سموم الدايوكسين تجتاح بيئتنا

 
 

 

 

 


 
 



سموم الدايوكسين تجتاح بيئتنا

مادة ملوّثة... وميكروجرامات قليلة منها كفيلة بإبادة الإنسان أو بإثقاله بالعلل والأمراض المستعصية. فمن أين تتولّد سموم الدايوكسين، وما مخاطرها، وهل هناك طرق للوقاية منها?

مازالت مشكلة تلوّث البيئة من المشاكل المستعصية التي تعاني منها البشرية في هذا العصر، إذ إن هذه المشكلة تهدد كل الكائنات الحيّة والنباتات، وقد فرضت نفسها كعائد سلبي للتقدم التقني والحضاري للإنسان، ففي كل يوم تلقي آلاف المداخن والمصانع ومحطات توليد الطاقة الكهربائية بآلاف الأطنان من الغازات والغبار والمخلفات والنفايات، والتي تلوّث الماء والهواء والتربة عن طريق إفسادها للخواص الطبيعية والكيميائية لعناصر البيئة، وقد تزايد الاهتمام الدولي بالقضايا البيئية، خصوصاً بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية أن 90% من الأمراض الخبيثة ترجع إلى عوامل بيئية نتيجة لنشاطات الإنسان.

وتعد مادة الدايوكسين من الملوثات العضوية الضارة جداً بالصحة والبيئة، حيث تدخل في نطاق ما هو معروف لدى علماء البيئة باسم (مجموعة الاثني عشر مكوّنا الأشد ضرراً على البيئة)، وذلك لأنها مادة شديدة السميّة، ويمكن تصوّر مدى السميّة الفائقة لمادة الدايوكسين إذا علمنا أن الجرعة المميتة منها تقل عن نصف ميكروجرام لكل كيلوجرام من وزن الجسم البشري، وهو ما يعادل جزءاً واحداً من مليوني جزء من الجرام. ويكفي اللتر الواحد منها لإبادة مليون شخص في الحال وإصابة مليون آخر بالأمراض والعاهات.

مولدات الدايوكسين

وتضم عائلة الدايوكسين حوالي 419 مركباً كيميائياً، ولكن ثبت من التجارب أن منها (30) مركباً فقط له تأثير ضار وسام بنسب متفاوتة، وإن أكثرها سميّة هو الدايوكسين المعروف علمياً باسم Tetra-Chorodibenzo-Para-Dioxin، ويشار إليه اختصاراً (TCDD)، وتنتج مادة الدايوكسين من احتراق المواد الكيميائية التي تحتوي على مادة الكلور مع المواد الكاربوهيدراتية بصورة غير مقصودة، وكمنتج ثانوي للعمليات الكيميائية، حيث تتفاعل المواد الكيميائية التي تحتوي على عنصري الكلور والأوكسجين، يتكون الدايوكسين عند ارتفاع درجات الحرارة وينتشر في طبقات الجو، وعندما تهطل الأمطار تتشبّع به البحار والأنهار والتربة الزراعية، وينتقل إلى الأسماك والنبات والحيوان واللحوم والألبان والبيض، ومنها إلى الإنسان، ويتراكم في النسيج الدهني لما له من خاصية التراكم الحيوي، كذلك يمكن أن ينتج الدايوكسين من مصادر طبيعية مثل البراكين وحرائق الغابات، ومن أمثلة الصناعات التي ينتج الدايوكسين كمخلف منها صناعة الورق وعملية تبييض لب الورق، وصناعة المبيدات الحشرية، ومن أخطر المصادر التي تسبب تلوّث البيئة بالدايوكسين محارق النفايات الصلبة التي لا تحرق حرقاً كاملاً مثل العبوات البلاستيكية (PVC)، ويشكّل حرق النفايات الصلبة 95% من الدايوكسين الموجود في الجو.

ومن ناحية أخرى، فإن تخزين مخلفات الزيوت المعدنية التي تحتوي على نسبة مرتفعة من الدايوكسين يتيح الفرصة لانفراد الدايوكسين في البيئة المحيطة وتلوّث الأغذية والأعلاف، وتوجد نسبة مرتفعة من الدايوكسين تصل إلى 97% في اللحوم والبيض ومنتجات الألبان، ويرجع ذلك إلى تلوّث العلف المستخدم في تربية الدواجن والأبقار، وهو ما حدث بالفعل في بلجيكا عندما تلوّث الدجاج والبيض بالدايوكسين نتيجة لتلوّث العلف الحيواني، وقد تبين في عام 1976 أن مادة TCDD موجودة بنسبة قليلة في الجو المحيط بأحد المصانع في إيطاليا نتيجة حريق هائل في هذا المصنع.

