نجاد إبريشيموفيتش وإبراهيم فرغلي

نجاد إبريشيموفيتش وإبراهيم فرغلي

الفنان الحقيقي تناديه ربة الفنون لصناعة المعجزات

ما بين لقائي الأول به وبين هذا اللقاء مرت ثلاث سنوات، خلالها حققت روايته الأخيرة «الأبدي» في لغتها البوسنية نجاحا كبيرا وبلغت طبعاتها المتوالية ثماني طبعات، وبينما لاحظت أنه بدا أكبر قليلا في العمر وأقل عناية بمظهره، لكنه بدا محتفظا بحضوره القوي، وسخريته اللاذعة وخفة دمه التي كثيرا ما لم أكن في حاجة لتوضيحات المترجمة إمينا أومانوفيتش لالتقط المعنى الفكه أو الساخر، محاولا تجاوز الدلالات المعقدة للغة البوسنية، مستدلا على المعنى من تعبيرات وجهه الساخرة وذكاء عينيه. والأهم من هذا كله أنه بادرني بهدية كدت أطير فرحا بها وهي نسخة من الترجمة العربية لكتابه «كان يا ماكان» الذي كان قد صدر لتوه من المشروع القومي للترجمة في القاهرة بتوقيع المترجم جمال الدين سيد محمد.

بينما دار حواري الأول معه في أحد المقاهي التي دعاني إليها وتناولنا فيها القهوة البوسنية، فإن هذا اللقاء بدا حركيا، إذ بدأناه في مبنى مركز الثقافة والفنون البوسني حيث اتيح لنا أن نرى أحد أعماله النحتية من البرونز، ثم، وبسبب جوعه لأنه لم يكن قد تناول غداءه، انتقلنا إلى أحد المطاعم القريبة في منطقة «باتشارشيا» العتيقة في قلب سراييفو، وأصر على ان يستكمل الحوار بينما نسير، تحت مطر خفيف مداهم، يمشي بخطوات سريعة بينما نهرول بجواره أنا والمترجمة والزميل المصور، وحتى وصولنا للمطعم الذي تابعنا فيه الحوار حتى نهايته.

المتغير الأخير في هذه المرة أيضا أن إجاباته جاءت سريعة، وبلا كثير من التفكير، على عكس المرة الأولى التي كان يتوقف طويلا قبل الإجابة ويعتصر ذهنه، كأنه يبحث عن الأفكار ويستدعيها من جب عميق. بالإضافة الى أنه أيضا بادلني حوارا مطولا أصر فيه أن يعرف، بتفصيل ودقة، عن أعمالي الأدبية وخاصة الرواية الأخيرة، كأنه يحاول أن يكون صورة عن ثقافة لا يعرف عنها سوى القليل.

فهو يعتبر القرآن الكريم أحد الكتب المهمة، على مستوى البلاغة، من واقع كونه مسلما، ومن واقع كونه مهتما بالبلاغة واللغة الجميلة. لكنه في الوقت نفسه لا يعرف الكثير عن الثقافة العربية، فهو قرأ بعض أعمال محفوظ، وجبران، وألف ليلة وليلة التي يعتز بها، والتي أظنها كانت رافدا ملهما لكتابه القصصي الذي ترجم أخيرا للعربية «كان ياماكان».

ومنذ قرأت أولى قصص كتابه هذا لاحت لي على الفور هذه الخصال الثلاث كسمات أساسية لكتابه المختلف. فهي قصص ساخرة (سبعة وسبعين قصة قصيرة) لا تخلو من روح الفكاهة من جهة، وهي أيضا ذات دلالات عميقة، وأحيانا عبثية تماما، وهذا ما يمنحها صبغة مختلفة نسبيا بالنسبة لمثل هذا النوع من النصوص؛ بسبب انتمائها للقص من جهة، واشتباكها، في الآن ذاته، مع حس الحكاية الشعبية، بالرغم من أنه يؤكد لي انه لم يهتم إطلاقا بالحكايات الشعبية أو التراث السردي الشعبي أو الفلكلور.

