كبار الحادثات وموقف الشعر منها: النكسة في مرآة ثلاثة شعراء

كبار الحادثات وموقف الشعر منها: النكسة في مرآة ثلاثة شعراء

كان قارئ الصحيفة اليومية في العقد الثالث من هذا القرن يستفتح نهاره بقراءة قصيدة من وحي الساعة تتناول كبار الحادثات في مصر والعالم العربي وفي الخارج، وقد تصدّرت الصفحة الأولى من جريدة الصباح.

كانت القصائد كثيرة ومتعددة الأغراض، فهذه قصيدة للشاعر أحمد شوقي، وتلك ثانية للشاعر حافظ إبراهيم، وهناك ثالثة للشاعر خليل مطران، وأحياناً قصائد للشاعر محمد الأسمر أو الشاعر محمد عبدالغني حسن أو الشاعر علي محمود طه، وهلم جرا. فقد كانت للشعر منزلة في الحياة العامة باعتباره صدى لكبار الحادثات، فلا تمرّ حادثة إلا فجّرت انفعالات الشعراء وقرائحهم، وخرجوا على الناس من خلال الصحف واسعة الانتشار يعلنون آراءهم ومواقفهم إزاءها. ولم يكن أحد من النقّاد يعدّ هذا الشعر (شعر مناسبات) انتقاصاً من قدره واستخفافاً بالروح التي انبعث منها الشعراء لنظم هذه القصائد:

فالشاعر أحمد شوقي - مثلاً - هاله الحريق الذي أصاب ميت غمر في عام 1905 فنظم قصيدة مطلعها:

الله يحكم في المدائن والقرى

يا ميت غمر خُذي القضاء كما جرى

وعندما حُكم على فلاحين مصريين بالإعدام في دنشواي بتهمة قتل جنود انجليز في عام 1906 انتقاماً منهم لأنهم صادوا حمائمهم مع أنهم ماتوا متأثرين بضربة شمس، نظم شوقي قصيدة مطلعها:

يا دنشواي على رُباك سلامُ

ذهبت بأُنس ربوعك الأيام

شهداء حكمك في البلاد تفرقوا

هيهات للشمل الشتيت نظام

وعندما ضرب الأسطولُ الإىطالي بيروت في عام 1912 نظم شوقي قصيدة بعنوان (نكبة بيروت) قال فيها:

كلّ يصيد الليث وهو مُقيّد

ويعزّ صيدُ الضيغم المفكوك

ما كنت يوماً للقنابل موضعاً

ولو أنها من عسجد مسبوك

سالت دماء فيك حول مساجد

وكنائس ومدارس وبنوك

وعندما اعتُدي على حياة الزعيم سعد زغلول باشا في عام 1924 نظم شوقي قصيدة مطلعها:

نَجَا وتماثل رُبّانُها

ودقّ البشائر رُكبانها

وهلل في الجوّ قيدُومهَا

وكبّر في الماء سكّانها

ولما اعتدى الفرنسيون على دمشق في عام 1925 أنطقت الفجيعة شوقي بقصيدة مطلعها:

سلامٌ من صبا بردى أرق

ودمع لا يُكفكف يا دمشق

ومعذرة اليراعة والقوافي

جلالُ الرّزء عن وصف يدقّ

وحتى عندما وقع زلزال في اليابان في عام 1926، فإن شوقي لم يتخلّف عن المشاركة بشعره في هذه الكارثة، فنظم قصيدة مطلعها:

قف بطوكيو، وطُف على يوكوهامه

وسَلْ القريتين كيف القيامة?

دَنَت الساعة التي أنذر الناس

وحلّت أشراطُها والقيامة

قفْ تأمّل مصارع القوم وانظر

هل ترى من ديار عاد دُعامة?

خَسفت بالمساكن الأرض خسفاً

وطوى أهلها بساط الإقامة

وعندما نفّذ الإيطاليون حكم الإعدام في الزعيم عمر المختار في عام 1931، شارك شوقي في هذه المأساة بقصيدة مطلعها:

ركزوا رفاتك في الرمال لواءَ

يستنهض الوادي صباح مساءَ

يا ويحهم نصبوا مناراً من دم

يُوحي إلى جيل الغد البغضاءَ

كل هذا الشعر الذي نظم فرائده الشاعر شوقي في كبار الحادثات عرف طريقه إلى النشر على الصفحات الأولى للصحف، وكان صداه بعيداً.