وتكمن خطورة تلوّث البيئة بالدايوكسين أو دخول مثل هذه المواد الضارة إلى الجسم في أنها تبقى لفترات طويلة جداً وذلك نظراً للثبات الكيماوي الشديد لهذه المركبات، فعلى سبيل المثال، نجد أن نصف العمر اللازم لتحللها في جسم الإنسان يقدر بحوالي (7) سنوات، كما أنها تتراكم في التربة الزراعية دون أن تتحلل أو تتغير، وقد يمتد عمر النصف لهذه المادة إلى عشرات السنين كي تبدأ في التحلل، ثم يحتاج النصف الباقي إلى عشرات من السنين لكي تبدأ كذلك في الاضمحلال، ولهذا السبب فإن تلوّث التربة الزراعية قد يمتد آثاره إلى سنين طويلة.

مخاطر...بلا حدود

ولا يذوب الدايوكسين في الماء، وإنما يذوب في دهون وشحوم الحيوانات التي لا تستطيع التخلص منه بسهولة مما يؤدي إلى تراكمه ليصل إلى تركيز عال يزيد على تركيزه في الجو المحيط به مرات عدة، ففي الأسماك الملوّثة مثلاً، نجد أن نسبة الدايوكسين تصل إلى حوالي مائة ألف مرة نسبة وجودها في الوسط المحيط بها (الماء)، وهناك بعض الأفراد يمكن أن يتعرّضوا إلى جرعات مرتفعة من الدايوكسين نظراً لطبيعة عملهم أو طعامهم، فنجد أن مستهلكي الأسماك في كثير من المناطق في العالم يتعرّضون لمخاطر الدايوكسين وخاصة مناطق صيد الأسماك الملوّثة، وكذلك العاملون في صناعة الورق أو في المحارق الصناعية أو في أماكن التخلص من المخلفات، ويمكن القول بوجه عام إن حوالي 90% من التلوث بالدايوكسين أو تعرض الأفراد لمخاطر الدايوكسين هو من خلال تناول المواد الغذائية الملوّثة بهذه المادة.

وعادة لا يجد الرجال طريقة للتخلص من مادة الدايوكسين سوى أن يترك للجسم التخلص البطيء منه حسب نصف العمر الكيميائي له، أما النساء، فإن هناك طريقتين يتم من خلالهما طرح مادة الدايوكسين، فعند النساء الحوامل يعبر الدايوكسين المشيمة ليذهب إلى الجنين النامي في بطن الأم، وعند النساء المرضعات يخرج الدايوكسين مع دهون لبن الأم المرضع ليؤثر على الطفل الرضيع، والجدير بالذكر أنه خلال الحرب الفيتنامية، قامت القوات الأمريكية برش الأحراش والغابات الكثيفة التي كانت قوات الثوار الفيتناميين تختبئ فيها لشن العمليات الحربية ضد القوات الأمريكية، واستعملت لهذا الغرض العوامل المضادة للنباتات والأعشاب والتي تحتوي على الدايوكسين، وهذه العوامل المضادة تصيب الأشجار والحقول الخضراء والأعشاب بالجفاف والاضمحلال، ومنها ما يسبب سقوط الأوراق الخضراء ويحيل الأشجار إلى أغصان عادية، وتبين فيما بعد زيادة حالات الإصابة بسرطان الكبد بين السكان الذين كانوا يقطنون المناطق التي تعرّضت لمبيدات الأعشاب، كذلك ظهرت عيوب في عمليات الولادة مع كثرة حالات الإجهاض المستمرة، وتتمثل هذه العيوب في إنجاب أطفال مشوّهين، منهم مَن فقد ذراعيه، ومنهم مَن برزت أعضاؤهم الداخلية ونمت خارج الجسد، ومنهم مَن ولد بأطراف قصيرة لم تكتمل بعد أو لم تنم الأطراف نهائياً، وقد أطلق عليهم أطفال (فوكوموليا).

وفيما يتعلق بتأثير الدايوكسين على صحة الإنسان، فقد ثبت أنه بالتعرض لفترات قصيرة وجرعات مرتفعة من الدايوكسين يؤدي إلى الإصابة بمرض (حب الكلور) والذي ينجم عنه ظهور الخراجات والنتوءات والتقرّحات الجلدية الشبيهة جداً بمرض (حب الشباب)، ولكنها في حالة (حب الكلور) تعم الجسم وتكون مستديمة، وقد تمتد الحالة لسنوات عدة، وقد تم التعرف على هذا المرض لأول مرة في عام 1897، وقد لوحظ انتشاره في عام 1930 بين عمال رش المبيدات والعمال الذي يعملون في صناعة المركبات الأروماتية متعددة الكلور، وقد تم معرفة علاقة هذا المرض بمادة الدايوكسين في عام .1960

تأثيراته على الإنسان

أما عند التعرّض لجرعات مرتفعة من الدايوكسين ولفترات طويلة، فإن ذلك يؤدي إلى الإصابة ببعض الأمراض مثل:

1- السرطان: فقد ثبت أن تعرض حيوانات التجارب إلى جرعات من هذه المادة بصفة دائمة يؤدي إلى أنواع متعددة من السرطان.

2- السكري: حيث لوحظ ازدياد حالات الإصابة بمرض السكري عند الأشخاص الذين يتعرّضون لمادة الدايوكسين.

3- التخلف العقلي: أثبتت التجارب على الحيوانات أن التعرض لمادة الدايوكسين يؤدي إلى تغير السلوك الفردي وعدم القدرة على التعلم مما يدل على أن مادة الدايوكسين تؤثر على الجهاز العصبي المركزي.

4- نقص المناعة: هناك دراسات عدة تشير إلى أن التعرض لمادة الدايوكسين يؤثر على نسبة كريات الدم اليبضاء المسئولة عن جهاز المناعة في الجسم حيث ازدادت حالات الإصابة بالأمراض الوبائية مثل أمراض الفيروسات والبكتيريا لدى الأشخاص المعرّضين لمادة الدايوكسين، وذلك بسبب انخفاض المناعة لديهم، وكذلك انخفضت استجابتهم للعلاج.

5- نقص الهرمونات الجنسية: أثبتت الدراسات أيضاً أن الدايوكسين يؤثر بشكل واضح على الهرمونات الجنسية لدى الرجال والنساء، حيث إن التعرض لمادة الدايوكسين يؤدي إلى انخفاض كبير بنسبة 50% في كمية الحيوانات المنوية المنتجة عند الرجال، وقد يؤدي إلى ظهور الخصائص الأنثوية في الرجال، أما عند النساء فهناك زيادة ملحوظة في حالات التهابات الرحم المؤلمة وكذلك زيادة نسبة نمو الخلايا خارج الرحم.

وتوضح التقارير الصادرة من منظمة الصحة العالمية أن درجة المخاطر الصحية للدايوكسين يجب أن تقدر لكل حالة بمفردها مع الأخذ في الاعتبار مقدار الجرعة ومدة التعرّض للدايوكسين، والمستوى المقبول الآن للتعرّض لمخاطر الدايوكسين في الدول الصناعية هو في حدود (1) إلى (3) بيكوجرامات/كيلوجرام من وزن الجسم. كذلك يجب الحصول على المعلومات الدقيقة عن مستوى الدايوكسين في الأغذية والفترة الزمنية للتعرّض لهذه المادة، فلابد من توافر مثل هذه المعلومات بدقة لتقييم المخاصر الفعلية للتعرّض للدايوكسين.

كما أن الأشخاص المعرضين لمخاطر الدايوكسين يجب الكشف عليهم من خلال تحديد مدى التلوّث في عينات من الدم أو في لبن الأمهات مع متابعة أي ظواهر مرضية أخرى قد تظهر عليهم، ويتم تحليل العيّنات الملوّثة بمادة الدايوكسين بواسطة أجهزة بالغة التعقيد وباهظة التكاليف، ولا تتوافر إلا في عدد محدود جداً من معامل التحليل على مستوى العالم.

هل الحماية ممكنة?

ولحماية الأفراد من التعرّض لمخاطر الدايوكسين، ينصح باستهلاك وجبات غذائية متزنة تحتوي على كميات كافية من الخضراوات والبقوليات، كما أن التخلص من الدهون الموجودة في اللحوم واستهلاك منتجات الألبان ذات نسبة الدهون المنخفضة مع معاملة الأغذية حرارياً بشكل سليم، يمكن أن يقلل من مخاطر التلوّث بالدايوكسين وتراكمها في أنسجة الجسم.

ويجب منع استعمال المواد العضوية التي تحتوي على مادة الكلور مما يؤدي إلى وقف مصادر إنتاج الدايوكسين، وكذلك عدم التخلص من النفايات الصلبة بطريقة الحرق المكشوف خاصة قرب التجمّعات السكانية.

 

محمد عودة جمعة

 
 




سموم الدايوكسين تجتاج بيئتنا





الأمطار تعمل على انتقال الدايوكسين مع طبقات الجو إلى البحار والأنهار





الأفراد يتعرضون لمخاطر الدايوكسين بتناولهم مواد غذائية ملوثة





مخلفات المصانع تفسد الخواص الطبيعية لعناصر البيئة