التناقض المنسجم: فلسفـة سيـاسيـة حقيقيـة أم تأويل لهنري كيسنجـر؟ محمد الرميحي

التناقض المنسجم: فلسفـة سيـاسيـة حقيقيـة أم تأويل لهنري كيسنجـر؟

حديث الشهر

اختار هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكيـة الأسبق عنوانا من كلمة واحدة لكتابه الأخـير الضخم، هي: "الدبلوماسية"، وبين دفتي هذا الكتاب الذي صـدر هذا العـام- وتبلغ صفحاته أكثر من تسعمائة صفحـة- وضع كيسنجر مختصر التاريخ العالمي من منظور أمريكي كي يصل إلى مجموعة محسوبة من النتائج. تذكرت وأنا اقرأ هذا السفر قولا مأثورا مفاده: تفيدك دراسة التاريخ بأن تبدأ مناقشة مقنعة، أي بإلمامك بحوادث التاريخ تستطيع أن تناقش الآخرين بإقناع. وأحسب أن ذلك ينطبق على كتاب كيسنجر هذا. فهـو اختيار أو قل انتقاء لحوادث التاريخ. سماه "الدبلوماسية" لأنه يتحدث عن تاريخ العلاقـات الدولية. والدبلوماسية لها تعريفات عديدة يدرسها طلاب السياسة، من طرائف تعريفاتها ما نقله لي صديق دبلوماسي عربي قال: في شبابنا ونحن نبدأ خطوات الدبلوماسية من أسفل السلم جيء لنـا بمحاضر كي يدرس لنا هذا الخليط من الألغاز والتي تسمى دبلوماسية فقال في أول يوم التقيناه: اسمعوا، الدبلوماسية هي أن يكون في جيبك دائما مشعل سجائر (قداحة) وعندما تجد أحدا يهم بتدخين سيجارته قم بإشعالها له! فرد واحد منا (يقول الصديق) وإذا لم نكن من مدخني السجائر؟. بعـد قراءتي لكتاب كيسنجر تـذكرت تلك القصة القديمة وكانت بداية المقارنة لدي هي كم هي ساذجة وربما متخلفة بل وربـما سطحية نظرتنا إلى الدبلوماسية، وكم هو عميق ومعقـد واقع الدبلوماسية وتطورها التاريخي، ولكنني بعد حين مـن القراءة وجدت أن الـدبلوماسية لها قـاعدة في أية دولة، وعلى مسار التاريخ هي باختصار القوة، بمعنى ليس القوة العسكرية فقط وإنما الاقتصادية والقيمية، وهى التي تنتهي بمحصلة اسمها القوة السياسية. وقارنت من طرف خفي بين القصـة الأولى الساذجة وبين واقع الحال، وقلت لنفسي لقـد كـان مصيبا معلم الدبلوماسية ذاك بشكل ما وربما بطريقة لم يقررها سلفا، فإن لم يكن لديك (مشعل سجائر) هنا بمعنى القوة، فابتعد عن الدبلوماسية.

لقد تصدر كتـاب كيسنجر قـائمة مبيعات الكتب في أوربا والولايات المتحدة (1994) ربما لأن كاتبه هو من هو، فقد كان أستاذا جامعيا في إحدى جامعات الولايات المتحدة (هارفرد)، وربما لأنه حسم مجموعة من السيـاسات الأمريكية عرفت باسمه وباسم صاحبه الذي عمل معه وهـو الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، وفي واحـد وثلاثين فصـلا يمر الكـاتب بالتاريخ الدبلوماسي ويستخلـص من هذا التاريخ عبرا كثيرة. وما سأحاوله أنا هو فقط تلخيص الأفكار الرئيسية حيث إن التفاصيل متشعبة وكثيفة.

القانون الطبيعي

يعتقد الكـاتب أن هناك قانونا سياسيا يكاد يشبه القانون الطبيعي في تكراره وتماثله، ففي كل مائة عام تظهر دولة هي بالقوة والعزيمة والثقافـة والقيم تستطيع تحديـد النظـام العـالمي- أو العـلاقـات الدبلوماسية الدولية- وفق رؤيتها ومعاييرها الخاصة. ففي القرن السـابع عشر كانت الدولة هي فـرنسا تحت قيادة الكاردينال ريتسخليو Richelieu وهي التي حددت أن المفهوم الحديث للعلاقات الدولية مبني على قاعدة الدولة القومية ومدفوع بالمصلحـة القومية كهدف نهائي يراد تحقيقه. وفي القرن الثامن عشر أخذت الدور بريطانيا التي طورت مفهوم توازن القوى في الدبلوماسية الدولية، وهو مفهوم بسط سيطرته على الدبلوماسية الأوربيـة لمائتي عام. وفي القرن التاسع عشر كـان مترنيخ النمسا الذي أعاد تشكيل أوربا من خلال منظور الإمبراطوريـة النمساوية، وفكك هـذا التشكيل بسمارك الألماني بعد ذلك بإدخال مفهوم لأوربا الواقعة في حروب إذ ذاك وهو مفهوم "سياسة القوة"، وفي القرن العشرين لا توجد دولة لها تأثير عميق وواسع على العلاقات الدولية كالولايات المتحدة الأمريكية كـما لا توجـد دولة مثلها في مجتمعها الداخلي يؤكد بقوة سيـاسة عدم التدخل والخوض في الشئون الداخلية للدول الأخرى في نفس الوقت الذي يعتقد فيه بشكل عاطفي أن قيمه وأفكـاره السياسيـة هي قيم عالميـة لا بد أن تتبع وتنتشر. ولا توجد هناك دولة مثلها كانت ومازالت (عملية) في تسيير علاقـاتها الدبلوماسية اليومية ولا أكثر (أيديولوجية) في متابعة قناعاتها الأخلاقية التاريخية على أنها قناعات إنسانية عامة، كـما لا توجـد دولة مثلها أكثر ترددا في تـوريط نفسها في مشكـلات خارجية، في الوقت الذي ترتبط فيه بتحالفات وتعهدات غير مسبوقة في الاتساع والكثافة. كيسنجر هنا يكتشف قانونا سياسيا للولايات المتحدة الحديثة هو باختصار (التناقض المنسجم!).

التفرد الذي تطورت من خلاله الولايات المتحدة كدولة والذي ساهم فيه تاريخ نشوء هذه الدولة وطريقة هذا النشوء أبرز موقفين متناقضين باتجاه السياسة الخارجية. أول هذين الموقفين يقول إن الولايات المتحدة يمكن أن تحقق القيم التي تدعو إليها بشكل أفضل عن طريق تجويد وبلورة نظامها الديمقراطي الـداخلي بشكل أفضل، وبالتالي تصبح المنارة التي تهتدي بها البشرية. والموقف الثاني يقول إن القيم التي تؤمن بها الولايات المتحدة تفرض عليها واجب النضال من أجل تحقيق هذه القيم في العالم، إنها رسالة يجب ألا تتخلى عنها. ويقف المفكرون الأمريكيون في كلا الطرفين مدافعين بقوة عن الرأيين ممزقين بين الماضي ذي المبادىء الجميلـة راغبين في مستقبل أفضل.وتأرجح الفكـر الأمريكي السياسي بين الانعزالية والارتباط، إلا أنه بعـد الحرب العالمية الثانيـة سادت نظرية وسط هي الاعتماد المتبادل، دون أن تخبو الدعوة الفكرية على الأقل للمدرستين الأساسيتين.

في مـدرستي التفكـير، أمريكا كمنارة، أو أمريكا كمناضلة ومتدخلة كلتا المدرستين تتصوران- كحالة طبيعية- علاقـات دولية مبنية على الديمقراطية والتجارة الحرة والقانون الدولي المحترم. ولأنه لا يوجد نظام مبني على هذه الثلاثية- وجد أو يمكن أن يوجد- فإن الدعوة له، من وجه نظر مجتمعات أخرى، تبدو وكأنها مثالية إن تكن في نظرهم ساذجـة. وحتى اليوم فإن السياسيين الأجـانب (غير الأمريكـان) الذين ينظرون إلى هذه السياسة على أنها ساذجة، لا يستطيعون تجاهل دور ودرو ولسون (الرئيس الأمريكي في سنوات الحرب العالمية الأولى) أو فرانكلين روزفلت، وأهمية هذه (المثالية) في تحقيق السلام الدولي.

لقـد أكدت نتائج مسعى هذين الرئيسين الأمريكيين، وبالتأكيد كل رؤساء الـولايات المتحدة في القرن العشريـن، أكد مسعـاهم أن العالم إن كـان يريد حقيقة السلام فعليه أن يتبع وصفة القيم السياسية الأمريكية الثلاثية هذه.

كلتا المدرستين الانعزالية والمتدخلة ،هي نتاج الخبرة التاريخية الخاصة للولايات المتحدة، فعلى الرغم من استحداث جمهوريات عديدة في العـالم، فلا توجد بينها جمهورية بنيت بوعي وعن سابق تصميم على مبدأ الحرية كما هي الولايات المتحدة، لأن الخليط الأمـريكي جاء من مواطنين وشعوب أخرى قررت الهجرة إلى الأرض الجديدة مقتحمة الصعـاب لترويض مجاهلها بـاسم الحرية والرفاه للجميع، وهما الأمران اللـذان افتقدتهما هذه الشعـوب في بلادها الأصليـة، لذلك فإن الرؤيتين المتناقضتين في الظاهر وهما الانعزال والريادة (التبشير بالقيم الجديدة)، متناقضتان على السطح ولكنهما تعبران عن عقيدة واحدة وهي أن الولايات المتحدة لديها أفضل نظام للحكم، مبني على مساواة المواطنين في الواجبات والفرص، وأن العالم يمكن أن يجد سلامه ورفاهه عن طـريق هجر الدبلوماسية التقليدية القديمة واتباع خيار أمريكا في العلاقات الدولية المبني على الديمقراطية.

العقيدة أم التجربة؟

رحلة الولايات المتحدة في العلاقات الدوليـة تفيد بانتصار العقيـدة على التجربة، فقد أدخلت عقيـدتها إلى السياسة الدولية من 1917، لقد كـانت الولايات المتحدة القوة المحركة للاتفاقات الدولية الرئيسية التي أعقبت الحربين الأولى والثانية، فكانت خلف ظهور عصبة الأمم ثم ميثاق الأمم المتحدة، وحتى اتفاق هلسنكي (للحد من انتشار الأسلحة النوويـة وتوسع الحريات) ثم كـانت المبادىء التي نادت بها خلف سقوط وتفتت الاتحاد السوفييتي الذي كان- هذا السقوط السوفييتي- بمثابة انتصار عقلاني للمثالية الأمريكيـة. ومن المفارقات أن كل هـذه الانتصارات قد وضعت أمريكا وجها لوجه مع العالم الذي كـانت تريد أن تهرب منه من خلال تاريخها والذي هرب منه بالفعل الأمريكان المؤسسون الأوائل. في النظام الدولي الجديد الذي يتشكل فإن (القومية) حصلت على دفعـة جديدة للحياة والدول القومية تاريخيـا تابعت مصالحها في الغالب أكثر من مبادئها، وتنافست أكثر مما تعاونت، وهنـاك دلائل قليلة على أن تلك الروح القديمـة قد تغيرت أو يمكن أن تتغـير في العقود القليلـة المقبلة.

ما هو الجديد في النظام العالمي الذي يتشكل أمامنا؟، هو أن الولايات المتحدة لا تستطيع لا الانسحاب من هـذا العالم ولا السيطرة عليه، كـما أن أمريكـا لا يمكن أن تغير طريقها الذي تصورت فيه دورها وهى لا تريد ذلك، عندما دخلت السـاحـة الدولية في عشرينيات هـذا القرن، الذي ينطوي، كانت قوية وغنية ولديها القدرة على أن تجعل العالم ينصاع لتصوراتها في العلاقـات الدولية، فقد كـانت في نهاية الحرب العالمية الثانية بلادا قوية (كان 35% من الإنتاج الاقتصادي العـالمي أمريكيا) لذلك كان لها أن تشكل العالم حسب أولوياتها وخياراتها. جون كنيدي كان ممتلئا بالثقة عندما قال عام 1961 إن أمـريكا (يمكن أن تدفع أي ثمن وتتحمل أية أعباء) لتأكيد الحرية و الديمقراطية. بعد ثلاثة عقود من ذلك القول أصبحت في موقع اقتصادي يجعلها أقل اصرارا على تحقيق رغباتها. لقد أصبحت دول أخرى (قوى عظمى). والولايات المتحدة تقابل التحدي المستجد عن طريق برمجة أهدافها على مراحل من خلال سياسة هي خليط من القيم الأمريكية والمعوقات الجيوبوليتيكية. واحدة من نتائج التغيرات الدولية المستجدة أن العالم أصبـح يحتوي على عدة دول أو تكتلات متقاربة القوة، وعليه أن يبني نظامه الدولي اعتمادا على مفهوم التوازن، وهي فكرة لا تجدها الولايات المتحدة مريحة.

عندما واجهت الأفكار الأمريكية الفكر السياسي الأوربي التقليدي في مؤتمر السلام بعد الحرب الأولى 1919، كان الاختلاف في النظرة- بسبب الخلفية التاريخية - واضحا، وحاول القادة الأوربيون من ناحيتهـم تجديد النظام القائم، فقد كان النظام الذي يعرفونه مريضا ولم يمت، في الوقت الذي اعتقد فيه صانعو السلام الأمريكيون أن الحرب العظمى لم تنشب بسبب الصراع على الجغرافيا السياسية، ولكن بسبب خلل في الممارسة السيـاسية الأوربية، لذلك قـدم الرئيس ودرو ولسـون وقتها نقاطه الأربع عشرة المشهورة، لقد قـال ولسون في نقاطه ما معناه إنه من الآن وصاعدا فإن النظام الدولي يجب ألا يعتمد على (توازن القوى) ولكن على مبدأ حق تقرير المصير للشعوب والقوميات، وان الأمن يجب ألا يعتمد على التحالف العسكري ولكن على الأمن الجـماعي، وان دبلوماسيتهم الأوربية يجب ألا تمارس سرا من قبل متخصصين بل ان تمارس على قاعدة اتفاق مفتوح من خـلال مفاوضات مفتوحة. وجهة النظر الأمريكية وقتهـا لم تكن من أجل ترميم نظام دولي قائم، بل لإعادة هيكلـة العلاقات الدولية والتي كان قد مضى عليها ثلاثمائة سنة من الممارسة.

منذ ذلك الوقت أصبحت أوربا مهتمة بالسياسة الخارجية الأمريكية، فعلى الرغم من أن القيـادة الأوربية نظرت إلى السياسة الأمريكيـة بعدم الموافقة، حيث عينت أمريكـا نفسها- دون دعوة- لقيـادة مهمة إصلاح النظام الدولي، إلا أنها سرعان ما احتاجت إلى الأخيرة عندمـا نشبت الحرب العالمية الثانية، وكـانت هذه الحرب تأكيدا على صحة الأفكـار الأمريكية.

