المتنبي والضياع راشد المبارك

المتنبي والضياع

ليس على الضمير النقدي حرج إذا تصدى بميزان العدل لهذا الشاعر أو ذاك.
وبقدر ضخامة اسم المتنبي، يبدو التصدي النقدي له ضخما كذلك.

علي بن عبدالعزيز الجرجاني- رحمه الله- رجل قضاء، وأحسبه استمد من طبيعته ووظيفته ميزة استماع الدعوى، واستكمال الحجة، والعدالة في الحكم، فالقضاء ميزان يتبين فيه- عند الموفق- الخطأ من الصواب والمرجوح من الراجح. وقد كتب الجرجاني كتابه وساطة بين المتنبي وخصومه كما قال، وشعر المتنبي كان موضع جدل منذ كان، ويظهر من الكتاب إعجاب مؤلفه بالمتنبي، ولكن إعجابه لم يمل به إلى الهوى أو الشطط في الدعوى. فجاء كتابه وسطا بين من يحط من قدر المتنبي، ويقف عند مواضع ضعفه ويتجاهل أو ينكر محاسنه، وبين من يقف على الطرف الآخر إعجابا بالمتنبي ومبالغة في قدر إحسانه، وتقديما له على سواه. لهذا نجد الكتاب اعتذارا عن المتنبي لا نفيا للمأخذ عليه، وإنصافا له بين أهل طبقته لا تقديما له عليهم.. "وإن غايتنا فيما قصدناه أن نلحقه بأهل طبقته، ولا نقصر به عن رتبته، وأن نجعله رجلا من فحول الشعراء، ونمنعك عن إحباط حسناته بسيئاته.. " ، لذا جاءت الفصول الأولى من الكتاب عرضا لمواطن الضعف والتقصير عند المتقدمين على المتنبي من الشعراء كجرير، وأبي نواس، والبحتري وأبي تمام، وأمثالهم. ثم أورد أمثلة كثيرة من مواطن الضعف عند المتنبي من جفاء اللفظ وتعقيد المعنى، والإفراط في المبالغة، وسوء الاستعارة، وتلا ذلك بأمثلة قصر فيها المتنبي عن أقرانه فيما تناولوه من المعاني، وما بزهم فيه، واعتذر ذلك عن المتنبي فيما قصر فيه شعرا أو أخطأ فيه لغة. وبعض ما سيأتي في هذا البحث من مقارنة بين تناول المتنبي لمعنى من المعاني سبق إليه وبين سابقيه أخذ من كتاب الوساطة.

عود إلى المتنبي

وقد سبق القول في هذا البحث إن أمرين رفعا المتنبي إلى المكانة التي وصل إليها. هذان الأمران- كما نظن- هما مصادفة الحظ وقدرة الذات. ونحسب أن مصادفة الحظ جاءت من عاملين:

الأول: أن الناس- أي أكثرهم- يأخذون معارفهم بل ونمط تفكيرهم ومسلماتهم، ومواقفهم من الناس، والأفكار، والأشياء بالتلقي والاتباع، يشدهم اتجاه الحركة واندفاع التيار دون مقاومة تذكر، وقليل من الناس من إذا عرض عليه أمر اشترط لهذا الأمر، أو اشترط عليه، لكي يقبله أو يرفضه. إن أكثر الناس يتخذ موقفه بالتلقين والمحاكاة ويصبح الذوق لديه مادة مطاوعة قابلة للطرق والتشكل وتغير الأبعاد.

الثاني: ما ألفه الناس في شرقنا العربي ومالوا إليه من تفضيل القديم على الجديد، وعلى الأخص في الموروث الأدبي، حتى صار هذا الميل جبلة وطبيعة بسبب من الأمر الأول وهو التلقين والمحاكاة، ولعل هذا التفضيل جاء نتيجة جزئية لتفضيل القديم على الجديد بصفة عامة، والحكم بفضل الزمن السابق- وأهله- على لاحقه، ويبدو للكاتب أن لأنانية الذات أثرا في ذلك، فالبيئة التي ينشأ فيها الفرد من الزمان والمكان والأشخاص والمعارف والعادات تصير جزءا من الذات إذ إنها من مكوناتها أو من المؤثرات فيها.

قدرة الذات

في عالم المادة يمكن للباحث أن يعين كل خواص مفرداتها أو بعض هذه الخواص تعيينا دقيقا محدد المقدار لا يتأثر بميل الباحث أو حاجته أو هواه، فالتوصيل الحراري أو الكهربي لمعدن، ودرجة غليان أو تجمد سائل، وتمدد مادة بالحرارة، وثابت الاتزان لتفاعل مادتين أو أكثر، والنشاط الإشعاعي لمادة مشعة، وما يماثل ذلك يمكن معرفته معرفة غير قابلة للاختلاف، ولكن الأثر الأدبي لا يندرج تحت ضوابط صارمة تقاس بالمسطرة ، أو توزن بالأثقال، أو تقاس بجهاز حساس، وإذا تجرد الباحث أو الناقد من كل ميل، فإنه لن يجد قواعد ثابتة يتفق عليها كل الناس، ومحاولة نقل قوانين المادة إلى فيض الوجدان نوع من الجهد العقيم، أو نقل الشيء إلى غير موضعه، وما يعده الأقدمون من المحسنات من طباق واستعارة وجناس وتورية وحسن المطالع والمخارج وحسن التخلص وما إلى ذلك هو مما يدخل في باب القدرة على التمرس بالصنعة لا على الإبداع فيها، وما يأخذ به المحدثون من تقسيم الشعر إلى غنائي وروائي وقصصى ومسرحي وما إلى ذلك تقسيم يمس الشكل لا الأصل ويتعلق بالمظهر لا الجوهر. ولكن هل يعني ذلك أن ليس هناك أي معيار أو إطار يرجع إليه لمعرفة قيمة النص الشعري، وأن الحكم على النص يتعدد بتعدد القارئين له، ويحكم عليه بالشيء ونقيضه تبعا لذوق المتلقي وقدرته وأحيانا هواه فتكون القيمة الفعلية في الذات لا في الموضوع. من حسن الحظ أن الأمر ليس كذلك إذ إنه مع القول بعدم وجود قواعد صارمة يخضع لها النص فإنه تبقى في الفطرة لدى كثير من الناس مساحة كبيرة من الحس المرهف وحسن التذوق، فإذا صقلت بالدربة والوقوف الكافي على النصوص تكونت مما سبق حاسة لا تخطىء في تقييم النص تنبع من انفعالها لما يصنعه من نشوة أو يوقده من جذوة يحسها وينفعل بها الوجدان وقد لا يعبر عن سبب ذلك اللسان، كصنوف من الجمال البشري تنطق الوجدان وتعقد اللسان، وما ذكره الجرجاني عن الاستعارة بقوله: "وأعلمتك أنه يميز بنفور النفس وقبولها، وينتقد بسكون القلب أو نبوه، وربما تمكنت الحجج من إظهار بعضه.. "، ينطبق على الشعر عامة. على أن هذه النشوة أو الجذوة يمكن أن تلتمس أو تفسر في رونق الديباجة، وتخير اللفظ، والنسب الخفي بين بعض الألفاظ إذا اجتمعت، وهو نسب صانع لإيحاء غريب ف ي الجملة أو الشطر أو البيت من الشعر لا يتيسر في كل الأحيان تفسيره. كما قد يعزى ما يتركه النص في النفس من أثر إلى الصورة الشعرية التي ترسم بالكلمات رسما تقصر ريشة الفنان عن صنع نشوته. ويبقى بعد ذلك ما للمعنى المبتكر من أثر.

ونحسب أن ما يعجب من قول بدوي الجبل:

لا تسلها فلن تجيب الطلول

المغاوير مثخن أو قتيل

موحشات يطوف في صمتها الدهر

فللدهر وحشة وذهول

هو ما صنعه النسب الخفي بين هذه الألفاظ من موسيقى داخلية تهز الوجدان ويشعر معها المتلقي بوحشة الأطلال ورهبة الصمت وحركة الدهر. وذلك ما نرى أثره في قول المتنبي وإن اختلف ما يصنعه من مشاعر عن سابقه:

زودينا من حسن وجهك مادام

فحسن الوجوه حال تحول

وصلينا نصلك في هذه الدنيا

فإن البقاء فيها قليل

فإذا أخذ الشعر الجيد على أنه ما تقدم من رونق الديباجة، واصطفاء الألفاظ، والنسب بين الكلمات والصورة الشعرية، وأنه يعرف قدر الشاعر، بمقدار تفوقه على من سبقه إذا اشترك معه في معنى، والتقدم على من جاء بعده فشاركه في معنى جاء به، والسلامة من مستكره اللفظ وتعقيد المعنى، ونقد الشاعر لشعره واشتراطه له وفيه وعليه فإن حظ المتنبي من ذلك قليل. ولأنه من المتعذر استقصاء الأمثلة الواردة في شعره العارية من هذه الميزات أو المغايرة لها فإنني سأكتفي ببعض الأمثلة وسيجد القارىء غيرها كثيرا في ديوانه من ذلك مثل قوله:

ألا كل ماشية الخيزلي

فدى كل ماشية الهيذبي

وكل نجاة بجاويه

خنوف وما بي حسن المشي

وقوله:

جرداء ملء الحزام

مجفرة تكون مثلى عسيبها الخصل

إن أدبرت قلت لا تليل لها

أو أقبلت قلت ما لها كفل

وواضح ما في هذا القول من توفيق يحسد عليه صاحبه في اختيار خشونة اللفظ وجفاء المعنى والتنافر بين الكلمات وذلك في شعره كثير. وأما الصورة الشعرية فإنك تقرأ له القصائد كاملة فلا تجد صورة مركبة أو بسيطة تهز مشاعرك، والصورة التي وردت في قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة

ووجهك وضاح وثغرك باسم

لا تصادف منها كثيرا في ديوانه. أما الوقوع في مستكره اللفظ وتعقيد المعنى فهو شيء قد يكون من لوازمه ومن ذلك قوله:

أحاد أم سداس في أحاد

ليلتنا المنوطة بالتناد

وقوله:

فتى ألف جزء رأيه في زمانه

وما قل جزء بعضه الرأي أجمع

وقوله:

فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا

قلاقل عيس كلهن قلاقل

ومثل ذلك في الكثرة ما جاء في شعره من فجاجة ومجاجة في اللفظ والمعنى معا مثل:

أوه بديل من قولتي واها

لمن تأت والبديل ذكراها

أوه لمن لا أرى محاسنها

وأصل واها وأوه مرآها

وللمتنبي شيء آخر تفرد فيه وهو المبالغة التي بلغ بها حد الفجاجة والسماجة وهي أقبح ما تكون إذا جاءت إطراء لممدوح. ولو عقل كثير من ممدوحيه لرأوا في ذلك هجاء لا ثناء ولست أدري أي عقل يقبل أو دين يجيز مثل قوله:

بشر تصور غاية في آية

تنفي الظنون وتفسد التقييسا

وبه يضن على البرية لا بها

وعليه منها لا عليها يوسى

لو كان ذو القرنين أعمل رأيه

لما أتى الظلمات صرن شموسا

أو كان صادف رأس عازر سيفه

في يوم معركة لاعيا عيسى

أو كان لج البحر مثل يمينه

ما أنشق حتى جاز فيه موسى

أو كان للنيران ضوء جبينه

عبدت فكان العالمون مجوسا

وأما القصور عن من سبقه في معنى أخذه عنه أو شاركه فيه فقد أورد الجرجاني من ذلك الكثير سنكتفي منه بنقل بعض الشواهد، مع أن الجرجاني ممن يميل إلى المتنبي ولا يميل عنه، وينتصر له ولا ينصر عليه. قال الخبز أرزي:

ولو استطعت جرحت لفظك غيرة

أنى أراه مقبلا شفتيك

جاء المتنبي بعده فقال:

أغار من الزجاجة وهي تجري

على شفة الأمير أبي الحسين

وقال الأبيرد:

عساكر تغشى النفس حتى كأنني

أخو سكرة دارت بهامته الخمر

نظر إليه المتنبي فقال:

مبيتي من دمشق على فراش

حشاه لي بحر حشاي حاش

لقى ليل كعين الظبي لونا

وهم كالحميا في المشاش

ما أحب أن أتجاوز هذا الموضوع دون دعوة القارىء للمقارنة بين الحميا في المشاش وقول أبي نواس:

وتمشت في مفاصلهم

كتمشي البرء في السقم

وقال أبوتمام:

أيقنت أن من السماح شجاعة

تدمي وأن من الشجاعة جودا

تبعه المتنبي فقال:

هو الشجاع يعد البخل من جبن

وهو الجواد يعد الجبن من بخل

وقال متقدم- وأحسبه نسب للإمام الشافعي خطأ:

وأوردني طول النوى دار غربة

إذا شئت لاقيت الذي لا أشاكله

فحامقته حتى يقال سجية

ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

تناول المتنبي هذا المعنى فقال:

وخلة في جليس أتقيه بها

كيما يرى أننا مثلان في الوهن

وقال أشجع:

وعلى عدوك يا بن عم محمد

رصدان ضوء الصبح والإظلام

فإذا تنبه رعته وإذا غفا

سلت عليه سيوفك الأحلام

جاء بعده المتنبي فقال:

يرى في النوم رمحك في كلاه

ويخشى أن يراها في السهاد

وأراد المتنبي أن يصف العلاقة بين مقدار ما يتناوله الشارب من الخمر وما يأخذه هذا المقدار من اتزانه فقال:

نال الذي نلت منه مني

لله ما تصنع الخمور

فانظر كيف وضع أبو نواس هذا المعنى في هذه اللوحة العجيبة:

مضى بها ما مضى من عقل شاربها

وفي الزجاجة باق يطلب الباقي

وقال عوف بن محلم في عبدالله بن طاهر أو في أبيه طاهر بن الحسين:

عجبت لحراقة ابن الحسين

وكيف تعوم ولا تغرق

وبحران من تحتها واحد

وآخر من فوقها مطبق

وأعجب من ذاك ألواحها

وقد مسها كيف لا تورق

وقد تناول هذا المعنى في البيت الأخير- شاعر قبله أحسبه في العهد الأموي أو الجاهلي فقال:

تكاد يدي تندى إذا ما لمستها

وينبت في أطرافها الورق النضر

جاء من بعدهم المتنبي فلم يزد على أن قال:

وعجبت من أرض سحاب أكفهم

من فوقها وصخورها لا تورق

وأترك للقارىء المقارنة والحكم والتفضيل مع الاحتفاظ بفضل السبق للمتقدم.

وكما أن تقصيره عمن سبقه كثير فإن تفوق من جاء بعده على ما طرق من معنى مسبوق إليه أو غير مسبوق كثير أيضا وأكتفي بشاهدين فقط لتفادي الإطالة.

أراد المتنبي أن يصف هيبة اللقاء في ممدوحه فماذا زاد على أن قال:

إذا بدا حجبت عينيك هيبته

وليس يحجبه شيء إذا احتجب

ثم كرر هذا المعنى فقال:

محجوبة بسرادق من هيبة

تثني الأزمة والمطي ذوامل

جاء بعده ابن دراج القسطلي فانظر كيف وضع هذا المعنى في هذه الصورة الشعرية نابضة بالحركة مائجة بالالوان:

ولما توافوا للسلام ورفعت

عن الشمس في أفق الشروق ستور

وقد قام من زرق الأسنة حوله

صفوف ومن بيض السيوف سطور

رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها

وآيات صنع الله كيف تنير

وكيف استوى بالبر والبحر مجلس

وقام بعبء الراسيات سرير

فادنوا بطاء والقلوب خوافق

وولوا سراعا والنواظر صور

يقول والاجلال يخرس السنا

وفاضت قلوب منهم وصدور

لقد حاط أعلام الهدى بك حائط

وقدر فيك المكرمات قدير

ومن شوارد المتنبي التي سارت مسير المثل ودارت على كل لسان قوله:

وأتعب خلق الله من زاد همه

وقصر عما تشتهي النفس وجده

ولولا شيء واحد في هذا البيت ومثله من شعر المتنبي مما سيأتي ذكره أحسبه سبب شهرة المتنبي وما صنع له من رضى تخفى معه العيوب لما خفت العيوب الكثيرة التي اجتمعت في هذا البيت.

لقد قال: وأتعب خلق الله، وهذا يجمع النبات والحيوان والإنسان، ثم قال من زاد همه، وهم الشريف شريف، وهم الوضيع ساقط، وهم رئيس عصابة سطو نجاح عصابته، ثم قال: وقصر عما تشتهي النفس، وشهوات النفس تختلف شرفا وخسة وارتفاعا وضعة بحسب حالة أصحاب النفوس. وقد جاء بعده بألف عام أو نحوه رجل ليس له في الشعر قدر من شهرة المتنبي ولا شيء من مكانته إن كان علما في مكانته وبيئته هو عبدالعزيز بن حمد المبارك فقال:

وأتعب نفس نفس حر تعشقت

جسام المعالي وهي ذات يد صفر

لقد خص من بين خلق الله النفس وهي خاصة بالإنسان، واختار من النفوس الحرة منها، واصطفى من الهم التعشق وخص مما يعشق جسام المعالي. وأحسب أن لو مرت مركبات الكيمياء العضوية بمثل هذه المراحل من التقطير لما لحق بالمركب من الشوائب شائبة. وإذا كان ما تقدم مقارنة بيت ببيت أو أبيات بأبيات فإن مقارنة قصيدة بقصيدة لا تبدو لصالح المتنبي ويبدو ذلك من مقارنة قصيدته في رثاء جدته- وهي من جيد الشعر وجيد شعره- وقصيدة عمر بهاء الدين الأميري في رثاء والدته .

إذا كان الأمر كذلك، وإن ما مر من شعره لا يرفع قدر شاعر فضلا عن أن يقدمه على سواه، وكانت هذه مكانته وقدرته بين نظرائه ممن سبقه أو جاء بعده، فهل يعني ذلك أن الذي رفعه إلى هذه القمة المفردة في أذهان الناس وخوله هذه المكانة في نفوسهم، وجعل لشعره هذا الانتشار والحضور هو من عمل مصادفة الحظ لا من قدرة الذات، وإن إجماع الناس على أمر في فترة طالت أو قصرت من الزمن لا تعني بالضرورة صوابه.. أعتقد أن الأمر في حالة المتنبي ليس من هذا الباب يدخل إليه، ولا يصدق ما تقدم عليه، وإن لشهرته من الأسباب ما يفسرها ويبررها.

السبب الأول: معرفته بالنفس الإنسانية في طبيعتها معرفة حادة النفاذ واسعة الأبعاد عميقة النظرة، عرفها وعرف دوافعها في ضعفها وقوتها، وغضبها ورضاها، وانحطاطها وتحليقها، وعبر عن ذلك كله تعبيرا قوي الأثر حاد النبرة، أبان خلجات النفس وجلى المستتر في أعماقها، وكشف من طبيعة نفوس البشر ما يودون ستره، إلا أن المتلقي لا يملك إلا أن يعجب بذلك وينفعل به لأنه تحدث بلسانه ووصف من ذاته أو ذات غيره ما عجز هو عن الإبانة عنه أو لم يخطر له التفكير فيه.

السبب الثاني: نظرة انفرد بها إلى طبيعة الكون والحياة في حقيقتها وفلسفتها- كما بدت له- نظرة استقلت بل واستعلت على نظر سواه، اقتحم للتعبير عنها كثيرا من الحواجز والعوائق، وأفصح عما في نفسه من ذلك إفصاحا فيه كل التكثيف والقوة وأحيانا السخرية.

هذان السببان هما فيما أحسب الجناحان اللذان بلغ بهما الذرى، وخفق بهما في الآفاق، وحط بهما في كل النفوس. إنك تقرأ القصيدة أو القصائد، فلا تجد في أكثرها ما يهز وجدانك، أو يروق لمخيلتك وقد تجد في أبيات منها غثاثة أو رثاثة تضيق نفسك بها، فبينما أنت كذلك إذ وثب بك وثبة محلقة تطير بك عما أنت فيه، أو تنفعل بها لأنها تعبر عن شيء في داخلك، تحسه أو تعيشه أو تعاني منه، ولم يخطر لك التعبير عنه، فيبدهك وكأنه سبر ما في نفسك من هذه المشاعر والأحاسيس فيعطيك ذلك من الراحة ما يعطي الهواء العليل مر على صدر مكظوم. لقد قال عن نفسه:

عرفت نوائب الحدثان حتى

لو انتسبت لكنت لها نقيبا

وإذا كان مبالغا في ادعائه كعادته، إلا أن له من دعواه نصيبا.

تقرأ قصيدته البائية في مدح علي بن سيار فلا تجد فيها على طولها ما يطرب، ثم تقرأ قصيدته الدالية فيه وهي من الشعر الجيد ولكن البيت الوحيد الباقي على ألسنة الناس هو قوله:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد

يا ترى كم من آلاف البشر عرف هذه الحالة أو - عاشها أو عانى منها، ولكن أحدا لم يعبر عنها ذلك التعبير المكثف، فتفرد المتنبي هنا أنه جاء ترجمانا لما يحسه آلاف البشر ولم يعبروا عنه. ويمدح أبا الحسين علي بن أحمد المري بقصيدة طويلة لا يعرف أكثر الناس منها ولا يذكرون إلا قوله:

واحتمال الأذى ورؤية جانيه

غذاء تضوي به الأجسام

ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش أخف منه الحمام

كل حلم أتى بغير اقتدار

حجة لاجىء إليها اللئام

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ويقول في محمد بن عبدالله الخطيب قصيدة لا يشتهر منها إلا قوله:

فقر الجهول بلا عقل إلى أدب

فقر الحمار بلا رأس إلى رسن

ويكتب إلى سيف الدولة قصيدته النونية المعاتبة على الحديث عن موته في مجلس سيف

الدولة، فلا يجد الناس ما يستشهدون به ويحفظون إلا قوله:

لا تلق دهرك إلا غير مكترث

مادام يصحب فيها روحك البدن

فما يدوم سرورا ما سررت به

ولا يرد عليك الفائت الحزن

ويمدح كافور بقصيدة هي من أجود ما قال في مدح كافور، فلا يتناقل الناس منها إلا قوله:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

وعادى محبيه بقول عداته

وأصبح في ليل من الشك مظلم

ويمدح سيف الدولة ببعض قصائده- وأنضر شعره ما قاله في سيف الدولة- فلا يهم الناس منها إلا قوله:

عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم

ماذا يفيدك في إقدامك القسم

وفي اليمين على ما أنت واعده

ما دل أنك في الأقوال متهم

وإذا كان هذا التعبير عن طبيعة النفوس في خطراتها ونوازعها هو الذي شد الناس إلى شعره فقد جذبهم بقدر مماثل نظرته النافذة إلى الكون والحياة، ورؤيته لأحداثها وتفسيره رؤية وتفسيرا يختلفان، وأحيانا يستعليان على رؤية وتفسير سواه.

ماتت جدته الوالهة إليه المتعلقة به، وكان رثاه لها من شعره في ديوانه كله وأحفله باللوعة الصادقة. ومع ذلك يبدهك بهذا المطلع:

ألا لا أرى الأحداث مدحا ولا ذما

فما طيشها جهلا ولا كفها حلما

إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى

يعود كما أبدي ويكري كما أرمى

ويصحب الشاعر سيف الدولة في غزواته ويعجب بمواقفه وفروسيته، وأراد غزو خرشنة في بلاد الروم فمنعه من ذلك تراكم الثلوج فقال يمدح سيف الدولة ويصف سابق مواقعه مع الروم من قصيدته الدالية: عواذل ذات الخال في شواهد.. فإذا هو يقول:

أخو غزوات ما تغب سيوفه

رقابهم إلا وسيحان جامد

فلم يبق إلا من حماها من الظبى

لمى شفتيها والثدي النواهد

تبكي عليهن البطاريق في الدجى

وهن لدنيا ملقيات كواسد

لقد كان المظنون من سواه بعد هذه الشحنة من الوصف المادح أن يرجع انتصارات ممدوحه إلى تميز فيه أو في جنسه او قبيلته ولكن المتنبي المتفرد بنظرته وفلسفته يلقى إليك بهذه (الكبسولة) المكثفة المفسرة في نظره لكل الأحداث.

كذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

يمدح سيف الدولة بقصيدته القافية ويبدؤها بغزل رقيق- توفيقه لمثله غير كثير- وبينما تقرأ قوله:

سقى الله أيام الصبا ما يسرها

ويفعل فعل البابلي المعتق

يفاجئك بقوله:

إذا ما لبست الدهر مستمتعا به

تخرقت والملبوس لم يتخرق

ثم يتلو هذا البيت مباشرة قوله:

ولم أر كالأحاظ يوم رحيلهم

بعثن بكل القتل من كل مشفق

أنت لا ترى مناسبة بين البيت الثاني وما جاء قبله أو بعده ولكنها النظرة المستبطنة لما يعرفه وما يراه وما يتخيله تلح عليه فتعلن عن نفسها في كثير من الأحيان فير سلها مثلا شاردا. ويرثي ابنا لسيف الدولة مات فتجيء مرثيته وصفا للوعة إن لم تكنها، ولكن لا يبقى منها في ذاكرة الزمان شيء بقاء هذه الأبيات:

وما الموت إلا سارق دق شخصه

يصول بلا كف ويسعى بلا رجل

ونبكى لموتانا على غير رغبة

تفوت من الدنيا ولا موهب جزل

إذا ما تأملت الزمان وأهله

تيقنت أن الموت ضرب من القتل

ثم يتلو ذلك بتلك الزفرة المتصعدة من طول تأمل ومعاناة:

وما الدهر أهل أن تؤمن عنده حياة

وإن يشتاق فيه إلى النسل

ويموت غلام لسيف الدولة فيرثيه المتنبي مواسيا لسيده، ولا أظن كثيرا من الناس سيجد فيها شيئا يحرص عليه أو يلتفت إليه لولا قوله:

سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها

منعنا بها من جيئة وذهوب

تملكها الآتي تملك سالب

وفارقها الماضي فراق سليب

ثم يكرر الزفرة السابقة مفسرا لها بقوله:

وللواجد المكروب من زفراته

سكون عزاء أو سكون لغوب

ما تقدم وما هو مثله من شعره هو الباقي على كل لسان، المستشهد به في كل مناسبة، السائر مسير الأمثال. وما أحسب أنه سيبقى شيء من ديوانه يحلق به إلى ما وصل إليه ويمنحه تلك المساحة من تاريخ الأدب واهتمام الناس لو سلب من الديوان تلك الوثبات المعبرة عن النفس والكون والحياة. والمعجب في الأمثلة التي وردت وما يماثلها من شعره ليس ما تشرق به من رونق الديباجة، وتخير اللفظ، والصور الشعرية وما إلى ذلك من مقومات الشعر، ولكنها تلك النظرة إلى الكون والناس والحياة وصياغتها هذه الصياغة القوية المحتشدة فتأتي ولها دقة وصحة قوانين الفيزياء، وأحكام مواد المتون تكون العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إن هذه النظرة التي انفرد بها، أو انفرد بالتعبير عنها هذا التعبير المتدفق بالقوة والحياة هي العامل الذي مكن له في نفوس الناس، وهذا فيما نظن رفع لقدر المتنبي، وليس هبوطا به وقد أشار هو نفسه إلى ذلك عندما قال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.

إهدار الموهبة

إذا كان الأدب والفكر العربي قد ربح بعطاء المتنبي فقد خسر فيه عطاء أكثر أضاعه الرجل نفسه، لقد أضاع أشياء كثيرة. فهو فيلسوف بطبيعته ذو نظرة نافذة، فلو انصرف إلى هذه الموهبة فيه وصاغ تأملاته واستنتاجاته شعرا لكان من القلائل الذين احتفظ لهم التاريخ بمكانة في الفكر الإنساني، ولكنه أضاع ذلك باحترافه الشعر، وأضاع كثيرا من شعره بجعله ارتزاقا يقصد به كل من يظن فيه إعطاء مكسب أو تخويل منصب، وبالغ في إطرائه لكل من قصد مبالغات فجة يعلم هو قبل غيره كذبها واستحالتها، وأضاع خلقه باحترافه هذا السقوط الدائم. وضاعت مع مطامحه حياته، وضاع مع فقده ما كان يمكن أن يضاف إلى الفكر والأدب.

 

راشد المبارك

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المتنبي





السفر الأول من دراسة العلامة محمود شاكر في نقد المتنبي





محمود محمد شاكر