تدور أحداث تلك القصص في أجواء سحرية، تعود لزمن قديم في البوسنة، لكنها أيضا تصلح لكي تمثل أحداثا شبيهة في أرجاء واسعة من العالم بلا تخصيص، وهو ما يمنحها حسا إنسانيا متخلصا من الطابع القومي الذي يغلب على أعمال إبريشيموفيتش الأخرى، والتي تقع أغلب أحداثها في البوسنة والهرسك في فترات تاريخية مختلفة.

ولد إبريشيموفيتش في سراييفو عام 1940 وانهى دراسته الابتدائية في بلدة جيبتشة، بينما أنهى دراسته الجامعية في كلية الفنون التطبيقية قسم النحت في سراييفو، فهو فنان تشكيلي أيضا له العديد من الأعمال النحتية، إضافة إلى أن له عددا من المحاولات الشعرية، وقد عمل في بداية حياته العملية في تدريس الفنون قبل أن ينتظم مرة أخرى لدراسة الآداب في الستينيات.

نشر عمله الأول «منزل مغلق الأبواب» في العام 1964، وهي مجموعة قصصية أعقبها برواية «الشقي» في عام 1968، ثم توالت أعماله التي بلغ عددها 16 رواية حتى الآن، منها «الحي والميت»، و«تنين البوسنة»، و«قُرّة بك»، وسواها. وترجمت بعضها للتركية والسلوفانية، والإنجليزية وأخيرا للعربية. وكانت له اهتمامات بالعمل الثقافي في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة حين تولى منصب رئيس اتحاد الكتاب في البوسنة حتى العام 2002.

يقول نجاد إبريشيموفيتش إنه لم يقرر أن يكون كاتبا، وإنما اختارته الكتابة الأدبية لكي يشتغل بها، أما هو فقد اختار النحت لكي يمارسه فقد بدأ الكتابة الأدبية في السابعة من عمره، وشرع في نشر أعماله الأدبية في الثالثة عشرة وبدأ في ممارسة النحت وعمره ثمانية عشر عاما.

«وجدت في الرواية على نحو خاص الشكل الفني الذي أتمكن به من التعبير عما أرغب فيه بالشكل الذي يرضيني أكثر من أي شكل فني آخر. وقد حاولت أن أعبر عما أرغب فيه بالفن ولكني لم أشعر بأنني نجحت بقدر نجاحي في الأدب، وخصوصا في الرواية.

وأعتقد أن كل فنان يسعى للوصول إلى الكمال، سواء استطاع أو لم يتمكن من تحقيق ذلك، فأنا على يقين كامل من أن أي فنان حقيقي لا بد أن يتمكن منه اقتناع أنه يستطيع أن يصنع معجزة بما ينجزه، فإذا لم يكن لديه هذا الاقتناع، فلن أفهم لماذا يقرر أن يخوض مضمار الفنون من البداية. فلا أهمية لكونه فنانا في هذه الحالة».

ويستطرد موضحا:«كل شيء له أهميته بطبيعة الحال؛ الموضوع والشخصيات والأسلوب، لكن المهم أن يكون ما يكتب، في النهاية، مثيرا للدهشة والاهتمام، بحيث لا يمكن للنص أن يمر مرور الكرام، لا بد أن يكون باهرا بشكل ملحوظ».

معنى المعجزة

سألته عن مفهومه لفكرة تحقيق المعجزة بالفن قال:«لا أحد يمتلك تعريفا دقيقا للمعجزة أو تفسيرا لطبيعتها، ولهذا تسمى معجزة، بإمكاننا أن نتحدث حولها، وعنها، لكننا لن نتمكن من فهم حقيقتها، ولذلك أظنها قريبة المعنى من تعريف كلمة «روح» والتي تماثل في اللغة البوسنية كلمة «نفس»، لكن الروح غير منظورة، وليس لها الطابع المادي الملموس كما هو شأن النفس، وبالتالي فتعريف الروح بشكل دقيق هو أمر بالغ الصعوبة، لكننا يمكن أن نستخدم الحدس، أن نتكلم عن الروح لا أن نعرفها».

السمة الفلسفية لحديث إبريشيموفيتش تبدو نابعة من اهتمامه بالفلسفة التي درسها مبكرا، ولكنها سمة أيضا من سمات كتاباته، كما يوضح المترجم جمال الدين سيد محمد في مقدمته لكتابه، وفي قصص هذا الكتاب المترجم نفسه، لكن الفلسفة، لا تعوض عن الأسلوب وعن الشكل الأدبي، الذي يعتبر هو واحدا من أبرز رواد تطويره في الأدب البوسني بشكل عام، وكما يتجلى بوضوح في قصص هذا الكتاب.

عندما سألت عن بعض أعماله علمت أنه اهتم بالتاريخ خاصة في رواياته الأولى«الشقي» 1968، و«قرة بك» 1971، و«تنين البوسنة» 1980، لكنه ينفي ذلك، مؤكدا أنه يهتم بالزمن في أعماله، وكقضية يحاول الاقتراب منها دائما سواء في الأدب أو الحياة بشكل عام، لكن فكرة الزمن لا علاقة لها بفكرة التاريخ، بل هي فكرة أعمق من ذلك بكثير ويوضح قائلا إنه بالفعل يتناول الشخصية البوسنية وتاريخها لكنه يفعل ذلك بأسلوب بالغ الحداثة:«التعبير عن الشخصية البوسنية وتجلياتها هو أمر أفعله بوعي وبلاوعي في نصوصي الأدبية، ولو أننا اليوم في زمن الرومانسية الأدبية لكتبت كتابا تاريخيا عن البوسنة وأهلها، لكني لم أفعل ذلك، لكني كتبت ثلاث روايات تجريبية عن البوسنة وتاريخها وأهلها».

عندما كتبت رواية «تنين البوسنة» كنت قرأت عن شخصية حسين بك جراد اشتيشفيتش الذي تزعم حركة الثوار عام 1831 في البوسنة والتي نجح فيها البوسنيون في الانتصار على الجيش العثماني في موقعة قريبا من البوسنة، وبسبب شجاعة ذلك الرجل اختاره البوسنيون بالإجماع حاكما للبوسنة، وهكذا قررت أن أكتب عنه، لكن الكتب لا تكتب لمجرد الانجذاب لشخص أو حدث، لأن هناك ما هو أعمق، وشرعت في القراءة عن تلك المرحلة وكتابة تلك الرواية على مدى سبع سنوات، وخلال تلك الفترة كنت قد أنجزت ثلاث قصص طويلة وبعض الأعمال الدرامية، وأيضا كنت شرعت في كتابة «الأبدي».

الأبدي، رواية العمر

يوضح نجاد إبريشيموفيتش أن رواية «الأبدي» استغرقت منه عمره ككاتب تقريبا، فقد شرع في كتابتها منذ كان في الثامنة عشرة من عمره ولم ينته منها إلا قبل نحو خمس سنوات، ويعكف على استكمالها في جزأين لتتحول إلى ثلاثية، وتستغرق كل اهتمامه.

هنا أسأله عن أسباب اهتمامه بالتاريخ. ألا تجد في الوقت الراهن، وفي وقائع هذا العصر ما يغريك بالكتابة عنه؟ فيقول:

«بالعكس أهتم بالتاريخ وبالحاضر وبالمستقبل أيضا، ففي الجزء الثالث من الأبدي تدور الوقائع في زمن متقدم جدا، بعد نحو ألف عام من الزمن الراهن، وفيها أحاول تقديم رؤية نقدية للزمن الذي نعيشه. وما يثير اهتمامي بحق هنا أن الإنسان رغم وجوده على الأرض، وبداية تأسيسه للحضارة قبل نحو خمسة آلاف عام، وبالرغم من كل التطور الذي حاول أن يصنعه، والمراحل التي مرت بها البشرية، فإن مشاعره لم تحظ بالتطور نفسه. فقد بقيت المشاعر الإنسانية على حالها منذ عصور الحضارات الأولى وحتى اليوم، وهذا أحد أبرز ما يثير اهتمامي وتساؤلاتي، ويمثل جانبا كبيرا مما يلهمني في أعمالي الأدبية. وبالرغم من ذلك فإن البشر، بالرغم من توقف تطور مشاعرهم يتمتعون بخصيصة فريدة لا يتمتع بها كائن آخر وهي الخصوصية الشديدة، فكل فرد له سماته الخاصة الفريدة، وله أهمية ما تتمثل في وجوده، كما أن له أسلوبه المميز.

أما ثالث ما اهتم به فهو طبيعة الإنجاز البشري الخلاق، منذ الوجود الأول للبشر وحتى اليوم، فكل ما تم اختراعه عبر هذه المسيرة البشرية يحوي جوانب مدهشة كثيرة، وفي الوقت نفسه وبقدر التطور العقلي الذي وازى تلك الإنجازات البشرية فقد ظل السلوك البشري نفسه محلا لتفسيرات مختلفة وأحيانا متناقضة إلى حد يثير الدهشة، فبينما يرى البعض رجلا شجاعا، ويمتدحون شجاعته بوصفها عملا إيجابيا، نجد أن آخرين يرونه مجنونا. وقد يرى البعض أن فردا من الأفراد رجل كريم، بينما يفسر الآخرون سلوكه بأنه مبذر وسفيه وهكذا.

وفي الوقت نفسه فإنني ألاحظ أن الفن، ربما على عكس مسيرة البشر له مسيرة مختلفة عبر الزمن إذ إنه يحتفظ بقيمه الفنية، بغض النظر عن الطريقة التي صنع بها أو الخامات التي استخدمت في إنجازه. هذه الأفكار أساسية جدا في أعمالي وأحاول أن اعبر عنها بطرق وأساليب متعددة. والشخصية الرئيسية في الأبدي هو عبدالله مصري البوسنوي الذي عاش منذ 5000 عاما ولا يزال، فشكرا لأفضاله».

كاتب عصامي

بسبب عصاميته الشديدة، وعدم اهتمامه بالأضواء والشللية تأخرت ترجمة أعمال إبريشيموفيتش للغات الأخرى، لكنه يعتز بذلك، ويقول ضاحكا إن أسباب تأخر ترجمته أنه بلا أب، أي أنه لم يحظ بدعم أحد، وأذكر أنني بعد أن التقيته المرة الماضية لحوار صحفي أبدى الكثير من الصحفيين والإعلاميين البوسنيين الشباب دهشتهم، ووصفوني بالمحظوظ، لأنه عادة لا يلتقي أحدا من الصحافة أو التلفزيون.

لذلك فهو يرى أيضا أن واحدا من شباب الكتاب في البوسنة الآن وهو إزمير كورميفيتش أحد أبرز الأدباء الشباب من وجهة نظره، وأنه مثل أولئك الكتاب الكبار الذين لا يظهر الواحد منهم إلا كل نحو خمسين عاما، لكنه يرى أن مشكلته أنه مثله ليس له أب، ولا ينتمي لشلل ولا يحب الدعاية (ذكر عدد آخر من الأسماءالمهمة الآن في الكتابة الجديدة أيضا) لكنه، من جهة أخرى يرى أيضا أن رواية الأبدي رواية صعبة ومكثفة ومجهدة وليس من السهل ترجمتها، ويوضح ان هناك مترجمين بالفعل أنجزا ترجمتها، وإن لم تنشر بعد إحداها للإنجليزية والثانية للفارسية.

