الخانم إبراهيم صموئيل

الخانم

في كل مرة كان سقوطه يحرض فضولنا، فننشد إليه، ونتجمع حوله مبهورين، لكأننا نراه للمرة الأولى!

وفي كل مرة، أيضا، كان "أبوعلي" - صاحبه - يبدأ بالحسنى والمسـايرة، ثم يغضب ويثور، إلى أن ييأس تماما. عندهـا، يلتفت إلى أقرب صبي منا، طـالباً إليه القيام بالمهمة ذاتها التي حفظناها لكثرة ما تكررت. المارة من أهل الحارة لهم حصـة في الحادث، ولـذا تراهـم يتوقفون لهنيهـات كي يسدوا خـلالها النصح لـ "أبو علي ": "سايسه يا زلمة... سايسه بيقوم "... "فك رباطـه بالأول... بيختنق هيك "... أو ترى بعضهم يهمز الشفقـة في قلبه: "على مهلك يا أبوعلي... هادا روح متلنا"... "له.... له... ما بيجوز ضربه يا شيخ " وفي حين يتوقف بعضهم، يتابع معظمهم الطـريق مستعيـدين ما حفظـوه من أمثال وحكم ربانيـة من الرأفة بالحيوان.

ونحن، بدورنا، لا ندع فرصة الاجتهـاد للكبار، فزانا نتبارى، هـامسين بدايـة، في تداول الأسبـاب المؤدية لسقوطه، إلى أن تحتد خلافاتنا فتعلو أصواتنا، مسفهاً بعضنا آراء البعض الآخـر، بحيث يندفع أحدنا - للبرهنة على صحة رأيه - إلى سؤال "أبوعلي" بنبرة واثقة، وعلى مسمع من رفاقه: "عمي... مو منشـان كذا وقع حصـانك؟" فيأتيه الجواب سريعاً: فـرقعات في السـوط الجلـدي وشتـائم غضوبـة لا تستثني أحداً من أسرة السائل.

جسـامة حصـان "أبو علي"، بـروز عضلاته، خبب مشيتـه، وقـدرته على جر الطنبر مهما ثقلت حمولتـه... جعل من سقوطه المتكـرر، وعلى مقربة من دار عبود في معظم الأحيان - تلك التي تقع على بعد دور قليلة من مخرج حارة "أبوعلي" - يحضنا على التساؤل عن سر هذا المكان بالذات، خصوصاً وقد لاحظنا انبساطه، وخلوه من حجارة ناتئة أو مادة زيتية أو حفرة مهملة...

في المرات التي أتاحت لنـا المصادفـات مشاهـدته قبيل سقوطه، انتبهنا إلى أمر: ما أن يخرج من الحارة الضيقـة إلى الدرب الفرعية، سـاحبـاً بقوة الطنبر المحملة خلفـه، حتى يسقـط أرضاً! لم يكن يطـوي قوائمه مائلا بجسمـه ثم يستلقي على الأرض... بل تراه يهوي بكليته دفعة واحدة. يغار نحـو الأرض إغارة بادية كأنه يرمي بنفسـه، أو لكأنـما أستلت قوة خفية قوته الظاهرة... ولحظتها، نرمي شواغلنـا الرتيبة لنتفرغ للشاغل الحي!

كالعاشق ينكب "أبـو علي" على حصانه، فيشرع في مسح جبهتـه وفكيـه، والتربيـت على عنقـه، وتدليك عضلات قوائمه، حافزاً إياه على النهوض بتوصيتات يصدرها وشد رفيق للرسن... غير أن الحصان يظل متشنجاً، ليس ما يدل على الحيـاة فيـه سوى شخير محموم، ونفثات بخار كثيف من منخريه.

ويعاود المسعى...

فيداور وينـاور في فك الأربطة المتشابكة، وسحب الأحزمة المفتولة من تحت حصانه ليحله منها، من دون أن يفلح.

