قراءة نقدية في عاشق المكان محمد حسن عبدالله

قراءة نقدية في عاشق المكان

"دُبي في قصص محمد المر"

من خلال قراءة 140 قصة قصيرة لمحمد المر يمكن أن نصنع "خارطة" خاصة لمدينة دبي يظهر فيها تكوينها البشري، وموروثها الأخلاقي وتوزيعها الطبقي.

محمد المر أديب وصحفي من دولة الإمارات، له أسلوب ورؤية، وقلم نشط، وبخاصة في فن القصة القصيرة، بين عامى 1982 و 1989 نشرت لـه إحـدى عشرة مجموعة قصصية، هي- على التوالي-: حب من نوع آخر، الفرصة الأخيرة، صداقة، شىء من الحنان، المفاجأة، ياسمين، نصيب، حبّوبة، مكـان في القلب، قـرة العين، الصـوت النـاعم. على هـذه المجموعات الإحدى عشرة تعتمـد دراستنا، وقد صدر للمؤلف مجموعات أخرى لم تصلنـا، وهذه إحدى "معضلات " تسـويق الكتاب العربي، مع هذا فإن ما قرأناه لهذا الأديب يكشف بوضوح عن استقرار منهجه الفني، بقدر ما يكشف عن غزارة معلوماته وتنوعها، وتعدد خبراته وتجاربـه، وكذلك يؤكد نزعته الإنسانية فيما يصور من أنماط، وما ينقد من أخلاق، وما يعلل به الضعف البشري، وما يرصد من عيوب المجتمعات.

إن قصص محمد المر تستحق عناية خاصة، قراءة خاصة، تستوعب خصوصيتها، وتنبه إلى ألوان الجـمال الفني المستسرّة في طواياها، ولعل هذا يتاح لنا مستقبلاً، أما الظاهرة التي دلت عليها قراءتي لهذه المجموعات، وأثارت الانتباه، فهي الحفاوة الواضحة بمدينة دبي، والاهتمام بأحيائها، وما يستجد من ضواحيها، لقد أوشك هـذا أن يغري بأن أصنع لهذه المدينة، التي أحسست بأنها جميلة جداً، ولها شخصية مؤثرة، دافئة، لا تنسى، أصنع لها "خارطة" مستمدة من 144 قصـة قصيرة، هى مجموع ما كتب محمد المر في كتبه الأحـد عشر المشار إليها، ولعلي خشيت للحظة أن تكـون هذه الأسماء للأحياء والمناطق والشوارع مخترعة، من ابتداع الكاتب، لدعم الإحساس بالواقع لدى قارىء القصة، وقد استبعدت هذا الاحتمال، لما في القصص من إلحاح على الأسماء بذاتها، وثبات أوصافها، ولحرصه على رصـد التغير (الجغرافي والبشري والمظهـري) ولأنها تتطابق مع القليل الـذي أعرفه عن هذه المدينة، أما الضمان الحقيقي الذي ساند هذه "الحيثيات" جميعاً فهو في منهج الكاتب ونزعته الواضحة التي تسمي الأشياء بأسمائها مهما كانـت محرجة، أو محبطة، فلماذا إذن يخترع " فريـج " لا وجود له، وهو يضع ذاكـرتنا، وموروثنا، وجهازنا العصبي، وجهازنا التناسلي أيضاً على المشرحة، أو في أحسن الأحـوال، تحت جهـاز الأشعـة الذي لا يخفى عليه شيء؟!

وجهان للمدينة

العلاقة بين الفن القصصي والمكان علاقـة عضوية، لا تكتسب القصـة اسمها إلاّ أن تصوّر بيئة محددة (واقعيـة أو متخيلة) هذا على الرغم من أن التصوّر (التقليدي) للقصة أنها حـدث يتحـرك، أو شخصية تنمو في الزمان، على أن فن القصـة القصيرة - بصفة خاصة- أعطى المكان حقه من الاهتمام، واختزل الزمان في "الموقف" أو اللحظة الراهنة، وبالنسبـة للقصـة القصيرة في الخليج، عامة، يغلب عليهـا الطـابع الكابـوسي، وبالإضافة لادعاء الحداثة فإن ملامح المكـان، وخصوصيـة البيئـة يتراجعان أو يختفيان تماماً، وقد كان هذا من دواعي الاهتمام بالمكان في قصص محمد المر.

