انشطار نواة ذرات كيلوجرام واحد من الأورانيوم 235 تنطلق كمية من الطاقة الحرارية تكافئ 22.9 مليون كيلوات ساعي، أي أكبر من الأولى بمليوني مرة».

هذا الطمع في كسب مليوني مرة أكثر ينطوي على مخاطر كبيرة ظهرت دفعة واحدة في التسرّب الإشعاعي الذي حدث في مفاعل تشيرنوبل. نحن بالفعل ننعم بتلك الظلال الوارفة التي تهبنا إياها شجرة التقانة «التكنولوجيا» العملاقة، لكن لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يتنبّأ كيف ومتى ولماذا يمكن لجذع هذه الشجرة أن ينكسر ليكون سقوطه المدوي خاتمة لحياتنا القابضة على عنق العلم. سبب كارثة تشيرنوبل: «التصميم الخاطئ والتدريب الضعيف والإهمال الشديد».

تهافت التقانة

هناك معضلات وتحديات نجمت عن كثافة استخدام الإنسان للتقانة، ومقابل فرط الاستخدام هذا، يبدو النظام الأخلاقي والقيمي للفرد وكأنه في العراء، وبعض فلاسفة العلم وصف التطورات في عالم التقانة بأنها خرقاء. لماذا؟

العالم حين يدخل إلى مكان عمله ليبتكر ويخترع ويستكشف ضارباً حوله نطاقاً من العزلة التي قد تستمر لسنوات إلى أن يهتدي إلى هدفه النهائي، وبخاصة في تصميم مبتكراته.

وأمثال هؤلاء العباقرة الذين ندين لهم بهذا العالم الغني بالتجهيزات التقنية، لم يفكروا في ما تتطلبه الحياه العملية، وكان همهم أن يخترعوا، والأدوات التي ابتكروها كانت عندهم أهم من الوظائف التي ستقوم بها هذه الأدوات، وهذه الصورة أو المفارقة تنظر إليها د. يمنى الخولي بهذه الكلمة الموجزة التي تشير إلى «العلاقة الواهية بين العلم وتاريخه. والعلاقة التي كانت متوترة، بل شبه منقطعة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم»، وبكلمة أخرى، فقد كان هناك على الدوام عشوائية في مسيرة الاختراعات العلمية، ولذا استفحلت عملية خنق التقانة للإنسان، وساهم سوء التخطيط العلمي في بروز أزمة على المستوى الحضاري والإنساني لخّصها كاميللري بعنوان كبير هو: «انحطاط الثقافة الصناعية»، وبتعبير أكثر حدّة، استخدمه فريدريك يونيفر كعنوان لكتابه المهم «سقوط التكنولوجيا» والذي يدافع فيه عن يوتوبيا مندثرة، ويهاجم فيه بشراسة مخرجات التكنولوجيا وعلى رأسها الأتمتة التي أنتجت شكلاً جديداً من الرق يتمثل في قول يونيفر: «الإنسان سيد الآلة قد أمسى عبداً لها».

وتفاقم الوضع بمصادرة الميكانيك لحرية الإنسان إلى درجة من البؤس أصبحت فيه «الإرادة الإنسانية وظيفة جوفاء»، وأن هذا المد الآلي التقاني ينذر على الصعيد الاجتماعي بولادة أنماط من القهر والاستغلال والانسحاق، وسيكون هذا المد مدخلاً دائماً للحروب وبوابة للمآسي: «فمادام الجهد التقني يعد عاملاً حاسماً في ميدان الحرب، فهو بالضرورة وجه من أوجه التسليح والتعبئة»، ويكاد يونيفر ينفي عن التقانة أي سمة إيجابية، بل إنه يعتبرها منصة للاعتداء على الروح وعلى الله.

خاتمة

أحد أهم الفلاسفة الذين عالجوا في كتاباتهم سطوة التقنية هو مارتن هيدجر الفيلسوف الوجودي الألماني، فالتقنية - في اعتقاده - استحوذت على شرف الانتصار الكلي على «الأشياء» التي انصاعت واعترفت بفقرها. وفي مقال لهيدجر بعنوان «مسألة التقنية». يكتب: «التقنية تحاصر الطبيعة، توقفها، تتحداها، تخضعها لنظام العقل الذي يطالب كل شيء أن يبرر ذاته وأن يبين الأسباب». وينظر هيدجر إلى التقنية بوصفها «قدر عصرنا»، وأنها تنطوي على أخطار مميتة: «لا يصدر التهديد الذي يثقل كاهل الإنسان في المقام الأول عن التقنية وأجهزتها. لقد أصاب التهديد الحقيقي الإنسان في وجوده. فسيادة التقنية تهددنا من احتمال رفضها عودة الإنسان إلي كشف أكثر أصلية يمكّنه من سماع نداء حقيقة أكثر أولية».