  • سألته: وكيف ترى وضع الأدب البوسني في خارطة الأدب العالمي، هل ينتمي للثقافة الشرقية الإسلامية أم للغرب؟

- فقال: بالتأكيد أن أدب البوسنة هو جزء من الأدب العالمي - والمعاصر على نحو خاص - وهو ينتمي للأدب الغربي، لأننا ليس لدينا معرفة بالأدب العربي وبالشرق عموما، وبالتالي فالأدب البوسني جزء من الأدب الغربي يواجه نجاحات وإخفاقات هذا الأدب نفسها، والكتاب المعروفون والناجحون في البوسنة مثل مقسدار، وشاميل سياريتش، وميشا سالوميفيتش وسواهم محسوبون جميعا على الأدب الغربي.

  • وما هي الكتب أو من هم الكتّاب الذين مثلوا إلهاما لك؟

- كل الكلاسيكيين بطبيعة الحال مثل هوميروس، كتاب ألف ليلة وليلة، تولستوي، دوستويفسكي، فلوبير، شولوخوف، فكل ما كتبه هؤلاء لا يمكن أن ينسى، وهناك العديد من الكتابات المعاصرة المهمة التي تعجبني لكتاب مختلفين ومهمين.

  • هل تعتقد أن المضمون إذن أهم من الشكل الفني، بمعنى آخر ماذا تظن بالنسبة لتيارات الأدب التجريبية الحداثية التي اهتمت بالشكل وروجت لمقولة الفن للفن؟

- أم الفنون هي أم عظيمة لأنها تحب أولادها جميعا، حتى أولئك الذين لم يولدوا في سياق طبيعي. وأعتقد ان القاريء هو أحد العناصر الجوهرية الواجب مراعاتها في هذا السياق، ولا ينبغي لنا أن نقوم بتعذيبه، والحقيقة أن الذين قدموا تجارب تجريدية وشكلية بشكل حقيقي حافظوا على القيمة الفنية الرفيعة، هم أسماء مثل جيمس جويس، بورخيس، كلود سيمون، صمويل بيكيت، لكن هؤلاء الكتاب ومن في مستواهم هم قلة قليلة لم تتكرر كثيرا، وهناك الكثير ممن حاولوا تقليدهم أو نقاد الأدب ممن تعسفوا في وضع نصوص في أطر أكبر من حجمها، لكني بشكل شخصي لا استسيغ فكرة تعذيب القاريء.

والكلمة نفسها قوية جدا، فكل مفردة في النص لها قوتها الخاصة، ولا تحتاج إلى إطار صعب لترهيب القاريء منها، فمن الخطأ الشائع الاهتمام بالإطار التجريبي على حساب المضمون. ليس من الضروري أن يتضمن العمل الأدبي رسالة أخلاقية، لكن قد يحدث هذا أيضا، كما هو شأن بعض أعمالي، لكنني عادة ما أبدأ أعمالي بشكل يبدو بسيطا، ثم تتعمق، وهذا ما ينبغي أن نمارسه كتابة وسلوكا.

سألته عن الشعر فقال: الحقيقة أن علاقتي بالشعر غريبة، ولا اعتبر نفسي شاعرا على أي نحو، وكل ما في الأمر أنني، في وقت من الأوقات شعرت بانني أرغب في التعبير الفني عن مجموعة من الأفكار ووجدت في الشعر وسيلتي لتحقيق تلك الغاية، وتصادف أن ذلك وجد هوى لدى القراء، لكني لا اعتبر نفسي شاعرا على الإطلاق. أو ربما انني أؤجل فكرة أن أكون شاعرا لحين يتقدم بي العمر.

