النيران الفارسية

  النيران الفارسية
        

          ظهر الروائي وليم جولونج ذات مرة وفي لحظة وجدانية وعلى نحو مميز, متحدثا عن تأثير النصر الإغريقي على الغزو الفارسي الهائل الذي حدث 480 ق.م, وقد أشار جولدنج, على وجه الأخص, إلى الملك الإسبرطي ليونيداس ومعه ثلة من مواطني بلده يناهزون الثلاثمائة عدًا, هؤلاء دافعوا عن الممر الضيق في ثرموبيلاي على الرغم من حتمية الهزيمة, فقد حاولوا إعاقة تقدم الفرس تحت قيادة (الملك العظيم) زيركسيس لفترة وجيزة, ربما كانت أيامًا حاسمة.

          بعض من الفلاسفة الكلبيين (وهو مذهب أسسه الفيلسوف اليوناني 444 - 365 ق.م, وينادي بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها), اعتبروا هذه واحدة من الأحداث المهمة التي لا طائل منها, ونماذج من استراتيجية الولع بالهلاك الذاتي, ولكن التاريخ يحكم على هذه النماذج, عمومًا, وأمثالها بطريقة ملائمة, خاصة في فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عندما أظهر اليونانيون القدماء جسارة كرمز قريب للحرية الغربية, بينما - على النقيض - ظهر الفرس كأقرب إلى النظام السوفييتي المترع بالطغيان.

          في عام 1955, نصب تمثال ضخم عادي لـ (ليونيداس) ورفاقه في طريق على مقربة من ممر ثرموبيلاي, وموّل بأموال أمريكية. وفي عام 1962 تم عرض فيلم يحمل اسم (ممر ثرموبيلاي) واشترك فيه ثلاثمائة من الممثلين الشجعان الممتلئين بمعتقدات عن الحرب الباردة وأحاديث نبيلة حول القتال في سبيل الحرية.

          وفي كتابه المتميز الجديد, (النيران الفارسية) روى لنا توم هولند, بشكل أو بآخر, قصة الحروب الفارسية ضد الجذور السياسية والاجتماعية التي تفسر وضع الاختلاف الدولي وصراع الثقافات.

          إنها ليست تمامًا قصة المعارك - على الرغم من أن المؤلف كان متوهجًا في التعبير عن صوره التي تنبض بالحياة حتى أنه لم يغفل العرق والرائحة النتنة, ونحن الآن ندرك أن هذه هي السمة المميزة للعامة حينما كان خوض القتال متلاحمًا.

          استهل الكاتب بالغوص في الجذور العميقة للإمبراطورية الفارسية في القرن السابع قبل الميلاد, وقد تتبع القصة من خلال الاستفزازات الإغريقية (للملك العظيم), والنصر الأثني ضد القوة المدججة بالسلاح لمعركة الماراثون, التي انتهت بقراءة فصلين في غاية الدهشة لعلوم التكتيكات, الخيانة والتشكيلات في المعركة حول عدد وعتاد القوى الغازية جعلت بعض القدامى من الكتّاب يعتقدون أنهم بالملايين, وهذا خطأ بلا ريب.

          وقد رجع الكاتب بذاكرتنا القهقرى عند المحطات الرئيسية التي لعبت أدوارًا في ميادين التنافس والصراع.

          أخذ الفرس نفرًا قليلا من الأسرى الذين عادوا أدراجهم إلى الخلف من جرّاء هزيمتهم النكراء في الماراثون, وفي نهاية المطاف تم توطينهم - مباشرة - من قبل (الملك العظيم) شمال مدينة البصرة الحديثة, وكما يقول هيرودوت المؤرخ اليوناني الأشهر 485 - 425 ق.م.: (إن الزيت الأسود تدفق من الرمال التي تكتنفها الأسرار).

          هولند مؤرخ هادئ كتب بصيغة أقرب إلى أن تكون رسمية, أو يُعتد بها, وبثقة حول أدب الإغريق أكثر مما كتب حول روما القديمة في كتابه الأخير (ريبكون Rubicon) - وهو اسم شهير لنهر شمالي إيطاليا, كان يُشكّل جزءًا من الحدود بين الجمهورية الرومانية والولايات التابعة لها. وقد اجتازه يوليوس قيصر عام 49ق.م., وأصبح في حالة حرب مع بومبي ومجلس الشيوخ وقد أصبح سيد روما فيما بعد - وعلى الرغم من أن جمهور قرائه المعنيين بمثل هذه الأمور, سوف يقرأونه ولكنهم سيتعلمون أكثر من الثغرات التي ألمح إليها ضمنًا, وببراعة قلم نادرة استسلم للإغراء المتعلق بأهداب الرواية بغير تحفظ والموشاة برائحة المعلومات. الكثير مما هو وثيق الصلة بالموضوع, والكثير مما هو موضع فخر, لقد تناول المؤلف سؤالا جد صعب حول محاسن ومساوئ الصراع - السؤال الأكثر عمومية, من أي جهة نختارها نريد أن نتحدث? وقد تم تناول هذا الموضوع بدقة كبيرة إلى حد بعيد عن خلفيات هذا الصراع في الحرب الباردة.