حقيقـة الأمر أن الخيار الأمـريكي من جهة، والأوربي من جهة أخرى للسياسة الخارجية حتى الحرب الثانية كانا نتاج ظروفهما الخاصة، منظرو فكرة توازن القوى في السياسة الدولية يتركوننا تحت انطباع أن توازن القوى هذا هو الشكل الطبيعى للعلاقات الدولية.

حقيقة الأمر أن توازن القوى وجد بشكل نادر في التاريخ الانساني. النصف الغربي من الكرة الأرضية لم يعش في ظل توازن القوى في أية فترة تاريخية، ولا حتى الصين منذ نهاية فترة الدول المتحاربة قبل ألفي عـام. معظم التاريخ البشري كان يعرف حكم الإمبراطوريات، ولفترة تاريخية طويلة كانت الإمبراطورية هي نظام الحكم السـائد، والإمبراطوريـة غير مهتمة بإقـامة نظام دولي، وطموح الإمبراطورية أن تكون هي النظام الدولي، فهي لا تحتاج إلى توازن قوى، وجزئيـا طبقت الولايات المتحدة مثل هذه السياسة في أمريكا اللاتينية وكانت الصين بالنسبة لآسيا خلال معظم تاريخها هي المثال الأوضح.

الخاص يفضي إلى العام

توازن القوى ظهر في الغرب في فترة تاريخية قـديمة في دول المدنية اليونانية القديمة ودول عصر النهضة في إيطاليا. فكرة توازن القوى تطورت مع تطور علم البيولوجيا، والاجتماع الحديث، وهي أن الأنظمة (بيولوجية أو اجتماعيـة) تساند بعضها البعض أو توازن بعضها. آدم سمث الاقتصادي الرأسمالي الأشهر استعار فكـرة (التوازن) هذه في كتابه "ثروة الأمم " فقال إن (يدا خفية) سوف ترفـد الاقتصاد العام من خلال سعي الأفراد لتحقيق مصالحهم الـذاتية. فكرة توازن القوى بين الدول هى أن الجميع سوف يسعى إلى سلام دائم من خـلال تحقيق مصالحه الذاتية. لقد أثـر تطور علوم البيولوجيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في السياسة بالاعتقاد بأن هناك (آلية تلقائية) توجـه إلى الصالح العام. أفكار مثل فصل السلطـات، والمراقبة والتوازن- كـما فكـر فيه منتسكيو وتبناه واضعـو الدستور الأمريكي- هي صدى لـوجهات النظر تلك. مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة هو ليس لتحقيق الاتساق في العمل الحكومي بقدر ما هو مصمم أصلا لتجنب التسلط والاستخدام العشوائي للسلطـة. فكرة التوازن تتحقق في الحكم- كما كان يرى المنظرون- حيث كل فـرع في الحكومة من أجل سعيه لتحقيق أهداف خاصـة به سوف يحد من الشطط في استخـدام السلطة للفرع الآخر وبالتالي يحقق الخير للجماعة ككل.

نفس المبدأ ينطبق على العلاقات الدولية عن طريق السعي لتحقيق المصالح الذاتية والأنـانية لكل دولة، ويفترض ان ذلك يساهم في التقـدم، كأن هناك يدا غير مرئية تؤكد حرية الاختيار- لكل الدول- وبذلك يتحقق رفاه الجميع. لأكثر من قرن كـانت هذه الفكرة وكأنها حقيقة مؤكدة، منـذ الاضطراب الذي سبق الثورة الفرنسية وحروب نابليون التي تلتها، قام القادة السياسيون لأوربا بإعادة التوازن في مؤتمر فيينا عام 1815، بعد أن خـبروا عنت اللجوء الى القوة ومآسي ما تجلبه هذه السياسة، بعد ذاك المؤتمر صار توازن العلاقات الدولية من خلال روابط قانونية وأخلاقية، وفي نهاية القرن التاسع عشر اختل هذا التوازن لتعود ممارسـة سياسة القوة غير المتسـامحة، فأصبحت سياسة مواجهة الأعداء الشكل المعتاد للدبلوماسية، وقادت هذه السياسة إلى سلسلـة من اختبارات القوة حتى وصلت الى 1914 وظهـرت أزمة سياسيـة لم يتراجع عنهـا أحـد فخاضت أوربـا حربا عظمى هـي الحرب العالمية الأولى، وكـان من نتائج تلك الحرب أن أوربا لم تعد بعدها قائدة للعالم.

دور الولايات المتحدة

ظهرت الـولايات المتحـدة على المسرح الدولي لاعبـا أساسيـا بعد الحرب العظمى الأولى وقرر ودرو ولسون رئيس الولايات المتحـدة آنذاك ومعاونوه أن بلادهم لن تلعب اللعبة حسب القوانين التي وضعتها أوربا للعلاقات الدوليـة بحذافـيرها، ولا تـوجد فترة في تاريخ الولايات المتحدة سـاهمت فيها في لعبة التوازن الـدولي، فقبل الحرب العـالميـة الأولى استفادت فقط من توازن القوى دون أن تدخل مناوراتها، وكانت تمتنع عن استخدام توازن القوى في فترة الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة طرفا نشطا في صراع أيديولوجي سياسي واستراتيجي مع الاتحاد السوفييتي، لقد لعب الطرفان في الحرب الباردة في إطار علاقات غير توازن القوة. ففي عالم ثنائي القوة لا يمكن القول إن الصراع ينتهي إلى خير جماعي، في مثل هذا الصراع فإن أية مكاسب لجهة هي خسارة لجهة أخرى.

نصر بلا حرب هو ما حققته أمريكا في انتصارها في الحرب الباردة، ذلك النصر الذي يرغمها اليوم على مواجهة المعضلة التي وصفها الكاتب الإنجليزي الساخر برنارد شو مرة حيث قال: هناك مأساتان في الحب: الأولى أن تخسر، والأخرى أن تكسب.

القادة الأمريكيون اعتبروا أن القيم التي يؤمنون بها هي قيم عادية بل من المفروض أن تكون دون أن يعرفواكـم هي ثورية هذه القيم كـما تبدو للآخرين.

السنوات القادمة والتي هي سنوات ما بعد كسب الحرب الباردة ستفقد الولايات المتحدة تفوقها العسكري النسبي، بل إن قوتها العسكرية، نتيجة للأوضاع الاقتصادية التي تعانيها، آخذة في التضاؤل.

في أثناء الحرب البـاردة تفكك المفهوم التقليـدي للقوة، ففي معظم أوقات التاريخ كانت القوة السيـاسية هي محصلة للقوتين الاقتصـادية والعسكرية للـدولة، وفي نهاية الحرب الباردة أصبحت القوة السياسية تعادل القوى الأخرى وليست محصلة لها.

بعد كسب الحرب الباردة، لم يعد هناك عدو واضح وخطير يهدد مصالح الولايات المتحدة لذلك فإن ضغوطا داخلية سوف تتعاظم لدفع الإدارة إيا كانت، لتحويل الموارد المتاحـة من الدفاع إلى أولويات أخرى، وهـذا سيجعـل الـدول التي لها عـلاقـات استراتيجة بالولايات المتحدة، وكانت منضوية بشكل مـريح تحت جناح القـوة العسكريـة والسياسية الأمريكية، سيجعلها مضطرة لأن تتولى مسئوليات أكبر في تحقيق أمنهـا الوطني. لذلك فإن الخطوات التي سوف تتخذ باتجاه النظام الدولي الجديد، سوف تتضمن توازنا عسكريا، حيث تضطلع الدول الأخرى بمهمات عسكـريـة.

النظام العالمي الذي يتشكل اليوم للقرن الـواحـد والعشرين يتميز بتعارضين ظاهرين: التقوقع من جهة، ومن جهة أخرى العالمية. هذا على مستوى العلاقـات بين الدول. والنظام الجديد سوف يشابه نظام الدول الأوربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهو تعددي بدلا من كونه ثنائيا (الذي سيطر على فترة الحرب البـاردة). هذه التعددية سوف تتشكل من ست قوى عظمى على الأقل، الولايـات المتحدة، أوربا الموحدة- أو المتجهة إلى التوحد، الصين، اليابان، روسيا وربما الهند، بجانب مجموعة من الدول المتوسطة والصغيرة، في نفس الوقت فإن العلاقات الدوليـة سوف تصبح دولية على الوجه الحقيقي حيث إن ثورة الاتصالات التي نشهد بـدايتها سوف تقرب بين القارات والشعوب، كما أن الاقتصاد يكاد يكون دوليا، وهو يعمل اليوم في جميع القارات بشكل متزامن.

كـما أن هناك قضايا جديدة ظهرت على سطح العالم لا يمكن التعامل معها الا بشكل جماعي على المستوى العالمي، قضايا مثل الحد من التسلح النووى، وقضايا البيئة، والانفجار السكـاني، والاعتماد المتبادل في الاقتصـاد. وبالنسبة لأمريكا فإن محاولة التوصل إلى وفـاق بين قيم مختلفة وخلفيات تاريخية مختلفـة لهذه الدول سيكون خبرة جديدة وافتراقا أساسيا عن عزلة القرن الماضي أو السيطرة إبان الحرب الباردة، في الوقت نفسه فإن المشاركين الأساسيين في النظام الجديد سوف يواجهون صعوبات التكيف مع هذا النظام.

اللاعبون الآخرون

أوربا الغربية هي المنطقة الوحيدة في العالم الحديث التي خبرت نظام الدول المتعددة وهي التى صكت مفهوم الدولة القومية كما صكت مفهوم السيـادة وتوازن القوى، هذه الأفكار سيطرت على العلاقات الدولية لزمن طويل، ومشكلة أوربا أنه لا توجد دولة فيها اليوم هي من القوة التى تمكنها من المساهمة في النظام الدولي الجديد وحيدة، ولتغطية العجز النسبي هذا فإن أوربا تحاول إنشاء وحدة أوربية، وحتى لو نجحت في بعض الوجوه فستظل تفتقر إلى خطوط عريضة موحدة لسياسة أوربية على المستوى العالمي، ببساطة مثل هذه السياسة لم تكن موجودة في الماضي ومن الصعب تصورها في المستقبل القريـب.