أخيرا، تبقى الإشارة إلى أبرز ما اشار له المترجم جمال الدين محمد حول سمات ادب نجاد إبريشيموفيتش الذي يوضح أنه شيد تلك الروايات داخل إطار تاريخي من الموضوعات والأفكار، وهو إطار محدد بحقبة تاريخية معينة ،وهي في أغلب الأحوال حقبة الحكم العثماني للبوسنة والهرسك وفترة احتلالها فيما بعد من قبل الامبراطورية النمساوية الهنجارية. وفي تلك الروايات قام المؤلف بتصوير عالم النبلاء البوسنيين وتصوير أحوالهم باعتبارهم ممثلين للنظام القائم وللأحوال السائدة آنذاك على التركيز على مضيهم التدريجي نحو نهايتهم المحتومة. وعلى الرغم من أن كل رواية من رواياته لها طابع تاريخي بالمعنى الواسع لهذا التعبير فإن كلا منها يتضمن أيضا إشارات وسمات أخرى بحيث يمكن تصنيفها وفقا لمضمونها بأنها رواية اجتماعية أو نفسية أو رواية تيار وعي، وليس من نافلة القول التنويه بأن القرن التاسع عشر يمثل بالنسبة للبوسنة والهرسك قرن التغيرات الهائلة والانكسارات الضخمة، وهو القرن الذي يحفل بأكبر قدر من الأحداث الاجتماعية المتناوبة وهو بذلك يعد قرنا حافلا بالاضطرابات العميقة وزاخرا بالتفاصيل الدرامية والدامية.

يقول نجاد: «ليس بيني وبين الزمن الموضوعي المتسلسل تاريخيا أية علاقة أو مشترك ، الزمن يدخل كإطار موضوعي في العمل كأنه تجميل للزمن الموضوعي، بينما الماضي بجاذبيته فيتم وضعه في شكل زمن ميت كما فعلت في أغلب أقاصيص العمل الذي ترجم أخيرا للعربية: «كان يا ما كان».

محطات في حياة إبريشيموفيتش

  • - ولد عام 1940 في سراييفو.
  • - درس الثانوية بمدرسة الفنون التطبيقية قسم النحت.
  • - انتظم في دراسة الآداب بسراييفو عام 1962.
  • - خلال السبعينيات عمل مدرسا لتاريخ الفن، وانتقل إلى باريس لفترة.
  • - عضو اتحاد أدباء البوسنة منذ عام 1964
  • - عضو اتحاد الفنانين التشكيليين في البوسنة منذ عام 1982.
  • - رأس اتحاد الأدباء في البوسنة بين عامي 1993 وحتى 2002.
  • - رأس تحرير مجلة جيفوت التي تعد إحدى المجلات الأدبية المهمة بين 1995 و1998.
  • - أقام 11 معرضا فنيا تضمنت منحوتاته وأعماله الفنية الأخرى.
  • - من مؤلفاته الروائية: منزل مغلق الأبواب، الشقي، قرة بك، الحي والميت(قصص)، تنين البوسنة، المسخ والجنية(قصص)، الأخوة والوزراء، كتاب آدم قهرمان، يومان في العقار، الأبدي (2005).
  • - من مؤلفاته المسرحية: دولاند في سراييفو 2000، إضافة إلى عدد من المسرحيات التي كتبها في عام 1988.
  • - من دواوينه: زنابق روحي 1994، البوسنة المفروشة ببساط 1996.
  • - تمت مسرحة العديد من أعماله وعرضت على خشبة المسرح.
  • - ترجمت أعماله إلى اللغات التشيكية والتركية والألبانية والإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والعربية.
  • - قصة «صورة القيصر» من كتاب «كان ياماكان»

المثقفون

ذات مرة كان في البوسنة مثقف وذاع صيته، وفور أن أصبح مشهوراً تجمع الناس حوله واتبعوه في كل شيء. وأينما يقيم أي شخص حفل غداء أفضل ولو قليلاً، تتم دعوة هذا المثقف إلى حفل الغداء هذا، ولم يكن يمضي يوم دون أن يكون هناك حديث عنه، وقد كتب ما يزيد عن سبعين كتاباً.

وكان هناك أيضاً مثقف آخر وكان لكتبه وقع سيئ، وعندئذ ضحى بكل ما يمتلك من مال وصحة وزوجة ووقت ربما يحسن كتابة ولو كتاب واحد، ولقي الكتاب قبولاً طيباً وأصابه الثراء وعاودته عافيته، وتزوج مرة أخرى وتوافر لديه الوقت، ولكن حينما نظر إلى كل هذا بشكل أفضل قليلاً أصابه الندم المرير فجأة، إلا أنه لم يعد أمامه مفر. وهو أيضا كتب مائة كتاب.

وكان هناك أيضاً شخص يتعجب أشد العجب من أنه مسموح له أن يقوم باختلاق الكتب وفقاً لهواه الشخصي وبالكيفية التي يريدها، ولكن لم يحدث أحداً بصوت عال عن هذا الأمر، وهو كذلك كتب ما يربو على مائتي كتاب. وكان هناك شخص طويل القامة، أسمر اللون، حسن المنظر، كثير القراءة، ولم يكن أحد يستطيع أن يفعل له شيئا وكان يؤلف الكتب في جميع أنحاء العالم، وحتى الأميون كانوا يقتطعون من أقواتهم لكي يشتروا ولو كتاباً واحداً من مؤلفاته، وبعد ذلك يلحون على جيرانهم لكي يقرأوا لهم من كتبه هذه بصوت عال، ولم يكن هناك منزل واحد في البوسنة ولا في الهرسك لم يكن فيه على الأقل كتاب واحد لهذا المثقف، وموضوع في مكان محترم. وكانت جميع الأبواب مفتوحة أمامه على مصاريعها، وفور أن تنتهي نقوده يتم على الفور على وجه السرعة إيجاد نقود ويتم وضعها له خلسة على نحو ما حتى لا يشعر بالإهانة، وبعدما يؤلف أي كتاب يجلس كبار رجال الدولة ويقرأون كتابه لكي يروا ما إذا كان ينبغي أن يغيروا ويصححوا بأي طريقة القوانين واللوائح الموجودة وجعلها تتناسب مع ما ورد في كتبه، وهو أيضاً كتب ثلاثمائة كتاب. وكان هنا أيضاً مثقف حسن كان الجميع يكنون له الكثير من التقدير والاحترام. وقال:

لقد تمت كتابة الكثير من الكتب، وفي الوقت الحاضر لن تتم كتابة أي كتاب إلى أن تتم قراءة هذه الكتب.

وهذا ما حدث.

------------------------------------------

يا موتانا
كانت أطيافكم تأتينا عبر حقول القمح الممتدة
ما بين تلال القرية حيث ينام الموتى
والبيت الواطئ في سفح الأجران
كانت نسمات الليل تعيركم ريشاً سحرياً
موعدكم كنا نترقبه في شوق هدهده الاطمئنان
حين الأصوات تموت،
ويجمد ظل المصباح الزيتي على الجدران
سنشم طراوة أنفاسكم حول الموقد وسنسمع طقطقة الأصوات كمشي ملاك وسنان
هل جئتم تأنسون بنا؟
هل نعطيكم طرفاً من مرقدنا؟
هل ندفئكم فينا من برد الليل؟
نتدفأ فيكم من خوف الوحدة
حتى يدنو ضوء الفجر،
ويعلو الديك سقوف البلدة
فنقول لكم في صوت مختلج بالعرفان
عودوا يا موتانا
سندبر في منحنيات الساعات هنيهات
نلقاكم فيها، قد لا تشبع جوعاً أو تروي ظمأ
لكن لقم من تذكار،
حتى نلقاكم في ليل آت.

صلاح عبدالصبور





نجاد إبريشيموفيتش والزميل ابراهيم فرغلي





 





نجاد إبريشيموفيتش: الفن لم يحقق لي ما تحققه الرواية





إبريشيموفيتش واقفا امام أحد أعماله الفنية





غلاف كتاب «كان يا ما كان» الذي ترجم للعربية أخيرا