          كان واضحًا بما فيه الكفاية أن انتصار الإغريق قد أنجز هذه المسألة, وحقًا إن الهزيمة التي حاقت بالفرس تم اعتبارها دلالة عسكرية مهمة أفضت إلى تأريخ الثقافة الغربية, لو تمكن الفرس من إحراز النصر لكانت تراجيديا إغريقية حَفُل بها القرن الخامس الميلادي كصفحة يقرأها الجميع الآن.

          تقريبًا من غير ريب لا, ونطرح سؤالا: هل تطورت تقاليد الكتابة التاريخية بنفس الإمكانات التي نمتلكها الآن? ومرة أخرى نجيب من المحتمل لا.

          ومع ذلك, فإن هولند لديه نقطة ضعف هشة تجاه الفرس على الرغم مما يمتلكه من حماس واضح واحترام لإنجازاتهم الرائعة وإحياء آثار إمبراطوريتهم.

          وهذا يتضمن الاعتزاز بالمكان, ونرى هذا جليًا على تمثال منحوت ضخم على وجه منحدر صخري شاهق في مدينة بيستون بإيران.

          هنري رولينسون شاب إنجليزي قام بدراسة هذا الأثر في منتصف القرن التاسع عشر عند الاحتفال بذكرى تسنم داريوس (والد Xerxes) سُدّة الحكم مصطحبًا بنص تبريري بثلاث لغات, وقد أفضت هذه الدراسة إلى فك مغاليق شفرة الفرس القدامى.

          هذا التقدم اللغوي الهائل الذي تبوأ مرتبة سامقة مع حل الشفرة المنقوشة على حجر رشيد.

          عالج هولند بإنصاف وتجرد كُلا من الثراء الثقافي الإغريقي والفارسي, وهذا ما يُعد نادرًا في الروايات الشعبية لهذه الحروب, ولاسيما إذا كانت مؤثرة, ومع ذلك فإن الصفحات الأخيرة لـ (النيران الفارسية) التي كانت انعكاسًا لجوهر النصر الخاطف للإغريق, كما أظهره - هولند - أقل كآبة عن كونه محصلة لصراعات دولية.

          الإمبراطورية الفارسية نفسها تعرضت للإذلال على مشارف الحدود الغربية وبطرق متعددة فقد حل بالاثنتين الشيء الأسوأ وكذا العديد من القيادات البارزة للمقاومة الإغريقية البطلة, تيموستيكولوس التكتيكي الأثني الأكثر تألقًا سقط توا وتم إرساله إلى المنفى وقضى أيامه الأخيرة في خدمة الفرس ناصحًا إياهم (ما هي أفضل السبل لمقاومة انتهاك حرمة مواطني بلدي).

          الدولة الأثينية ذاتها, بعد دورها البارز كمقاتل من أجل الحرية, وتحوّل تحالفها الحر للدول الإغريقية إلى إمبراطورة مستبدة, وعن طريق غزو بحر إيجه فرضت حكومات ديمقراطية, سوف تكون - الآن - محط إعجاب صقور البنتاجون (الأمريكي) مخلّفا الكثير من النماذج السالفة متسائلاً: هل السيطرة الفارسية كانت سيئة إلى حد بعيد?

          مضى قرابة قرن ونصف القرن, خارج كتاب هولند, نهوض دولة مقدونيا تحت فيليب والإسكندر الأكبر اللذين وضعا - كلاهما - الإمبراطورية الفارسية والتجربة الموجزة لأثينا مع الحرية الديمقراطية, وفيليب الثاني 338 ق.م هو والد الإسكندر الأكبر هزم جيوش طيبة وأثينا في معركة سهل خيرونيا وفرض سيادته على اليونان واغتيل بعدها بعامين وتولى ابنه الإسكندر الأكبر الحكم 336 - 323 ق.م, وكانت تلك بداية نشأة الإمبراطورية المقدونية.

 

توم هولند