ويبدو هيدجر أكثر تفاؤلاً من الشاعر الفيلسوف يونيفر لأنه على الرغم من اعترافه بخطر التقنية، إلا أنه يستعير بيتاً من الشعر لمواطنه هولدرلين يقول: «حيث يوجد خطر، هناك أيضاً ينمو ما ينقذ».

ما العمل إذاً؟ وأين نعثر على سبل الإنقاذ؟ وكيف نخرج الإنسان من عنق الزجاجة؟ أسئلة كثيرة تؤكد وجود جفوة بين العقل والتفتيش عن أجوبة.

يقول بوكانان في أشمل كتاب يعالج هذه المسألة: «يبدو أن الإنسان الحديث باعتماده على التكنولوجيا من ناحية، ومعايشته من ناحية أخرى لمجموعة من الأخطار التي تتهدده بسبب استعمال أو إساءة استعمال هذه التكنولوجيا بات محصوراً بين شقي الرحى». وهناك جمهرة كبيرة من الكتّاب والفلاسفة يوافقونه الرأي في هذه المصيبة، مصيبة الوقوع بين شقيّ الرحى، وأحد هؤلاء هو جاك إيلول الذي يكشف «عن بصيص أمل للبشرية من حيث إمكان النظرة الروحية».

هكذا نعود إلى المربع الأول الذي انطلق منه الإنسان، أي إلى كهوف دورودوني وجدرانها التي حفظت لنا رسوماً عن خوف الإنسان وهلعه من رؤية الوحوش الكاسرة, ورهانه على اكتشاف أدوات الدفاع عن النفس. إنها المعضلة الإنسانية ذاتها، عقل الإنسان من جهة، وقلبه من جهة أخرى، المادة والروح، اليد الصانعة والمخيلة، ويبدو الخلاص أبعد من المنال.

سؤالان اثنان يحددان وجهة المقاربة بحثاً عن الخلاص: الأول: هل سيندمج الإنسان بالآلة؟ والثاني: هل يسيطر الإنسان أخيراً أم تسيطر الآلة؟

الكاتب فكتور فيركيس، الأستاذ في جامعة جورج تاون، يحدد مقاربة الخلاص بما يلي: «من الواضح أنه كما يترتب على الإنسان اختيار الغايات التي يريد أن يحافظ على شخصيته من أجلها، كذلك يترتب عليه في أقرب وقت أن يختار أسلوب استعماله لطاقاته الجديدة في اندماجه مع الآلة»، وإذاً، لا مناص من الركون إلى الوسطية.

  • من أوابد العقاد عن العلم

تختزل الشعوب تجاربها في الحكَم والأمثال التي غالباً لا يعرف قائلها، ومع ذلك تظل تتردد عبر مئات السنين، ما دعا عباس محمود العقاد إلى تسميتها بـ «الآبدة»، وللعقاد نفسه الكثير من الأوابد جمعها ابن أخيه عامر في كتاب صغير عنوانه «آخر كلمات العقاد». ماذا تقول هذه الأوابد عن العلم؟ سأذكر بعضها:

- العلم يتقدم درجات، لا قفزات «ماكولي 1844».

- العلم كالأرض، ولا يمكننا أن نمتلك منها سوى القليل «فولتير 1649».

- العلم لا يفيد إلا لإعطاء فكرة عن جهلنا «لامنه 1823».

- أفضل العقل وقوف المرء عند علمه.

- نصف العلم، لا أعرف «عمر بن الخطاب».

- العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال «الإمام علي بن أبي طالب».

-----------------------------------

أبحث عنك في مفارق الطرق
واقفة، ذاهلة، في لحظة التجلي
منصوبةً كخيمة من الحرير
يهزها نسيم صيفٍ دافئ،
أو ريح صبح ٍِ غائم ٍِ مبللٍ مطير
فترتخي حبالها، حتى تميل في انكشافها
على سواد ظلي الأسير
ويبتدي لينتهي حوارنا القصير.

صلاح عبدالصبور

 

 

 

نزار خليل العاني

 




 





 





 





 





 





هل تؤدي التطورات التقنية إلى أن يصبح كوكبنا غير قابل للسكن؟





هل يغزو الإنسان الكواكب الأخرى أم يوازن استخداماته التقنية على الارض؟