وينحني على ذراع الطنبر، يرفعه بعزم، ويلعلع بسوطه في الفضاء، مطلقاً صيحـات خشنة،! عريضة، حاثّة... لكن الحصان لا يتزحزح!

عندها، يربد وجهه، فيتراجع خطوتين، رافعاً قبضة السوط إلى ما فوق رأسه، وهاوياً به على جسد حصانه، فتتشقّق جلودنا من المشهد الرهيب.

بين أزيز السـوط، واختـلاج عضلات الحصان، وشتائم "أبوعلي " الفاضحة، وجفلتنـا... يتـدخلّ الـرجال من المارة بين نـاصح ومتلهلـه ومعترض، ساعين إلى رفع الحصان وحثه، فيما ينبري أحـدهم ليقول بعصبية متوددة: "يا أخـي حصانك فحل! يعني إذا ما شبّعتـه ما بيخـدمك" فيرد عليه "أبـوعلي " ردّ العارف سـاخراً: ولك ياحبيبي المصيبة إنه ما بيشبع "، ثم ينسحب إلى جـانب الـدرب ويقعي لنحـو دقيقة مستسلما ليأسه.

على غفلة، ومن احتـدام اللغط، يصيح "أبوعلي ": " اتركوه يا جماعة... منشان الرسول اتركوه" ثم يمسك ذراع أقربنا إليه وينبر آمراً "روح طـيران... هات لي الخانم بسرعة".

والخانم نعـرفهـا، بل ونتشوّق كي يطلب منـا إحضارها، فنطير جماعة متسابقين إلى دار عبّود، نخبره لاهثين، فيمتطي فرسه، ونمتطي الريح خلفه...

* * *

رأساً على عقب يتحول الموقف!

فما أن تهلّ فرس عبّود البيضاء، ونحن نعدو خلفها صاخبين، ثم يلتفت الجمع إليها ويبدو المشهـد لحظتذاك مثل عروس تُزف... حتى يأخـذ الحصان بالتململ. ومع اقترابها رهوا من المكان كنّا نسمعه وهو يطلق صهيـلاً حاداً، مموسقاً، متكـرراً... لائبا برأسه وحافّاً به الأرض. أما حـين تتخاطر أمـامه، متهـادية، متلفّتة في كـل اتجاه، وهي توقّع بحـوافرها على مرمى ناظريه... فقد كان ينتفض انتفـاضة واحـدة، رافساً، وراجّاً الطنبر رجّاً، إلى أن يستوي على قوائمه لحظة، ثم يشبّ على خلفيتيه، جـاحظاً، محمحماً، مزبداً، وقـد تفصّد عرق جسده والتمعت عضلاته المشدودة فبدت كنصال في وهج الشمس.

وعلى عكس انفضـاض الجمع وتفـرقهم، يـرمح "أبـوعلي " نحو الرسن الطليق ويشده إليـه، ثم يطبق، بومضة، على الحكمة الجلدية، سائطاً في الهواء... في الوقت الذى يهمز فيه عبّود فترتعد مجفلة ثم تنهز بقوة ماضية بعيداً.

ويرين السكون بعد تلك الزوبعة.

فيما يتابع المارّة طريقهـم، يمضي "أبوعلي " في إحكام وثائق الطنبر، وفحص عجلاته، وجمع ما تناثر عنـه، حتى إذا ما تمّ ذلك، اقترب من حصانه ضامّا رأسه إلى صـدره، ثمّ طفق يمسح على جبهته وعنقه قـاتلاً: "لا تزعل ياروح... من عمرها الدنيا هيك... عكروتة".

وبكلمة يفوتنا على الدوام فهمها، يمشي الحصـان ويمشي صـاحبـه متحـاذيين، بينهما رسن متهـدّل، وخلفهما صرير عجـلات يخفت مع كل خطوة يجرّانها، إلى أن يغيبهما الشارع العـام عن أنظارنـا تماماً، فنلتفت حينها، من غـير همّة، باحثين عن ألعابنا الرتيبة التي كنا تركناها منذ دقائق قليلة خلت.

 

إبراهيم صموئيل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات