سيكولوجية المشاهير.. ومحنة أمراضهم

سيكولوجية المشاهير.. ومحنة أمراضهم

استوقفني مقال د.خالد جمال: «الطب، وأمراض المشاهير: فان جوخ.. نموذجاً» المنشور بمجلتنا «العربي» الغراء، في عددها: 611، أكتوبر 2009م. وموفقا طرح السيد كاتب المقال «إشكالية العلاقة بين المرض النفسي، والإبداع بشتى صوره»، عارضاً لـ«فان جوخ» أنموذجاً لـ«سيكولوجية المشاهير، ومحنة أمراضهم». وقد يظن البعض أن هذا الموضوع وأمثاله «دعوة للتشاؤم» حيث «صفوة/ نخبة/ مشاهير» المجتمعات من فنانين وأدباء ومفكرين ومثقفين وساسة وأثرياء، يعانون، يقلقون، يكتئبون، وقد ينتحرون.. أليس أمراً يستحق التوقف عنده لتأمله.

لا ريب.. إن حياتهم مليئة بالأحداث المثيرة. فهم نجوم اللقاءات التلفزيونية والصحفية.. تعلوهم ابتساماتهم المشرقة، وتلاحقهم عيون المعجبين، وعدسات المصورين، وصحائف الإعلاميين. يرصدون حركاتهم وسكناتهم.. بيد أن الأسئلة التي تطرح نفسها: من الذي ينهض ويرقى بالمجتمعات وثقافتها، عندما «تعاني، وتمرض، وتكتئب.. وأحيانا تنتحر بعض صفوتها» تشيع سلوكيات تُعتبر «انتحارية/ إيذاء النفس» كرعونة التسبب في حوادث السير، أو تعاطي جرعات مخدر زائدة إلخ؟

- ليس «فان جوخ» (1853-1890م) «العبقري المجنون»، بدعاً من الأمر. قال له الفنان «سيزان» لما شاهد لوحاته لأول مرة: «إنك ترسم كمعتوه». أما الفنان «بيسارو» فقال عنه:«إن هذا الفتي أما أن يُجن أو يبزنا جميعا». كما أنه في عام 1889م، وعقب نزاع حاد مع صديقه الفنان «بول جوجان»، اصطلم جزءا من أذنه، وقدمه إليه، ونقل إلى المشفى وبعد خروجه منه رسم نفسه بإذنه المُضمدة (الثقافة العالمية، مايو 1987م، ص: 190-193، الكويت).

إن قائمة «المشاهير/ الصفوة» الذين عانوا فترات من حياتهم من القلق Anxiety، والاكتئاب العميق Deep Depression، وخبروا تجارب نفسية مريرة Sever Psychological Problems، و«هربوا» إلى عزلة ووحدة قاتلة، وانتهت حياة بعضهم في مصحات نفسية وعقلية، فضلا عن أولئك الذين حاولوا الانتحار ففشلوا أو نجحوا، قائمة تصعب الإحاطة بكل أسمائها.

- ولعل في التصوير الرائع لشخصية «عمر الحمزاوي» في رواية «الشحاذ» ما يشير إلى أن الأديب الكبير «نجيب محفوظ» عانى فترات من حياته «مصاعب نفسية واكتئاباً». إذا ما أخذنا في الحسبان أن الكاتب/الروائي كثيرا ما يترجم/يُسقط نفسه على شخوص إبداعاته.

- حاز جائزة نوبل في الآداب 1954م عن روايته «العجوز والبحر». لكن «الحياة أصبحت كئيبة»، في وجدان الروائي الأمريكي «أرنست همنجواي«(1899-1961م). شهرة واسعة، وعشرون عاما (1940-1960م) في كوبا قضاها في المرح واللهو والصيد، مقبلاً على الدنيا، مسرفاً في الشراب، ولعاً بالطعام. فقد أمه وزوجته الأولى، فأصيب بالاكتئاب وتلقي علاجا بالصدمات الكهربائية، وبدأ المرض يفتك به. وجد «همنجواي» نفسه وحيداً معذباً في أواخر حياته، فقرر الخلاص منها بنفس الطريقة التي قضى بها والده، أخذ بندقيته الحبيبة إليه، ووجهها إلى رأسه، وأطلق النار ليخر صريعاً، ويصدم العالم بخبر انتحاره صبيحة 2/7/ 1961م.

- تركت لزوجها رسالة: «سأفعل ما أراه أفضل!»، ثم أخذت طريقها نحو البحر وشدت ملابسها إلى حجر ثقيل، وألقت بنفسها فيه. أُكتشفت جثتها بعد أيام. إنها الروائية الإنجليزية «فرجينيا وولف». لكن الكاتب والفيلسوف المجري «آرثر كويستلر» فضل الانتحار مع زوجته في بريطانيا.

- بقطع النظر عن جدلية العلاقة بين «العبقرية والإبداع» من جانب، و«الاكتئاب والجنون» من جانب آخر، فإن المعاناة النفسية، وحالات الانتحار مؤشر كاشف على أن الإنسان «كائن معرفي» يصعب تفسيره أو إرضاؤه.. تستهلك كينونته الشكوك المتتالية على فكره «أنا اشك.. إذن أنا موجود». وتستنزفه «إشكالية المعنى والغاية»، كما أشار العقاد، وتصالحه معهما يُعد من أسس استقراره النفسي. يقلقه سعي دائم ومعاناة فكرية ونفسية للحفاظ على توازن دقيق بين «يقين سطحي»، و«شك عميق قاتل». يقول الرافعي: «النفس طلعة متقلبة، لا تبتغي مجهولا صرفا، ولا معلوما صرفا، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق، ولا خفي مطلق، وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق». فضلا عن تجاذبات العلاقة الشائكة والمعقدة بين صاحب الفكر والعلم، وصاحب السلطان والصولجان، و«محنة المثقف».. تأثيرا وتأثراً بمناخات الحرية والإبداع في مجتمعه، ووطنه.

