الآخر... في التراث الفكري الإسلامي

الآخر... في التراث الفكري الإسلامي

أقر الإسلام منذ البداية بشرعية الاختلاف بين الناس والمعتقدات، كما أن موقفه كان واضحا من أصحاب الأديان والعقائد والآراء الأخرى، فما هي الحدود التي رسمها مفكرو الإسلام لذلك الاختلاف؟ وما هو موقفهم من الآخر المختلف، وكيف نظروا إلى تلك الآراء والعقائد المخالفة؟

ابتداء لابد من التأكيد على أن مصطلح (الآخر) هنا لا يعني بالضرورة الطرف السيئ أو الكافر أو الشاذ، أي لا يؤخذ بمعناه السلبي فحسب. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن ما نقصده بالتراث لا يعني فقط المعنى التقليدي المتعارف عليه لهذا المصطلح باعتباره: المدونة الثقافية باللغة العربية والموروثة من عصر الجاهلية حتى القرن السادس عشر الميلادي تقريبا، وإنما نقصد به أيضا معنى ثانيا غير متداول للتراث، وهو أنه: التقليد المحتفظ به، ليس على رفوف المكتبات، وإنما في الذهنيات والسلوكات والانتماء والمعتقدات.

الاختلاف سّنة الوجود

الإنسانية واحدة، واختلافها وتمايزها إلى أمم وشعوب وحضارات سنة من سنن خالقها - جلا وعلا - وقانون من قوانين الوجود، قال تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانــكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم: 22). وإن هذا التعدد والتنوع الإثني والثقافي والاجتماعي واللغوي والديني بين الأمم والشعوب والمجتمعات، يؤدي بطبيعة الحال إلى الاختلاف العقائدي والفكري وفي نمط العيش والنظرة إلى الحياة، ولكن بمستويات متفاوتة. وعلى الرغم من وجود أشكال ومستويات متعددة للاختلاف بين الناس والعقائد، فإنه في أغلب الأحوال كان جوهر الاختلاف دينيا، ويمكن أن نؤشر في هذا المـــجال وجود ثلاثة مستويات من الاختلاف:

أولا - الآخر المختلف في إطار المعتقد الواحد، أي في الإطار الإسلامي ذاته، حيث تسلم الأطراف المختلفة بمجموعة من الثوابت العقائدية المشتركة، ويكون الاختلاف في مستوى التأويل للنصوص المقدسة فقط، إذ يتعدد المعنى وتتباين التفسيرات فتقام على أساس ذلك مدارس فقهية مختلفة لكل منها خصوصيته وأتباعه.

لقد أثبت فقهاء المسلمين ومنهم: «الماوردي وأبو حنيفة النعمان والغزالي وابن خلدون.. وغيرهم الكثير»، فضلا عن الأحداث التاريخية الموثقة، أن هذا النوع من الاختلاف حقيقة واقعة منذ عصر الإسلام الأول، واتفقوا إلى حد كبير في شرح أسبابه ومبررات شرعيته، لذلك وجد منطق للمناظرة والجدل عند المتكلمين، كما وجد مبحث «الخلافيات» الفقهي. وقد أكد هؤلاء الفقهاء أن حدود هذا الاختلاف وأسبابه ترجع إلى طبيعة النص المقدس نفسه الذي يكتب ويروى ويتناقل بلغة تتميز بسمات الإجمال والإشارة والرمز، لذلك تتعدد التأويلات وتتباين درجات القياس للوقائع والأحداث المتجددة، في مقابل النص الثابت في المجمل العام، وكل هذا يؤدى إلى اختلاف في الفهم والاستيعاب والتأويل بين المجتهدين، ومن البديهي أن يظهر ويلتف حول كل مجتهد أتباع ومؤيدون، وهكذا تنشأ المدارس الفقهية المذاهب وتتعدد وتختلف.

إن عدم الإقرار بهذا النوع من الاختلاف، وعدم الاعتراف بشرعيته من لدن بعض الأطراف هو الذي أدى في الماضي، كما يؤدى اليوم، إلى مزالق الانحراف والتطرف وفرض الرأي الواحد، حيث تغلق كل أبواب الحوار أو الاستماع إلى الرأي الآخر، فتصادر بذلك الحقيقة، ويشرّع للاستبداد والعنف باسم الدين.

ثانيا - الآخر المؤمن الموحد، ويأتي في إطار الاختلاف التقليدي مع أصحاب الأديان السماوية من أهل الكتاب، وعلى أساس أن دين الله واحد أزلا وأبدا، وما اليهودية والمسيحية والإسلام سوى دين واحد متصل الحلقات. وإذا كان الاختلاف بين المسلمين وأصحاب الأديان التي سبقته أمرا واقعا لابد منه لمبررات موضوعية وعملية ذات صلة بالتطور التاريخي، فلابد أن نذّكر أولا بالقواسم المشتركة في تراث هذه الأديان السماوية، والتي تمثل في جوهرها عناصر اتفاق مهمة، أكثر بعدا وأعمق أثرا في النفوس من عناصر الاختلاف نفسها، وفي مقدمتها:

  • التوحيد وصلة الله عز وجل بالعالم، فالله في اليهودية والنصرانية والإسلام خالق الكون خلقا مباشرا، وهو عالم به علما محيطا.
  • كما أن لمعتنقي هذه الأديان ذاكرة دينية مشتركة: من خلال إيمانهم بأنبياء بعينهم يتبنونهم معا بتفاصيل قصصهم ومعجزاتهم.
  • كما تتفق اقتناعاتهم الدينية أيضا بتحديد بدايـــة ونهاية مشتركة للإنسانية والتي تبدأ بـ«آدم» عليه السلام، وتنتهي بـ «يوم الحساب».
  • كما تجمعهم، من جانب آخر، ذاكرة تاريخية مشتركة في أمور كثيرة في مقدمتها الأحداث التحقيبية الكبرى «الأحداث المفصـلية» في التاريخ الإنـــساني كحادثة الطوفان وغيرها من الأحداث.

علاوة على ما تقدم فقد اعترف الإسلام للأديان السماوية (الكتابية) على أنها أديان مشروعة، حيث اعتمد الفقهاء على آيات قرآنية محددة، وعلى السيرة النبوية الشريفة، في وضع الإطار القانوني لأهل هذه الأديان المعترف بها تحت اسم «أهل الذمة»، فهناك «اليهود» و«النصارى» ومن هم في معناهم، مثل « الصابئة»، وربما شمل هذا المسمى «المجوس» أيضا في بعض المراحل التاريخية مع أنهم وثنيون وليسوا أهل كتاب».

إن طبيعة الاختلاف إذن بين المسلمين ومعتنقي هذه الأديان السماوية كان على مستوى العقيدة فقط، وقد حسم القرآن الكريم هذا الأمر بوضوح، فكلٌ يعبد الله عز وجل على حسب ما يراه، وعلى حسب عقيدته، فدين الله واحد، وشرائعه متعددة، قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة (المائدة: 48).

من جانب آخر لم تطرح العقيدة الإسلامية نفسها كديانة جديدة وإنما هي عودة إلى الدين الأصل، قال تعالى: ... هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل... (الحج: 78)، وإذا كان هناك موقف خاص للإسلام والمسلمين من اليهود الذين حرفوا أصل دينهم، واتخذوا مواقف العداء من الإسلام الأول ومن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، كما يتخذون اليوم مواقف العدوان والتآمر على العرب والمسلمين، فإن الإسلام وقف موقف الود والاحترام من النصرانية والنصارى منذ عصر الإسلام الأول قال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (المائدة:82).

لكل هذا وذاك كانت قنوات اللقاء والحوار مع المسيحية وأتباعها كثيرة ومتعددة، وفي مقدمتها أننا نحن المسلمين نؤمن بالمسيحية كدين، ونؤمن بنبي الله عيسى - عليه السلام - ومن لم يؤمن بعيسى فليس مسلما، والقرآن الكريم يتحدث عن السيدة مريم والسيد المسيح بكل احترام وتقدير، فضلا عن القيم والفضائل المشتركة بين الديانتين، فكل منهما يدعو إلى الصدق في القول والعمل ويدعو إلى المحبة والتعاون والعدل ويرفض الظلم والعدوان.

المصادر التاريخية

أما بصدد ما تذكره المصادر التاريخية عن سوء معاملة أهل الذمة أحيانا من لدن بعض القائمين على أجهزة الدولة آنذاك نقول: إن تلك الأطر المبدئية والفقهية الإسلامية التي تحدد النظرة إلى الآخر «من أهل الذمة»، لم تمنع من وقوع تجاوزات وتعسف أقدمت عليه الدولة «الإسلامية» في بعض مراحلها التاريخية ضد أهل الذمة وما فرضته عليهم أحيانا من قيود وشروط بخصوص دور العبادة أو الملبس مثلا (استنادا إلى آراء بعض المتشددين من الفقهاء التي تؤكد على ضرورة تميز أهل الذمة باللباس والشارة) إلا أنهم على الرغم من ذلك لم يلُزموا به دائما. كما أن الإشارات التاريخية إلى الأساليب والمعاملة القاسية معهم، والتي كانت تصاحب جباية الضرائب السنوية (الخراج والجزية)، فإن هذه الإجراءات المتعسفة كانت تطال الجميع بمن فيهم المسلمون، فها هو أبو يوسف قاضي قضاة الدولة في زمن الرشيد يندد بتلك الأساليب ويصف بعض عمال الخراج بأنهم «ليسوا بأبرار ولا صالحين... يأخذون الخراج بالعسف والظلم والتعدي...وقد يقيمون أهل الخراج في الشمس، ويضربونهم الضرب الشديد، ويلقون عليهم الجرار ويقيدونهم بما يمنع من الصلاة، وهذا عظيم عند الله، شنيع في الإسلام....» (أنظر كتاب الخراج طبعة القاهرة 1352 هـ ص 105 - 111).

ثالثا - الآخر المختلف (غير الموحد): على الرغم من عدم وجود منطق يرسم حدود الاختلاف بين المسلمين وأصحاب العقائد والمذاهب المخالفة الأخرى (أي الوثنية)، فإن مفكري الإسلام أولوا اهتماما خاصا بهذه العقائد«غير الكتابية»، والتي لم يعترف الإسلام بمشروعيتها كأديان، وذلك بهدف التعرف عليها والتعريف بها، وكذلك في محاورة أصحابها، وتخصص في هذا المجال نوع من الكتّاب للتعريف بتلك الملل والنحل فتناولوها في كثير من الحياد والموضوعية،في حين انشغل آخرون بالرد عليها ونقضها.

تأتي عقائد الفرس وأديانهم القديمة، وخاصة «المانوية» في مقدمة الأديان والعقائد غير الكتابية المناقضة لعقيدة الإسلام، التي اهتم بها الكتّاب المسلمون آنذاك، وكتبوا في التعريف بها وفي مجادلتها الكثير من المؤلفات، والتي كتب أغلبها خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة (الثامن والتاسع للميلاد). وتوزعت هذه المؤلفات - كما أشرنا - بين تبسيط هذه العقائد والتعريف بها وبين الرد عليها،حتى نشأ بحدود القرن الثالث الهجري (التاسع للميلاد) أدب مستقل خاص بالحوار وبالمجادلة العقائدية، كأدب متميز في الثقافة الإسلامية. وقد يتساءل المرء عن السبب الذي دفع مفكري الإسلام إلى الاهتمام بهذه العقائد مع أنهم كانوا في غنى عن مثل هذا الجهد لو اكتفوا بالموقف الشرعي الديني منها والذي يعدها ديانة مرفوضة إسلاميا لا حق لأتباعها في أية وضعية شرعية؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في أمرين أساسيين:

الأول - أن هؤلاء «أي المانوية» كان لهم شأن وامتداد في الدولة والمجتمع آنئذ، ولا بد من التعامل مع هذه الحقيقة بواقعية ووضوح وعدم التغاضي عن آثارها المستقبلية.

الثاني - أن ذلك الحوار والجدل كان على مستوى النخبة فقط والتي كانت تتنازع على النفوذ داخل مؤسسات الدولة، وتتنافس على مواقع الصدارة، أو القرب من الحاكم آنذاك. إن الذي يهمنا في هذا الجدل والحوار الذي جرى في مرحلة تاريخية من مسيرة الحضارة العربية الإسلامية هو الآتي:

كان هذا الحوار منسجما مع المنهج القرآني استنادا إلى قوله تعالى: لا إكراه في الدين البقرة: 256 وكذلك يتفق وقوله تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد (الكافرون: 1 - 3)

أن الاختلاف مع الآخر أو الحوار معه لا يعني التكافؤ معه بأي حال من الأحوال، فليس هناك مجال للمقارنة بين عقيدة الإسلام وأية عقائد وثنية أخرى.

أن هذا الجدل قد أفرز نتائج إيجابية مهمة ساهمت في تكوين فكر حجاجي في المناظرة العقائدية، حاول اللجوء إلى العقل كوسيلة للتحكيم ولتبرير سلامة المعتقد. كما ساهم في تطوير الفكر الديني الإسلامي نفسه، ذلك أن كلا من النخبتين الإسلامية والمانوية استخدمت في هذا الحوار رصيدا ثقافيا غنيا، فكان من الطبيعي أن ينعكس استخدام هذا المكتسب الثقافي العلمي والفلسفي في المحاججة والحوار إيجابيا على الفكر الإسلامي نفسه.

صور أخرى للاختلاف

هناك صور وانطباعات أخرى عن «الآخر» المختلف نقلتها لنا كتب الرحالة العرب مثل: المسعودي وابن حوقل وابن بطوطة وابن جبير، نتجت عن احتكاكهم بمجتمعات وشعوب وحضارات متنوعة أثناء تجوالهم في تلك الأصقاع البعيدة والمختلفة كليا عن المجتمعات العربية الإسلامية، وتراوحت تلك النظرات بين النقد والاحترام والإعجاب بالآخر المختلف، مع شعور بالثقة بالنفس وبالخلفية الحضارية التي يستندون إليها، وعدم الشعور بالنقص أو الدونية حتى وإن كان «الآخر» متفوقا في مجالات معينة.

إن اللافت في طبيعة تلك الاختلافات، ومن خلال متابعة لتطورها التاريخي أن الاختلاف الداخلي، أي في إطار المعتقد الواحد، وخاصة عندما يستغل لأهداف وأغراض غير دينية، يكون الأكثر حدة والأشد غليانا من الاختلاف مع الآخر خارج المعتقد نفسه، وأن الاختلاف بين أصحاب الأديان السماوية يتخذ طبيعة أشد وأعنف من الاختلاف مع الآخر البعيد، غير الموحد وغير المؤمن.

 

 

عبد الحكيم الكعبي