السفر الثاني من كتاب المقتبس

السفر الثاني من كتاب المقتبس
        

السفر الثاني من كتاب المقتبس
تأليف: ابن حيان القرطبي

          احتفلت مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بمنح جائزة تحقيق التراث للدكتور محمود علي مكي على قيامه بتحقيق هذه الموسوعة التاريخية المهمة التي تتناول تاريخ الأندلس. و(العربي) إذ تحيي المحقق على ما بذله من مجهود تقدم هذا العرض للسفر الثاني من كتاب المقتبس, تصنيف حيان بن خلف بن حيان القرطبي (377 هـ - 469هـ), صدر بتحقيق الدكتور محمود علي مكي.

          يتناول (كتاب المقتبس) تاريخ الأندلس منذ الفتح العربي حتى آخر خلافة الحكم المستنصر (91-366هـ), وهو مع ثلاثة كتب أخرى لابن حيان يمثل (التاريخ الكبير) فالمقتبس وأخبار الدولة العامرية والمتين والبطشة الكبرى تضم تاريخ الأندلس كله منذ الفتح العربي حتى وفاة ابن حيان, أي على طول أكثر من ثلاثة قرون ونصف قرن. واعتمد ابن حيان في كتابة هذا التاريخ الطويل وبخاصة في كتابه المقتبس على عدد غير قليل من الكتب, ويبدو وجه من أوجه نفاسة المقتبس في أن معظم الكتب التي كانت مصادر له تعد اليوم في عداد المفقودة, ولابن حيان كل الفضل بالاحتفاظ في مقتبسه بكثير من مادتها التاريخية المندثرة.

          هذا عن كتاب المقتبس بصفة عامة أما عن السفر الثاني منه, فإن مادته تتناول حوالي اثنتين وخمسين سنة من تاريخ الأندلس, تمثل إمارة كل من الحكم بن هشام المعروف بالربضي وابنه عبد الرحمن بن الحكم المعروف بعبد الرحمن الأوسط من 180هـ إلى 232هـ, وهي فترة حافلة بالأحداث, توطدت خلالها دعائم الإمارة الأموية, على الرغم مما تخللها من اضطرابات ومناوشات سواء من داخل البلاد أو من خارجها, كذلك ما شهدته الأندلس من مظاهر الحضارة التي تتضح في ما تمتعت به من فخامة العمران ورسوخ النظم الإدارية والنهضة الثقافية.

أحداث مهمة

          ويبدأ الكتاب بذكر الأحداث المهمة في إمارة الحكم بن هشام, وعلى رأسها الحرب التي دارت بينه وبين عميه الثائرين عليه: عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية الداخل, وسليمان المعروف بالشامي, ثم ثورة أهل طليطلة التي أخمدها الأمير بعد وقعة الحفرة التي دفن أكابرهم وعلماءهم فيها بعد أن خدعهم وأوهمهم بدعوتهم إلى وليمة, بينما كانوا هم أنفسهم الوليمة, وكذلك ثورتا الربض. ويلي ذلك سرد لأحداث مرتبة على السنين حتى وفاة الأمير الحكم في 206هـ, ويختم ابن حيان هذه الحوليات بأخبار عن بيعة الحكم لابنيه عبد الرحمن والمغيرة, وبعدد من تراجم كبار رجال الدولة في عهده, كما يذكر وفيات الأعلام في دولته, ويختم بالحديث عن كبار الشعراء الذين ظهروا في إمارة الحكم واستمروا في إمارة ابنه عبد الرحمن.

          والقسم الثاني من الكتاب يتناول إمارة عبد الرحمن ابن الحكم, فيبدأ بمهاد حول شخصيته وما اتسمت به فترة حكمه, وما استحدثه من ولاية السوق والسكة والطراز والخزانة والخاتم والوزارة, كما تحدث عن التوسعة في المسجد الجامع بقرطبة, والشيء اللافت للنظر في تأريخ ابن حيان لإمارة عبد الرحمن تعرضه لحياته الخاصة فذكر جواريه ومحظياته, وشغفه بالغناء مما جعله يستقدم زرياب المغني المشهور, كما أفرد طرائف ونوادر مجالس الأمير مع جلسائه وأخبار شعرائه ومنجميه بحديث خاص. وبعد هذا المهاد العام يبدأ في سرد الأحداث مرتبة على السنين من بداية ولاية عبد الرحمن بن الحكم حتى سنة 232هـ, وفي أثناء ذلك يفرد فصولاً خاصة للأحداث الجسيمة, ومنها قتل محمود بن عبد الجبار الثائر هو وأخته جميلة, ومراسلته مع ملك الروم والسفارتين المتبادلتين بين الدولتين, وهجوم مراكب المجوس الأردمانيين على سواحل الأندلس.