- في منفاه في أستراليا.. سمع خبر اجتياح الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان، وحصار بيروت 1982م. أصابه حزن عميق، وعمّه اليأس والقنوط، فقرر الشاعر اللبناني «خليل حاوي» الانتحار مطلقاً الرصاص على نفسه. مُنهياً «حياة وجدها عذاباً، وغير ذات معنى».

لم يكن «حاوي» بدعاً من الأمر، فغيره سبعة مثقفين وشعراء وأدباء عرب أحصتهم جريدة النهار اللبنانية» في ديسمبر عام 2007م، في تحقيق: «ثقافة الانتحار.. لماذا ينتحر المثقفون؟»، حيث اختار الانتحار كل من: الشاعر الأردني «تيسير سبول» عام 1973م وهو في الثلاثين من عمره، والقاص المصري «محمد رجائي عليش» 1979م، والشاعر الكردي «مصطفي محمد»، الذي انتحر في حلب 1979م، وهو في عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين، والفنان السوري «لؤي كيالي» 1989م، والكاتبة المصرية «أروى صالح» 1997م، والشاعر المصري «صالح الشرنوبي» 1951م، والشاعر السوري «عبدالباسط الصوفي».

إن «تفكيك المجتمع الصناعي/ الاستهلاكي للحياة الاجتماعية وبنيتها، وتدهور الدعم الاجتماعي / النفسي/ الإنساني في المدن الكبرى (الصاخبة والمزدحمة) يضغط نحو«ثقافة الانتحار» لتكون» ظاهرة» اجتماعية في «المدينة الحديثة» إذا ما قورنت نسبياـ بالقري والأرياف».. هذا ما ذهب إليه «إميل دوركايمى» (1858-1917م) في كتابه «الانتحار».

- «الحياة لا تحتمل.. سامحوني» هكذا ذكرت المغنية الشهيرة ذات الأصول المصرية «داليدا» في رسالتها قبل أن تنتحر. خرجت «داليدا» من أحد الأحياء الشعبية في القاهرة لتسافر إلى فرنسا عام 1956 م، وحققت هناك شهرة واسعة لم تصل إليها أي مغنية عربية من قبل، وباعت على مدى عشرين عاماً ما يزيد على 85 مليون شريط لـ 600 أغنية بثماني لغات، وحصدت الكثير من الجوائز والأوسمة العالمية. مع ذلك ضاقت بالحياة، وسئمت الأضواء، واستسلمت لليأس، وأرادت النهاية، حيث استيقظ العالم في أحد أيام 1987م على خبر انتحارها بتناولها عدداً من الأقراص المنومة، ووجدت بجانبها تلك الرسالة: «الحياة لا تحتمل.. سامحوني». أما «سندريللا الشاشة المصرية» الممثلة الحسناء «سعاد حسني» فبعد معاناتها مع المرض، وُجدت صريعة أسفل سكنها في بريطانيا.

الانتحار هو «عمل مقصود لإتلاف الذات، وقتل النفس»، ويفهم على أنه «مأزق متعدد الأبعاد» لشخص «يعاني» يأساً أو قنوطاً من وجود مخرج لأزمته، وبـ«انحراف بالتفكير» يكون الموت هو المخرج. وثمة عوامل مؤثرة في موضوع الانتحار كالجنس، والعمر، والمعتقدات الثقافية والدينية، والحالة الاجتماعية والمهنية، والسوابق الانتحارية، والحالة الصحية النفسية والعقلية والجسمية.

الصراع دائم بين الأمل المشرق الواعد، واليأس المتوحش القاتل، بين الرغبة في الموت، وغريزة التعلق بالحياة، التي هي من أقوى الغرائز على الإطلاق، وبفقدها يكون الموت، ليس بالضرورة موت الجسد بل الموت المعنوي، وفقدان الفاعلية. يشير «إريك فروم» (1900-1980م) إلى: أولية محبة للحياة، وثانوية محبة للموت، وهذه الأخيرة ظاهرة مرضية. ويذهب إلى أن الخيار الأساس هو بين محبة الحياة ومحبة الموت. ويرى أنه في ظروف الرأسمالية يغلب التوجه الثاني الذي يدفع العالم نحو الهاوية من الناحية النفسية والبيئية: الإشباع الطاغي للملذات، «وسعار» الاستهلاك، واللهاث خلف مظاهر المظهر/ التملك/ نفي جوانب الشخصية، دون الاعتناء الكافي بأمور الجوهر/ الكينونة/ تأكيد جوانب الشخصية، فضلاً عن الأنانية والجشع والتناحر والحقد والعنف.. أمور تؤدي إلى فقدان الإنسان لمغزى وجوده.

الأسلوب البديل بنظر «فروم» و«هنري لنك» وغيرهما يتجه نحو الكينونة. وهو أسلوب يبدأ من الدخول إلى عمق الذوات لنعلم ماذا تريد؟، ونحقق ما يرضينا ونرضى عنه، ونقنع به. فالإنسان ليس مؤهلا كي يعيش بحواسه المادية ولجسده فقط، لكن تتكامل جوانبه عند الشعور بمتعة التجربة المشتركة، والقيام بالأعمال المنتجة المعتمدة على «ثقافة الحياة» التي عمادها سمو القيم الإنسانية كالمحبة، والعمل، والعطاء، والمسئولية، والتضحية، والتسامح، والوفاء، والتعايش، والمثابرة، والصبر، والصدق، والمحافظة على الأصدقاء, وسواها.

د. ناصر أحمد سنة
كاتب وأكاديمي من مصر