ولكنّ هذا التقليد سرعان ما تقلص وانتهى، إذْ اختفى الشعرُ من الصفحات الأولى، وتوارى في الصفحات الداخلية، بل توارى نهائياً بعدما اقتضت المدارس الجديدة في الصحافة إيلاء أولوية أولى للأخبار ومجريات الأحداث، ولاسيما مع وقوع الحرب العالمية الثانية وتقلص عدد صفحات الصحف، واختفاء كبار الشعراء الذين غيّبهم الموت، فمات شوقي وحافظ عام 1932، ومات مطران عام .1949

وعندما حلّت بالأمة العربية كارثة يونيو خفّفوا اسمها إلى (النكسة) في 5 يونيو 1967، قلّبنا الصحف بحثاً عن الشعر الوطني الصادق يُساق في هذه الداهية الدهياء، فلم نجد شيئاً منه، ربما لأن الكارثة ألجمت كل الألسنة وحكمت على قرائح الشعراء بالعُقم، فلم يجودوا بشيء، اللهم إلا الشاعر نزار قباني بقصيدته (هوامش على دفتر النكسة) والشاعر السوري محمد سليمان الأحمر المكنّى بـ (بدوي الجبل) بقصيدته الرائية (من وحي الهزيمة). وحتى هاتان القصيدتان لم تعرفا السبيل إلى النشر في الصحف، فتبادلنا نُسخاً منهما وحفظناهما بالاستظهار وكأنهما منشورات محظورة، وعندما نشر بدوي الجبل ديوانه المجموع، تعرّضت هذه القصيدة لعمليات جراحية واسعة حتى تغدو قصيدة مجازة، وللشاعر السوري (عمر أبو ريشة) قصيدة رائية صارخة قالها في النكسة بدوره.

وكنت في ذلك الوقت صديقاً للشاعر المهجري جورج صيدح، فتلقيت من باريس، حيث كان يقيم، قصيدة ناريّة الألفاظ نظمها من وحي الهزيمة، واختار لها عنوان (واشكيباه) ذلك أن كاتباً في جريدة (الحياة) نشر احتجاجاً على تدنيس المساجد الإسلامية في فلسطين ختمه بقوله (أين شكيب أرسلان يُطلق الصرخات من جنيف فتتألّب على صوته الشعوب الإسلامية في جميع الأقطار? فعلّق الشاعر صيدح على ندائه بقوله:

رمَمٌ نحن، دَعْ شكيباً وهَمّه

قاصفُ الرعد لا يُحرّك رمّهْ

حشرجاتُ الإباء ضاع صداها

في كهوف المطامع المدلهّمه

والوفا للأمير لم يبق منه

غيرُ همس الثنا ودسّ المذمّه

رحم الله عهده، كان فيه

قولةُ الحقّ لا تُشكّل تُهمهْ

أصبح اليوم أصدقُ الشعر يخشى

من حُواة الكلام نقداً ونقمهْ

فضَحَ الخطبُ علّة الضنّ والجُبْن

وعَرّى الدعيّ من ثوب صمّهْ

فشكا الغادرون غدر الليالي

وبكى السارقون سالف نعمه

ما تمطّى على المساجد علْجٌ

يوم كنّا على صراط الأئمه

يومَ طعْنَا لسُنّة الله فينا

فاستطعنا ما ليس تستطيع أمّه

ذلك الحظ خاننا حين خُنّا

وخفرنا لأرضنا الأم ذمّه

ولأَدْهى من صدمة هشّمتنا

ما دهانا من غفلة بعد صدمه

فإذا نحن كالحُبارَى ذكاءٌ

وابتناءً، وكالنعامة حكمه

أتُرانا من المُلمّة ننجو?

كيف ننجو ونحنُ نحنُ المُلمّه?

قد هزلنا أمام جدّ الأعادي

فانتهينا قبل ابتداء المهمّه

واسترحنا على الحضيض كصخر

حطه السيل من مشارف قمّه

لم نجد في الشعوب شعباً سوانا

خذلته أرحامُه دون رحمه

غيرةُ الدين ألّبت كاشحينا

لم تؤلّب جموعَنَا، وهي جمّه

يا (حقوقَ الإنسان) لا تشملينا

نحن قومٌ نبيع حقّاً بلقمه

كانت هذه القصيدة صرخة شاعر أحسّ بالفجيعة الطاغية، فأطلق هذه السهام القاتلة من مشتاه في جنيف في يناير 1968، وبقيتُ تتداول بين أصدقاء الشاعر إلى أن نشرها للمرة الأولى في ديوان صغير عنوانه (شظايا حزيران) صدر في باريس في عام .1971

هذه النغمة التشاؤمية التي سرت في طول القصيدة وعرضها حرّكت الكوامن لدى شاعرين هما محمد عبدالغني حسن وعادل الغضبان، فنظم كل منهما قصيدة في معارضة (القارعة) الصيدحية، وخصّني كلّ من هذين الصديقين بنسخة منهما حفظتهما ضمن ضنائني حتى جاءت هذه السانحة لتسجيلهما وإذاعتهما.

كانت قصيدة عبدالغني حسن بعنوان (أيّة أمّة) حيث قال مخاطباً صيدحاً:

لا تلُمْها في الحادثات الملمّهْ

إنّها أمّةٌ وأيّةُ أمّه!

كيف لا يحمل الحوادثَ شعبٌ

عربيّ السمات، عالي الهمّه?

لا تفلّ الخطوبُ من غرب متنيه

ولا تثلم المصيبةُ عزمه

يتلقّى من الهزيمة درساً

يتحدّى الليالي المدلهمّه

فيُحيلُ الدّجى وضاءةَ صُبح

ويردّ الشكوى حلاوة نغمه

ويصوغ العبوس من صفحة الدهر

ائتلافا على الشفاه وبسمه

قد بُلينا من اليهود قديماً

وبُلينا منهم حديثاً بنقمه

لليهوديّ غدرةٌ وصغَارٌ

مُشبهٌ فيهما أباه وأمّه

هو للمال تابعٌ، يتلقّى

في سبيل (الدولار ) أحقر لطمه

قد أقاموه شوكةً في جندبٍ

عرفت غدره قديماً ولؤمه

هل نسيتم (بني قريظة) لمّا

نكثوا للنبيّ عهداً وذمّه?

حين أجلوا عن الجزيرة يوماً

انْجلَت بانجلائهم كلّ غُمّه

إنّما الحرب يا صديقي سجالٌ

فلمَ اليأسُ عند أول صدمه?

بيننا في الوغى لقاءٌ طويل

ومواعيدُ في المعارك جمّه

لا (السويسُ ) اشتكت ولا(بورسعيد)

أضعفت روحَها القويّة ظُلمه

إنْ تَفُتْنا بدايةٌ من حظوظ

فالبداياتُ بعدهن التتمه

لا تظنّوا الخطوبَ مَنْبَع شرّ

رُبّ خطب وراءه ألفُ نعمه

إنها نكسةٌ، ولكنّ فيها

من دروس الحياة أجملَ حكمه

وحدّثنا على الحوادث صَفّا

ألفتنا على المصائب حُزمه

فالتقينا بالأمس في خير قمّه

وغداً نلتقي بأرفع قمّه

أما الشاعر عادل الغضبان فاختار لمعارضته عنوان قصيدة صيدح نفسه، وهو( واشكيباه) حيث قال:

صيدحَ الأيك، تلك أغربُ نغمه

سَامَت العُرْبَ تُهمة أيّ تُهمه

وأحَالتهمو عظاماً رميماً

غطّت الأرضَ رمّةً جنب رمه

ونفت منهمو الكرامة حتّى

ليَبيعُونَ كلّ حق بلقمه

ورمتهم بالمخزيات توالت

وصمةً تلو وصمة تلو وصمه

فإذا همُ مثل الحُبَارى ذكاءً

وإذا هُمْ مثلُ النعامة حكمه

ما بهم غيُر قادر يتشّكى

وسوى سارق بكى فَقْدَ نعمه

ودعيّ سَمَا بدُنْيَا نفاق

فتعرّى في الرّوْع من ثوب صمّه

وجبان على الحياة حريص

سدّ أذنيْه يومَ قيل هَلُمّه

وخَئون جَفَا كريمَ المبادي

وتَمادَى في نكث عهد وذمّه

عَمْرُكَ الله يا أخيّ تمهّلْ

إنّ في راحتيْك مهجةَ أمّه

شدّةٌ ألهمتك حُرّ بيان

سَايَرَ اليأسُ فيه رَكْبَ المذمّه

أنتَ فيه وإنْ قَسَوْتَ مقالاً

عربي بث القوافي همه

قسوةٌ تؤثُر الصلاحَ ولكن

تنكأ الجرح، والجراحات جمّه

أفدحُ الرّزْء أن يُصاب شقيقٌ

بشقيق يراه يأكل لحمه

قلُ لمن ساءه مُصابُ المعالي

إنّ للدهر في الخلائق حُكْمَه

فغداً تنعم البلادُ بعيد

تُشرق الشمسُ فيه من بعد ظُلمه

وعندما نظم الغضبان هذه القصيدة، بعث بها إلى صيدح ومعها رسالة يقول فيها (مختلفان رأياً متفّقان وداداً).

وإذا كانت قصيدة (واشكيباه) لجورج صيدح قد استنفرت همّة الشاعرين محمد عبدالغني حسن وعادل الغضبان فعارضاها، فقد نظم صيدح عدداً من القصائد القانطة بعد النكبة باعتبارها من كبار الحادثات، دون أن تستنفر أحداً من الشعراء، مثل قصائده الموسومة (متى نلتقي?) و (مزرعة البصل) و (الفصح 1968) و(الفدائيون) و (ليلة الميلاد).و (نداءات إلى القمر المسخّر) وكلها تنضح بالمرارة وتُشيع في قارئها روح الهزيمة وضياع الأمل.

على أن الشعراء الثلاثة قد أرخي لهم في العمر حتى شهدوا مصرع النكسة في السادس من أكتوبر 1973، إذ توفي الغضبان في السنة نفسها، ولحق به صيدح في عام 1978 وانضم إليهما عبدالغني في عام .1985 وبقيت قصائدهم شاهدة على على أن الشعر هو مرآة العصر، وأن الشعراء لا يصمتون أمام كبار الحادثات، حتى وإن عزّت عليهم أسباب النشر وامتنعت عليهم أسباب التواصل مع الجمهور العريض.

 

وديع فلسطين