منهج ابن حيان

          وكان لابن حيان منهج خاص في كتابة القسم الثاني من المقتبس, جمع فيه عددًا من مناهج السابقين عليه من المؤرخين, حيث جمع بين طريقة الكتابة على ترتيب السنين ليضمن تسلسل الترتيب الزمني, وطريقة الكتابة عن تاريخ الملوك والخلفاء ودولهم, كل على حدة, وهي تضمن عدم قطع وحدة الأخبار والأحداث, وجمع إليهما طريقة كتابة التاريخ الثقافي التي تنصب على تراجم الأعلام من شيوخ وفقهاء ووزراء وشعراء وغيرهم, وهكذا استطاع أن يكون أعظم مؤرخي الأندلس وأجمعهم; باستفادته من كل هذه المناهج والجمع بينها, بما يؤهل المقتبس بخاصة وتاريخه الكبير بعامة لأن يكون أكثر ما كتب عن الأندلس استيعابًا حتى عصره.

          واتسم أسلوب ابن حيان بالدقة والضبط والنزاهة, وهي صفات تميز إنتاجه التاريخي وتجعله يرتفع إلى مقام لم يرق إليه أي كتاب من كتب التاريخ لمؤلف قبله, فقد كان يخضع كل ما يقرأه أو يشاهده أو يبلغه لميزان نقدي علمي يبدو سابقًا لعصره في تلك الأيام حتى كأنه من نتاج عصرنا الحديث.

          وتبدو دقته في أمور كثيرة, منها تحديده للتواريخ بالأيام في كثير من الأحيان, بل إنه يوفر على الباحث المعاصر الجهد, فيثبت ما يقابل التقويم الهجري من التقويم الميلادي, وكذلك مقابلته بين الروايات وتحكيم المنطق التاريخي والعقلي في المفاضلة بينها إذا تعددت, ومنها نبذه للأساطير والخرافات. ومن الخصائص التي تستوقف النظر وتستأثر بالإعجاب في مقتبس ابن حيان التفصيل الواسع الذي لا يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها, مع تقديره الدقيق لقيمة اللمحات البسيطة, والفرق بينها وبين الأشياء التافهة, فاللمحات البسيطة كثيرًا ما توضح جانبًا مهمًا من الأحداث العظيمة.

          كذلك تميزت كتابته التاريخية بالنزاهة والصدق والتجرد من الهوى, وهي صفة كثيرًا ما ألح على بيانها من كتبوا عن ابن حيان أو نقلوا من تاريخه سواء من القدماء أو المحدثين, فهو يعرف تبعة الكتابة التاريخية, ويدرك ما تعنيه, ويحترم قلمه فلا يضعه في خدمة أحد, وهذا واضح في كتاب المقتبس بخاصة وفي كتبه الأخرى بعامة.

نموذج فذ

          وكانت هناك أصداء واضحة لهذه الدقة عند القدماء وعند المحدثين, ومنها عند القدماء أن المقتبس يعد مصدرًا أصيلاً من مصادرهم, وعند المحدثين يعد ابن حيان من النماذج الفذة على سعة الثقافة وحسن الإدراك والاستفادة الحقة من محصوله في القراءات, فقد كان من أجمع علماء العصور الوسطى لعلوم الإسلام ولكنه كان عميق الإدراك لرسالة حياته الحقيقية وهي كتابة التاريخ, فهو يعد بحق (صاحب لواء التاريخ بالأندلس) كما وصفه بذلك تلميذه أبو علي الجياني, وهو بالفعل قمة الكتابة التاريخية في هذا القطر, ويتمثل فيه نضج هذا اللون من ألوان الثقافة الأندلسية.

          ومن ذلك أيضًا عناية عدد غير قليل من الباحثين المستشرقين والعرب بمقتبس ابن حيان نشرًا ودراسة منذ أوائل القرن الماضي, حيث توفر مجموعة من كبار العلماء على نشر أجزاء وقطع من الكتاب, مما أكسب الكتاب جدته الدائمة تبعًا لما يثيره كل جزء من أجزائه وقطعه المنشورة من قضايا حول الحقبة التاريخية للأندلس التي يكشف عنها ويجلي منعطفاتها, بما يسرده من أخبار ملوكها وجهاز الدولة الحاكم فيها.

قصة المخطوط

          إن عناية القدماء والمحدثين بابن حيان بعامة وبكتابه المقتبس بخاصة تدل دلالة واضحة على قيمة الكتاب وقيمة المؤلف, مما جعل العلاَّمة المحقق الدكتور محمود علي مكي يبذل جهدًا كبيرًا في البحث عن نسخة الكتاب المخطوطة وتحقيقها, ولذلك قصة مؤسية وطريفة في آن, فقد حاول تحقيق الكتاب من خلال المخطوطة الوحيدة السقيمة غيرُ عالم دون أن يستطيع إتمامه, فقد كانت المخطوطة في حوزة المستشرق ليفي بروفنسال كما كانت في حوزة المؤرخ الجليل عبد الحميد العبادي, ومن بعدهما كانت في حوزة المستشرق إميليو غرسيه غومس وكلهم شرع في تحقيقها, وآخرهم حاول بالفعل نسخها والتعليق عليها في تكتم شديد, ولكن وافاه القدر بالمنية دون أن يتم ذلك, وبمناسبة تكتم غرسيه غومس فقد تكتمت أستاذة أخرى على نبأ وجود مصورة المخطوطة بحوزتها وهي تشترك في هذا الأمر فقط مع المستشرق الجليل, ولكنها تختلف عنه في أنها لم تحاول التحقيق وإنما اقتصرت على كتابة دراسة حول صورة المخطوطة التي كانت بحوزتها, ولكن وافاها القدر - هذه المرة - باكتشاف المخطوطة الأصلية وطبعها بنفس صورتها في نسخ قليلة في مدريد سنة 1999م.

          وبذلك وجد محقق المقتبس الدكتور محمود علي مكي ضالته التي ظل يبحث عنها هو وغيره من الأساتذة الأجلاء, بين تكتم المتكتمين من الشرق والغرب, فيا للعجب من هذا التكتم غير المبرر, وبخاصة في شأن المستشرق الجليل, الذي لو أفصح عن وجود المخطوطة في حوزته لأقر كل الباحثين بالأمر له, ولكفاهم عناء البحث والتنقيب دون جدوى, حتى ظهرت بعد اختفاء دام ما يقرب من خمسين عامًا.

منهج المحقق

          وللدكتور مكي جهد علمي أصيل في تحقيق هذا الكتاب يستحق التنويه به, فقد قام بنسخ المخطوطة من نسخة سقيمة تداول نسخها غير ناسخ ممن يجهلون ما ينسخون, كما أنه عانى من تآكل بعض أطرافها وما يستدعيه ذلك من محاولة ترميم أثر متهالك, كما حاول أن يقيم عباراتها التي يغلب عليها أسلوب ابن حيان الخاص, فقد كان الرجل عالمًا أديبًا صاحب أسلوب متفرد كما اختلطت بعباراته بعض الكلمات والتراكيب الغريبة, مما يزيد الأمر صعوبة على المحقق.

          وبعد اجتياز صعوبات النسخ قام بالتعليق ووضع معاني للكلمات الصعبة والتعريف بالأشخاص والأماكن بما فيها التي تبدلت والتي أصبحت غير موجودة الآن, وكان للدكتور مكي منهجه الخاص في التعليق حيث قسمه إلى قسمين, أحدهما جعله في نفس الصفحة التي يعلق عليها ويختص بمعاني الكلمات وتصحيح ما ورد خطأ في المتن والإشارة لما أضافه حتى يستقيم السياق, في حين اختص القسم الآخر من التعليقات بالشرح لبعض الأحداث والترجمة للأعلام وتحديد الأعلام الجغرافية مما يحتاج لإطالة وإسهاب, وهو جهد محمود درج عليه منذ منتصف القرن الماضي في نشراته المحققة لدواوين شعراء الأندلس وكتبها.