إن عشق محمد المر لمدينتـه ليس رومانسياً، إنه يمقت المبالغة، كـما يرفض التعبيرات الجاهزة، إنما يتجلى العشق في انشغال القلب، في الشغف بذكر المعشوق، في الحنين إلى لقائه، في المعرفة بخلجاته وأسراره وتفاصيله، وليس الإعجاب به نفياً لعيوبه أو ستراً لها، وإنما التسليم بهذه العيوب والإبقاء على الحب، برغمها، بل أحيانا، من أجلها!!

في قصة "لا أحـب الأوامر" يهجو مدينتـه على لسان سالم عبدالله، الذي يكرهها بلا مواربة "مدينة دبي لا أحبها رغم أنني ولدت فيها، تعجبت عندما أخبرني أحد أصدقائي أن طبيباً بريطانياً عاش في دبي، وعشقها، وقبل أن يموت في بريطـانيا أوصى بأن تحرق جثتـه ويحمل رمادها ويذر في خور "دبي "!!.. دبي مدينة قاسية متجهمة، نمت بالأجانب وللأجانب، معظـم سكانها طارئون، كلهم فيهـا لكسـب النقـود، للتجـارة، للتهريب.. " وفي قصـة "ما يقال وما لا يقـال " تأكيد لهذا الاتجاه الهجـائي أو الانتقـادي القاسي للمدينة، يأخـذ شكـلاً تهكمياً ساخراً من خـلال إظهار التناقض بـين الوجه والقناع أو ما لا يقال، وما يقـال، فـالأديب الكبير- بطل القصة- يجرى مقابلة صحفية، فيدلي بإجابات صريحـة، أولاً، لا يسمح بكتـابتهـا ونشرها، ثم يدلي بنقيض ما ذكر ليكـون "القنـاع " المأذون بتداوله.

الصحفي الشـاب يسأل الأديب: مقارنة بتلوث السيارات والمياه والشوارع في هذه الأيام لاشك أن مدينة دبي في أيام طفولتك كـانت مـدينة جميلة صغيرة نظيفة.

- بالعكس كانت مدينة قذرة، البيـوت كـانت تخلـو من المراحيض، كل فريج أمامه كثيب كبير من القمامة تعيش فيه قطعـان الكلاب الجربانة، إخـوتي وإخـواني لم تكن أمي تفلي رءوسهم وتنظفهـا مـن أسراب القمل.. إذا مـررت بجانب سوق الجلود.

هذا هو الـوجه الحقيقي للمـدينة القـديمة كـما يراه الأديب الكبير، لكنه يضع على الوجـه القبيح قناعاً مصنوعاً، زائفاً لكنه المرغوب عند القراء، أو يتناسب وما ينتظره الناس من أديبهم ولهذا يلغي ما سبق، ويملي صيغة النشر:

- في طفـولتي كـان الخور لازوردي اللـون، جميل المنظر، وكـانت البيوت البيضاء الجميلة على جـانبيـه تتنـاغم في نظام فـريد، وكـانت العبرات والمراكب الشراعية تزين صفحـة الخور، وكأنها نقوش فنيـة في لوحة بديعـة التكوين، وكـانت البراجيل بتشكيلاتها المميزة تقتنص نسمات الهواء لتلطف بها من حر الصيف.

إن محمد المر يريدنا أن نسلم بصدق الوصف الأول، وزيف الوصف الآخـر، هـذا واضح من إضرابه عن تسجيل العبـارة الأولى، وكـذلك اللجـوء إلى اللغـة المصنوعة (المثقفـة) في العبارة الأخرى، ومع هذا: الوصفان صادقان، إذ ليس في أحدهما نفي للآخر، وهذا يستدعي العبارة التراثية: لقـد رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلـت أسـوأ مـا علمت، ولقـد صدقت في الأولى، وما كذبت في الثانية.

حل اللغز: الإنسان

ليس محمـد المر إذن هو راسم الصـورة بالكلمات ولكنها "الشخصية، في داخل القصة هى التي عبرت عن مشـاعرهـا الخاصة، النـابعـة من تجربتها المعينة، في قصة "القرطاسة البيضـاء" نعرف أن مدينة دبي يشقها الخور، وأنها لهذا تنقسم إلى بـرين، أو شاطئين: بر دبى، والآخر: بر ديرة، ونعرف- أيضاً- أن "راشد" يعيش بأسرته الصغيرة بحيّ الراشـدية من بر ديرة، في حـين أن أهله كانـوا ومازالوا يعيشون في بـر دبي، "أما لماذا فضل راشد العيش في بر ديـرة، ولماذا لا يحب بر دبي، ولم يذهب إلى هنـالك منذ أربعين عاماً؟ ولماذا خلال تلك المدة الطويلـة لم يستخدم القوارب الصغيرة التي تنتقل مئات المرات يومياً بين ضفتى الخور، ولم يعبر الجسور التي أقيمت على الخور لتربط ضفتيه، ولا النفق الـذي شيـدوه أخيراً تحت ميـاه الخور"؟ يـرجع السبب إلى أربعين عاماً خلت، وكانت المدينة تنقسم نفس القسمة، وإن لم يكن لها نفس الامتـداد أو العمـران، غـير أن مسرات الحياة تفرض نفسها مهما تواضع المستوى، وهكـذا، ذات صيف، ذهب راشد مع أسرته القـديمـة للتصييف في منطقة النخيل بالقرب من المصلى، في بر دبي، كان سعيـداً، شيد بنفسه العريش السعفي، وأعده للإقامة، وزاد سعادته أن تعلق بملاعبة طفلة جميلة كانت تقيم في العريش المقابل، يقول راشد:

"في بـر دبي أحببت كل شىء: العـريش، عـرائس النخيل، الشمس الـورديـة وهى تختفي بـدلال وراء الكثبان الرملية، نسمات الأصيل الرطبة، هواء منتصف الليل العبق، حتى الخفافيش الرمادية السوداء كنت أراقـب أسرابها تطير بين النخيل والكثبـان بتمتـع مسرور".

بين هذا الاستمتاع بكل بسائط الحياة، والامتناع عن مجرد المشاهدة، أن الطفلة المرحة الجميلة مرضت ليلتين، ماتت بعدهما، ذلك الموت الفـادح الذي عرفته البيئـة العارية عن حصون الوقاية وقلاع التطعيم وإسعافات العلاج، لم يكن راشد مثلاً فريداً في انهياره لرؤية طفلة تموت بهذه الطريقة الفاجعة، أخته صفية- وهى مكفوفة البصر، لعله بسبب الجدري أيضا- تذكرنا بما جرى في السنة الماضية للوجيه خليفة بن بطي الذي جن بعد أن دفن ابنته الصبية، الوحيدة، التي قتلها الجدري، حتى أنهم وضعـوا القيود في رجليه، بعد شهرين من موت ابنته وجنونه، مات في قيوده.

في مثل هـذه القصص لا تكون "دبي" مكـاناً محايداً، يرسمه القـاص بخطوط الموضـوعية، إنها كـما تبـدو للشخص، يتفاعل معها، أو يتعامل معها، وموقعها من نفسـه تحدده نتيجة هذا التعامل، كما يحكمه القرب أو البعـد، ففي القـرب يترجم الـوطن إلى لغـة العمل والمصالح اليومية، ومعاناة البحث عن الأرزاق، وفي البعد تختفي التفاصيل المادية، ويتحول الوطن إلى طاقة، إلى مشاعر، إلى معنى مجرد، قريب من المثالية، أو هو المثالية!!

في قصة "جنسية" كـان سالم يعمل في الكـويت لمدة ربع قرن، عرض عليه رئيسه في العمل أن يساعده في الحصول على الجنسية الكـويتية، ولكنـه كـان يشكـر ويعتذر، إنه يحمل "دبي " في قلبه، وحلم العـودة إليها خلاصة عمره ونهاية غربته، وقـد عاد، فلم يجد شيئاً في مكانه، هذا الأمر الطبيعي المتوقـع كان صدمة بـالنسبة لأحـلام غربتـه الطويلة، كان- من قبل- يتحـدث إلى زوجته (الزبيرية) وأولاده عن دبي بشاعرية وحنين، وأحياناً بعاطفة تشبه التقديس، أهلها كرام بالسليقة، وخـورها أجمل من دجلـة والفرات وشط العـرب، وسمكها ألـذ الأسماك، "أهلنا من بني يـاس أشجع العرب" ثم عاد بأسرته فماذا وجـد؟ حي الشندغة حيث ولد هجـره أهله إلى الأحياء الجديدة، يمشي في أزقته وسككه يستجدي ذكرياته، فلا يجد الأطفال بثيابهم البيضاء، بل وجـد هنود منطقة كـيرالا، يحلقون ذقونهم أمام الأبواب، ويقـرأون جرائدهم، والكـلاب تملأ الأزقة، فالهنود لا يقتلونها، وحين استنجد بالشاطىء، لم يجد الزوارق ولا طيـور النورس، وإنما مخازن المينـاء والرافعات تزحم السماء.. انتهى حي الشندغة، حتى شيخه الذي علمه الأناشيد والأذكار الصوفية، وعلى يديه حفظ أشعار ابن الفارض وعبدالرحيم البرعي، حين هرع إلى بيتـه يلتمس في حنانه القديم شيئاً من الأمان، قالوا له إنه مات سأل عن ابن الشيخ، فعرف أنه ترك الذكر وأصبح مالكاً لإحدى شركات المقاولات، لم يكن حظ سالم في الحصول على وظيفة في وطنه خيراً من حظ حيه القديم الذي اكتسحه التطور، لم يوفق، حمل أسرته عائداً إلى الكويت، وقدم طلباً للحصـول على الجنسية.

وفي قصة "هجرة المحنط " يرصد بداية الغربة، وليس ختامها كـالقصة السابقة. "المحنط " أحـد جلساء مقهى فربج الضغاية، وسبب إطلاق الرواد هذا الاسم عليه أنه قال في بداية تردده على المقهى إن الشعب العربي شعب محنط، فأعجب الرواد بالكلمة، وأطلقوها عليه، أما هو فقد كان صعب الرضا، لا يعجبه العجب يدعو إلى إلغاء الإعراب، يدرس اللغـة العربية ويرفضها، ويدعو لكتابتها بالأحرف اللاتينية.. وينسحب كـرهه لمهنته (التدريس) وتخصصه على مدينته: "دبي ".

- بلـد عجيب، خبزك يخبزه إيراني، صاحب المطعم هندي، النجار بنجابي، الـذي يكوى ملابسك مدراسي، سائق التاكسي بتاني، الكهربائي باكستاني، البائع هندي، الممرضة التي تضربك بالحقنة سيلانية، ونحن مثل طيور وأسماك الزينة، يغـذوننا، وينظفون أقفاصنا وأحواضنا ويتفرجون علينا، نحن فرجة في هذا البلد، الجالية الأقل عدداً والأطـول ريشاً وزعانف، كلنـا طواويس، سياراتنا مزركشة، وبيوتنا ملونة بألوان فاقعة، ونتفرد بثيـابنا البيضاء اللامعة، التي تقول لباقي الجاليات تعالوا تفرجوا علينا، نحن للأكل والزركشة والفرجة في المجانية، نحن طيور وطواويس!!

أخـيراً قرر "المحنط " أن يقوم بجولة سياحية متنقلة بين مدن الـوطن العـربي، غير أنه لم يشاهد غير القاهرة، والإسكندرية، في الإسكندرية تزوج وأقام وعمل بـالتدريس وسكن على البحر في شقـة صغيرة: "أكثـر من أربـع سنـوات والمحنط في الإسكندرية، اندمـج في عالمه الجديد، نسي غضبه وكرهه للغة العربيـة، وأحياناً يكلم زوجته بشيء من الحنين عن مدينته التي ولد فيها: لؤلؤة الخليج التي لا يريد الرجوع إليها".

هل هذه الصورة ممكنة، الصورة المحايدة تماماً، الملتزمة بالحقيقة الموضوعية، كـما هى وليس كـما تبدو لأحدنا؟ إن هذا صعب التحقيق ولكنه ليس محالاً، ووجه صعوبته- فيما نحن بصدده- أنه في خلوّه من الرؤية الخاصة- تعلقاً بالموضوعية أو سعيا إليها- سيكون غير معبر عن شعور سيكـون مجرداً من الانفعال، وهذا يـؤدي إلى هبوط وصف الصورة إلى النمطية، والاستعانة بالمصطلحات والتعويل على القـدرة الذهنية لـدى القـارىء، وليس الطاقة الانفعالية، مع هذا فإن محمد المر حقق هذه الصيغة الصعبة، وقد أعانه عليها، أو يسرها له أنه لم يجاوز القصة القصيرة، فجـاء وصفـه للمكـان في لمحات، وعبـارات خـاطفة، حتى وإن كان المكان "بطـلا"، أو هو المحـرك للحـدث، وهنـا يختلف- بالضرورة- عن " المكـان " في الرواية إذ يتسم بالثبات والامتـداد واستمرار التأثـير، في قصـة: "امتلاء اليد الفارغة" كان "خلفان" يجلس في مقهى أحد فنادق دبي الفاخرة، ينتظر صديقاً، فتاة سمراء مليحة ركزت نظراتها عليه، وابتسمت له، وبادرته:

- أنا آمنة ابنة جاركم سلامة، ألا تذكر؟

ينظر إليها ويقلب في ذاكرته، ويجيب باضطراب:

- نعم أذكـر، ولكنك كنت صغيرة.

