الفكر اليوناني والثقافة العربية

  الفكر اليوناني والثقافة العربية
        

          هذه دراسة للعوامل الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية التي أدت إلى حركة ترجمة لم يسبق لها مثيل من اليونانية إلى العربية في بغداد, العاصمة المنشأة حديثا للأسرة العربية: العباسيين, خلال القرنين الأولين من فترة حكمهم. وهي تنهل من عمل طويل ومميز للأعمال التاريخية والفسيولوجية في مجال الدراسات اليونانية - العربية, أو دراسة الترجمات التي تمت في العصور الوسطى للكتب العلمانية اليونانية إلى العربية. ومن ثم فإن هذه الدراسة تتخلى عن أسئلة مَن وماذا ومتى, المرتبطة بحركة الترجمة اليونانية - العربية, وتركز على كيف ولماذا, باذلة جهدها في فهمها وتفسيرها على أنها ظاهرة اجتماعية وتاريخية.

          النظرية التقليدية تقول إن حركة الترجمة اليونانية - العربية التي تمت في الفترة العباسية المبكرة, يعود الفضل الأكبر فيها إلى الخليفة المأمون, ولكن المؤلف, وهو أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة ييل بالولايات المتحدة, يرى أن حركة الترجمة كانت مستمرة ومنذ أيام أبي جعفر المنصور, إذ كان ثمة هدف آخر أخذ بيد الترجمة, هو خدمة الحاجات التطبيقية. ففضلاً عن العناية بكتب الفلسفة والطب وسواهما, دعت الحاجة إلى تهيئة كتّاب ومشرعين في حقل الإرث ومهندسين واقتصاديين, وحتى الكيمياء عني بها من أجل أهميتها الاقتصادية, في تحويل النحاس والقصدير إلى ذهب, رغم أن ذلك ثبت بطلانه منذ وقت مبكر. الفرضية الثانية التي يتقدم بها المؤلف هي أن حركة الترجمة اليونانية - العربية لم يقتصر العمل بها, أو الرعاية أو التشجيع لها, على الخلفاء ومن قد يدور في فلكهم المباشر. كانت حركة اجتماعية فكرية علمية عامة رعاها كل من كانت له رغبة في العلم والمعرفة من الخلفاء إلى جماعة المتأدبين الذين كانوا يحصلون على حاجاتهم من الكتب عن طريق نسخها على يد نُسّاخ كانوا يمتهنون ذلك.

          ويضع المؤلف أمامنا لائحة بالرعاة والداعمين للحركة كجماعات تشمل الخلفاء العباسيين وأسرهم بمن في ذلك بعض سيدات البلاط, ورجال البلاط على اختلاف درجاتهم وهوياتهم وأهوائهم. وهناك أيضا رجال الدولة والحرب, والباحثون والعلماء أنفسهم. ويقدم أمثلة توضح رأيه. وحركة الترجمة, من هذا المنظار, كانت حركة اجتماعية فكرية شارك فيها كل من أمكنه ذلك من سكان بغداد. على أن الأمر لم يقتصر على العاصمة. فهناك مدن كانت أصلا مراكز للعلم شاركت في ذلك, لعل أقربها إلى المثل مَرْو, لكنها لم تكن الوحيدة. على أنه كانت هناك في الشرق مدن كثيرة كان لها دور في الحركة العلمية مثل بخارى, ونيسابور فيما بعد, ومناطق جنوب غرب فارس (تحت سلطة البويهيين), كان لها دور كبير في الترجمة. في هذا الكتاب الذي نقله إلى العربية شيخ المؤرخين العرب د.نقولا زيادة, أثار ديمتري غوتاس, وهو بالمناسبة يوناني الأصل, قضية من أعقد القضايا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. وقد ارتأى تفسيرًا جديدا لحركة الترجمة التي كانت عاملا أساسيا في تطور هذا الفكر. ولكنه تفسير لابد أن يلقى كثيرا من الازورار والتبرم عند المؤرخين التقليديين.

 

ديمتري غوتاس