الشعر ديوان العالم.. رَبيْعُ الصَّقيْع البَدِيْع
الشعر ديوان العالم.. رَبيْعُ الصَّقيْع البَدِيْع
الشعرُ ديوانُ العرب، وهو ديوان العالم كله بالمثل. فله مرتادون من ألف طيف وطيف إلى وديان عبقر بمختلف الألسنة. من الأماكن النائية المنسية، إلى البقاع التليدة الخالدة، يصعد من قلب الشاعر إلى سقف العالم. كانت الحركاتُ الشعرية الجديدة تنضج في ألمانيا، وتبرز في فرنسا، وتشتعل في إيطاليا، وتدك خطواتها الأرض في بريطانيا، فتنتقل أصداء ذلك كله إلى شمال أوربا، وبالتحديد إلى شبه الجزيرة الاسكندنافية، ليلتقطها الشعراء السويديون الساكنون في سقف العالم، مما جعل من الشعر السويدي «آخر العنقود المتخلف عن الركب دومًا» على حد تعبير الناقد ماغنوس وليم أولسون في تذييله الأنتلوجيا الشعر السويدي، من سبعينيات القرن الماضي، حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، التي وصفها ناشراها - المدى في دمشق، والمجلس الأعلى للثقافة في السويد - بأنها «إطلالة من حواف النهائي». في تقديم القصائد والشعراء يتحرك الأديب سليم بركات بين السطور متلمسًّا ذلك الهدوء ذا الأجراس الهائلة التي تُقرعُ في مكان ضيِّق: العظام، ففي حين يكون لدى شعراء أقاليم الأرض الوسطى، مثلنا، متسعٌ لتبويب «شمالاتٍ» كثيرة، فإن السويد تقف على حافة الشمال النهائي. يتأمل بركات الكلمات فإذا بها «تُرمى بخفة. كلمات متوحدة؛ مبتورة في عنادها، تحتبس أنفاسها لتعرف المقدار المحتمل لبقائها بلا هواء. تشهق، من ثم، إذ تتنفس في قفزة يقينها من سطر إلى آخر». في قراءتي لقصائد الشعراء المُختارين في الأنتلوجيا، يمكنني أن ألمح ذلك الهاجس المتردد في كل ما هو مواز للموت، والفقد، والغياب. إنهم غارقون في الصقيع، لكنهم يبحثون عن ربيع بديع، بالرغم من اليأس الذي يتبدى حينا بعد حين في سطر هنا، أو تعبير هناك، أو بيت بين بين. سأختارُ من القصائد المنشورة في الكتاب البالغ 360 صفحة ما ترجمه إبراهيم عبد الملك، وجاسم محمد، وقد أشرف هذا الأخير مع ماغنوس وليم أولسون على تحرير المختارات التي صدرت هذا العام 2009، لواحدٍ وعشرين شاعرًا وشاعرة، صورهم على الغلاف الجامع. أبناءُ هذه المجموعة ينتمون جلُّهم إلى شعر بسيط جديد، نشأ بعد الستينيات من القرن الماضي، باحثا عن اليومي ليجعل منه خُبز الشعر. ومن رحم هذا التجديد ولدت قصائد الشعر على أكثر من شكل، يسجل يوميات، ويثير فوضى، ويوثق عبثا، ويقدم هوسًا، ولا يعترف بحدود. الاقتصاد السويدي الذي حاز السبق - قياسًا ببلدان أوربية - في ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي تجنبت البلاد الدخول في أتونها، هيّأ للمجتمع ظروفا متباينة، ففي حين عرف الازدهار والرخاء والعدل والارتقاء التعليمي، ركن أيضا إلى التقاليد، التي رآها سويديون شعراء آخرون ـ مثل غونار إيكليوف، الذين عاشوا تحت سماوات مغايرة ـ بأنها خانقة، وقد رد على هذا الاختناق جيلٌ جديدٌ تأثر بالعولمة الثقافية في الفنون والآداب والصرعات المتمردة. وكانت أزمة النفط في 1973 ضربة قاصمة هدت ذلك الاستقرار المجتمعي الذي تباهى به السويديون، فشاركوا سواهم في الأزمة، وعانوا مثلهم الأمرَّيْن! هكذا أخذت أسرابٌ من الطيور المغردة تستلهم الأزمة حينا، والتقاليد حينا، والتمرد أحيانا أخرى، وبدأ نوع من «الاختراق» الثقافي لكل ما هو سائد، تمارسه أصواتٌ جديدة، وكأننا نرسم هنا ما رسمه العالم في أرجائه، مهما اختلفت الأسماء، والهويات. إنه الشعرُ، ينفجرُ أخيرًا بعد أن اشتعل طرف الأزمة، ووصلت النار إلى منتهاها. فيسيل نهرٌ من جليد، وربما تشرق شمسٌ من حروف. أنا جنينٌ مفحم بفستاني الأسود أنا جنينٌ متفحِّم، ترنيمة للأرض نمضي عبْر وداع جثة. تضيئها شمعة كتاب الدم بمن ألوذ حين يذبل الجوري رسالتي إلى العالم لي، كلَّ يومٍ نزهةٌ جديدة. أواخر الشتاء ولا شيء يمكن رؤيته. غالباً ما أترك شيئاً ما على الأرض، في الخلفية. التهاب مزمن. اكتئاب في الريف. ثلج رطب يتجمع. أرغب حقاً في اللحاق بك خارجاً على ذلك الجليد الذي لا يتجمّع صقيلاً، بل أبيض. والأبيض لازمة: مطر، ليل، أسود، لون، حرف. أو يأتي متأخراً كالقيض. أعلم أن ما عبر مرّةً قد ضاع. الطفولة مثلاً، سعادتنا المشتركة، حديقة. لكنني باقية، دون تردد. سوف لن أستلقي على الأرض ووجنتي تلامس الجليد. ما دمت.
|