زادت ابتسامتها:

- كل صغير يكبر، أما زلتم تسكنون في حي الرأس؟

- انتقلنا إلى الحمرية.

- نحن كنا أول من سكن حي الراشدية، عشرون بيتاً فقط والباقي كثبان رملية كأننا في خيام في الصحراء سنة واحدة وقضي على تلك السكينة والهدوء، وجـاءت المدارس والكراجات والمطاعم، صوت الطائرات كان يرعبنا. الآن تعودنا عليه.

هكـذا تتحـرك وتتـوزع المدينـة القـديمة، وتتقطع العلاقـات المستقرة، ويتلاقى الأبناء كغرباء، وتختلف- من ثم- الأمـزجة ودرجـات التحـرر، والمعتقدات لقد بدأت القصة بهذا اللقاء، وانتهت بأن قتل الفتى تلك الفتاة الجريئة!! فإلى أي مدى كان المكان - تباعد المكان- صانعاً أو مشاركاً في الجريمة؟

أما كيف تبدو مساحة مـن المدينة من فـوق مئذنة الجامع الكبير في بـر دبي، فإنـه يلتقط الصـورة بعيون مراهقين مفطرين في نهار رمضان، لم يجدا في المدينة مكاناً يستر عليهما ذنبهما غير أعلى المئذنة، حين غافلا حارس المسجد وصعدا "أخذا يتفرجان بحبور على المناظر المتعددة التي لفتت أنظارهما، الخور بلونه الأخضر المشوب بـالـزرقة، والعبرات والسفن التي تملؤه حركة وضجيجاً، شكله من أعلى كثعبان طويل مستلق، ذنبـه في الخليج ورأسه في الصحـراء، بر ديـرة ببنايـاته المرتفعـة، بر دبي، السـوق القـديم، قلعـة الفهيدي، المقبرة القديمة ونباتـاتها الكثيفة التي تغطي القبور وشواهدها، الكثبان الرملية الممتدة إلى زعبيل، جسر المكتوم يبدو كقوس طرفه على بر دبي وطرفـه الآخر على بر ديرة، وسهامه تتجه إلى السماء.. " على أي حـال لقـد أفطر الصبيان ونزلا، وأكـلا "علقـة" من تمنيت لـو أن مشهـد المدينة، والأفق أيقظ فيهما حنيناً فطـرياً خاصاً حال بينهما وبين ما يعتقـدان أنه خطيئة، ولكن الكـاتب آثر الواقعيـة الخالصـة، ولم يمزجهـا بشيء من الرومانسية أو المثالية التي توقعتها أو تمنيتها.

لقد رصد محمد المر حركة المنـاطق ما بين تغـير المنظر، واختـلاف السكـان، والتواصل فيما بينها، نعرف من بر دبي هذا الجامع الكبير، وحي الشنـدغة الـذي يتردد اسمـه كثيراً وفي مقـدمتـه حي الرأس أو فريج الرأس، وحي قرطبة، وكانت به قـديماً منطقة النخيل التي يقصـدونها في الصيف لإقامة خيامهم السعفية هرباً من شدة الحر، ونعرف أنه- قديماً- وفي مقابل حى الشندغة، كانت تمتد خيام البلوش، تتصاعد منها أذكـار الصوفية وأناشيدهم كل مساء خميس، أما بر ديره قديماً فقد كان له سور، وخـارج السور كان حيّ الزط (العجيب) وخيام مرضى الجذام المعزولين، أما في صميمه فهناك ساحـة السبخة حيث تباع الكتب القديمة، وقد نصـادف فريج عيال ناصر، أو بـار ومقهى مكسين، أو نـدخل حي الراشدية، وقد نصل إلى سوق الجلود في أقصى غرب ديرة، فإذا أردنا أن نتابع حركة السكان بين دبى، والديرة، فإننا سنجد أهالي الشنوغة- بعد دمار حيهم- وقد تفرقوا في بر ديرة، (أو دبى الجديدة) في أحياء السطوة والشعبية والجافلية، وينبغي أن نعرف أن المحكمة انتقلت من مقرها القديم بقلعة نايف إلى مقرها الجديد ببناية البلدية، ونعـرف أن دائرة الهجـرة والجوازات قـريبـة من حي السطوة، وأن محلات سوق مـرشـد متخصصـة في بيع أدوات الخياطة، وأن مبنى الإدارة الكائن في حي الرأس أصبح نادي الهلال البحـري، وهو- رغم التسمية- ناد لكرة القدم!!

 

محمد حسن عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نصيب





مكان في القلب





حبوبة