اما روسيا فإنها خـلال تاريخها الطويل كانت حالة خاصة، لقد دخلت الساحة الأوربية متأخرة- بعد فترة من نضج الدولة في بلاد مثل إنجلترا وفرنسا- ولم تتبن أي مبدأ من المبادىء التقليدية للدبلوماسية الأوربية، روسيا محاذية لثلاث ثقافات مختلفة: أوربا وآسيا والعالم الإسلامي، وهي تحتوي على سكان من كل هذه الأطراف وهي بالتالي لم تكن يوما دولة قومية بالمعنى الأوربي، حـدودها دائما كانت متغيرة، حكامها يستولون على أرض جديدة فتصبح جزءا من الإمبراطورية، ومع كل احتلال وتوسع تتغير شخصية الدولة وتشمل أعراقا جديدة، هذه أحد الاسباب التي اضطرت روسيا بسببها إلى أن تحتفظ على الدوام بجيش كبير قوي ضخم لا يتناسب مع أي تهديد خارجي، وظلت مشدودة بين شعور قوي بعدم الأمن وحماس تبشيري للتوسع، بين مطالب أوربا وإغراء آسيا، لقد كان للإمبراطوريـة الروسية دور ما في التوازن الأوربي ولكنها لم تكن روحيـا جزءا منه، واحتياجـات الأمن والتوسع اختلفت في عقل القادة الروس. ومنـذ مؤتمر فيينا فإن الإمبراطورية الروسية زحفت بقواتها العسكرية إلى أرض أجنبية عددا من المرات أكثر من أية قوة دولية أخرى. المحللون السياسيون غالبا ما يفسرون التوسع الروسي على أنه منطلق من إحساس عميق بعدم الأمن، ولكـن كتاب روسيا غالبا ما يبررون التدفق الروسي إلى الخارج على أنه عمل وطني. روسيا ما بعـد الشيوعية تجد نفسها ضمن حـدود جغرافية ليس لها سابقة تاريخية، ومثلها مثل أوربا سوف يتحتم عليها بذل الكثير من طاقتها لإعادة تجديد حيويتها، والاسئلـة عديدة: هل ستعود لفكرتها القديمة في الإمـبراطورية وتعيـد بناءها، هل ستحول مركز ثقلهـا إلى الشرق ويكون لها نشـاط أكثف في الدبلوماسية الآسيوية؟ وعلى أية مبادىء وبأي الطرق سوف تستجيب روسيا للمشكلات والقلاقل المحيطة بحدودها خـاصة في الشرق الأوسط المليء بالعنف؟ الا أن روسيا ستبقى دوما أساسية للنظام الدولي.

الصين أيضا تـواجه نظاما عالميا جـديدا عليها، لألفي عام كانت الإمبراطورية الصينية قد وحدت عالمها تحت حكم إمبراطـوري واحـد، ذلك الحكم كـان له عثراته في بعض الأوقـات، لقـد نشبت الحروب في الصين من حيث العدد لا أقل من نشوبها في أوربا، ولكن لأنها وقعت بين متنافسين على كرسي الإمبراطورية، فقد كانت طبيعة هذه الحروب حروبا أهلية لا حروبا دولية، وفي نهاية المطاف كـان مثل هذا الصراع يؤدي الى بروز قوة مركزية تحت ظل إمبراطور واحد، قبل القرن التـاسع عشر لم يكن للصين جار قوي قادر على تحدي سلطتها، ولم تكن الصين تتصور أن يحدث ذلك، حتى الفاتحون القادمون من الخارج عندما يطيحون بالعـائلات الحاكمة الصينية سرعان ما تستوعبهم الحضارة الصينية ويجدون أنفسهم بعد حين يكملون مسيرة تلك الحضارة فكرة المساواة والسيادة للدول فكرة لم توجد في الصين، الصينيون تاريخيا يعتبرون الأجانب برابرة، ويرتبطون معهم في أحسن الأحوال بروابط تبعية أي أنهم تابعون فقط.

هكذا استقبل أول مبعـوث بريطاني إلى الصين في القرن الثامن عشر، الصين كانت تترفع عن إرسال سفراء لها الى الخارج، ولكنها لم تكـن تترفع عن استخدام البرابرة البعيدين للإيقاع بالبرابرة القريبين وكانت هذه الاستراتيجية استراتيجيـة الطوارىء، وليست دبلوماسية ممارسة يومية مثل سياسة اوربا في توازن القوة، لقد فشلت الصين في تبني مؤسسات دبلوماسية أوربية الطابع، وبعد أن أصبحت الصين دولة مهزومة ومستعمرة من القوة الأوربية في القرن التاسع عشر عادت وظهرت من جديد ومتأخرة بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت في عالم متعدد القوى غير مسبوق في تاريخها.

اليابان عزلت نفسها عن العالم الخارجي لمدة خمسمائة عام قبل ان تفتح للعالم بالقوة من قبل الغربيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اليـابان لم تعتمد حتى موازنة البرابرة ضد بعضهم أو حتى احتراف علاقات التبعية مع جيرانها- كـما فعلت الصين- وظلت مغلقة أمام العالم الخارجي، ولقد ظلت اليابان تفتخر بتقاليدها التي لا مثيل لها منغمسة في تقاليدها الحربية بحروب أهلية، بانية هيكلها الداخلي على قناعة أن تقاليدها الخاصة جـدا محصنة ضد التأثير والنفوذ الخارجي، وهي على كل حـال أرقى منه وأنها سوف تهزمه أكثر مما تمتصه.

في أثناء الحرب البـاردة عندما كان الاتحاد السـوفييتي هو التهديد الأكبر لليـابان قاربت اليابان بين سياستها الخارجية وأمريكا على بعد آلاف الأميال.

النظام الدولي الجديد وتحدياته العديدة سوف يجـبر بلادا مثل اليابان لها تاريخ يفتخر به أهلها، أن تعيد التفكـير باعتمادها على حليف واحـد، فاليـابان لا بـد ان تلتفت بحساسية أكـبر لتوازن القوى في آسيا أكثر من حساسيتها تجاه أمريكا التي هي في مكان آخر من العالم. الصين وكـوريا وجنوب شرق آسيا على وجه العموم ستكون موضع اهتمام خاص من اليابان وسوف تتشكل بناء على ذلك سياسة يابانية خاصة مستقلة ومعتمدة على النفس. بالنسبة للهند التي تبرز الآن كقوة سياسيـة في جنوب آسيا فإن سياستها الخارجية، بأشكال كثيرة، آخر شواهد أيام الإمبراطورية الغربية مغموس في تقاليد وثقافة قديمة. قبل وصول الإنجليز إلى الهند فإن شبه القارة الهنـدية لم تكن تحكم كوحدة سياسية واحدة، والاحتلال البريطاني للهند تحقق بعدد قليل من القوات ذلك لأن الأهالي وجدوا القادمين الجدد بديلا لمحتلين آخرين، ولكن بعـد توحيـد الحكم فإن الحكم البريطاني زال في النهايـة بسبب الفكرة القومية التي جلبها الحكم

الإمبراطوري للهند، فالهند كدولة قـومية حـديثة بهذا المعنى، هي اليوم منهمكة في صراع لإطعام شعبها بالغ الكثافة السكـانية ومتعدد الأعراق، وهي ساهمت بشكل سطحي في حركـة عدم الانحياز إبان الحرب الباردة، ولكنهـا سوف تلعب دورا يتناسب وحجمها على مسرح السياسة الدولية في المستقبل.

التحدي الجديد

في التحليل الأخير فإن كيسنجـر يرى أنه لا تـوجـد دولة من الدول المهمة التي ترغب في بناء النظام الدولي الجديد لها خبرة سابقة في نظام تعـددي دولي، فلأول مرة يركب نظام دولي مـن منظورات متعددة ومختلفة، ولم يكن مطلوبـا من أي نظام دول سابق أن يربط نظام توازن القوى التاريخي مع متطلبات ديمقراطية وثورة تقنية كما هو مطلوب في وقتنا الحالي.

إن هناك خيارات مفتوحة وغير مسبوقة تاريخيا أمام النظام العالمي الذي يتشكل ويبنى من رجـال سياسة لهم خلفيات وثقافات مختلفة، وهم ليسوا من بنى النظام الدول بعد مؤتمر فيينا ولا هم من بناه بعد الحرب العالمية الاولى، في الأول كانوا رجال سياسة أرستقراطيين لهم مفهوم موحد، وفي الثاني جاءوا من خلفية حضارية وثقافية متماثلة وحيوية. رجال السياسة اليوم يديرون بيروقراطيات معقدة هي في الغالب تستهلك طاقاتهم في خدمة المسائل الإدارية بدلا من التفرغ لتحديد الأهداف الكلية. رجال السياسة هـؤلاء يرتفعون إلى القمة بمؤهلات ليست بالضرورة هي المناسبة لرجال الحكم، وبالتأكيـد أقل مناسبة لرجـال مطلوب منهم أن يبنوا نظـاما دوليـا جـديـدا. ومع ذلك فإن فشل أو نجاح أي نظام دولي جديد لا يمكن قياسه إلا بالرجوع إلى الخبرة السابقة في الأنظمة الدولية التاريخية، ومن خلالها يمكن معرفة الصعوبات والتحديات التي يمكن أن تواجه رجـال السياسة المعاصرين، دراسة التاريخ لا تقدم لنا كـراسة تعليمات يمكن أن نتبع ما جاء فيها تلقائيا. التاريخ يعلمنا بالمقارنة والتحليل، ويلقي الضوء على الاحتمالات، ولكن لكل جيل أن يقرر لنفسه أي الظروف يجدها مواتية للمقارنة.

السياسيون يبنون الأنظمة الدولية، والمثقفون يحللون عمل تلك الانظمة، وهناك فرق بين رؤية رجل الدولة ورؤية المحلل. المحلل يستطيع ان يختار أي مشكلـة من المشكلات العديدة يريد دراستها، ورجل الدولة تفرض عليه المشكلات ولا يختارها، إذا ثبت أن وجهة نظر المحلل خاطئة فيمكن أن يغير وجهة نظره، أما رجل الدولة فمسموح له بتوقع واحد فأخطاؤه غير ممكنة التصحيح.

رجل الدولة عليه أن يتخذ قراراته بموجب توقعات لا يمكن إثباتها وقت اتخاذ القرار، لذلك فإن التاريخ يحكم عليه تبعا للحكمة أو قلة الحكمة التي عالج بها المتغيرات المفروضة، وفـوق ذلك بأية قدرة حافظ على السلام. لذلك فـإن مناقشـة واختيار كيف عالج رجال السياسة والحكم المشكـلات الدولية التي واجهتهم، وما هي الخطوات التي فشلت، وما هى الخطوات التي نجحت، ولماذا؟ هذه ليست نهاية معرفة الدبلوماسية.. ولكنها فقط البداية..

صوت كيسنجر.. الخاص

وعبر كل ما سلف، وعلينا أن ننتبه إلى ذلك، فإن هنري كيسنجر كـان في كتابه- ككل كتاب التاريخ- انتقائيا سلخ من تاريخ العالم فترة زمنية معينة تتسق مع تحليله ويراها صالحة للتعميم على تاريخ البشرية، على الرغم من أنه تغافل عن فترات تاريخية مهمة حتى في قلب التاريخ الأوربي.

وهو ككل الرجال الذين يريدون التأثير في التاريخ، فقد تعمد أن يضفي على كتابه مظهر الحكمة والدراية ويوحي برسم الأدوار للاعبين المحتملين، ومع هـذا يظل لمحاولتـه القابلة للانكشاف مذاق خاص كونها تأريخا وتحليلا على مستوى رفيع من القدرة العقلية.

ولم يستطع هنري كيسنجر على الرغم من براعته أن يخفي هواه، ونبرة صوته الخاصة التي حـاول إخفاءها ليبدو شاهدا ومحللا موضوعيا للسياسة القادمة من معطيات التاريخ. فهو لم يزل أسير الفترة التي رافق فيها ريتشارد نيكسون، وهو يعتقد أن ريتشارد نيكسون كـان أول رئيس أمريكي، بعـد فرانكلين روزفلت، الذي تفهم منطق سياسـات القوة وبالتالي قاد الولايات المتحدة من جديد إلى التيار الرئيسي في العـلاقـات الدولية. وكأنها كـانت قبل ذلك، أو بعـد ذلك، خـارج تيار العـلاقـات الدولية!.

لقد قـال كيسنجر من قبل (في مذكراته التي نشرت سابقا) كيف أنه حاول تطبيق فهمه لتوازن القوة لإخراج بلاده من مستنقعات فيتنام، على الرغم من أن نجاحه كان محدودا، ومحتما بمتغيرات لم يصنعهـا شخصه. لكن أحـدا لا يستطيع إنكـار نجـاحـه الكبير في مواضع أخـرى عندمـا تعامل مع روسيا كقوة لها مصالحها الجديرة ببعض الالتفات. ونجـاحه في إدخـال الصين لاعبا مستقلا في العلاقـات الدولية. وانفراده بالسادات بعيدا عن شعارات القومية العربية التي كانت متأججة وقتها.

هذا كله، على الرغم من فضل كيسنجر واجتهاداته، لم يكـن خارج تراث كبير لمفهوم سياسة القوة في فلسفة السياسة العالمية عموما، فسياسة القوة ليست الاستخدام العادي للقوة المادية القاهرة ، إنها مبنية على الاعتراف والقبول بمحدودية القوة الخاصة. ومعالجة أمور الدولة من أيام رتشيلو Richelieu إلى أيام نيكسون، كانت عبارة عن التعرف على المصالح الوطنية، وتقديرا موضوعيا للموارد (البشرية وغيرها) المتوافـرة، وتوازن الاثنين مع مصالـح وموارد الدول المنافسة. إن كانت الموارد كافية فإن الدولة تسعى للتغلب أو السيطرة على كل القوى المنافسة، ولكن إن لم تكن كذلك، كـما كـان للدول الأوربية منذ القرن السابع عشر حتى القرن العشرين فإن رجل الدولة يسعى جاهدا لتعظيم قوة بلاده من خلال تحالف ظاهر أو باطن، كـما هو في قول اللورد بالمرستون المشهور: "لا يوجد أصدقـاء دائمون ولا أعداء دائمون بل توجد مصالح دائمة". ولغـة المصـالح في التراث السياسي الغربي، بل التراث السياسي عامة ولدت قبل ميلاد كيسنجر وظلت مع انحسار هالة السلطة عنه. لكنها لعبة الكبار الذين يريدون لعب أدوار كبيرة!.

***

ذلك ملخص عام لأطروحة هنري كيسنجر في كتابه الضخم وهي تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات. إلا أن العقل التحليلي لكيسنجر قاده إلى معرفة أن المرحلة التي نعيشها نهايـة القرن العشرين هي مرحلة تحول عالمي، وهـو تحول غير مسبوق، له مؤشرات واضحة ومن تفوتـه من الدول أو الأقاليم رؤية هذه المؤشرات فهو بالتأكيد مصاب بالعمى السياسي.. وعلى دبلوماسييه أن يحملوا في جيوبهم قداحة سجائر لا غير!.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب