ديوان كافافيس شاعر الإسكندرية سليمان فياض

ترجمها عن اليونانية: د. نعيم عطية

في الإسكندرية، ولد وعاش ومات الشاعر السكندري اليوناني الأصل " قسطنطين بيتروس كافافيس "، أعظم شعراء اليونانية المعاصرين، وأبرز الشعراء السكندريين على الإطلاق، إذا تغاضينا عن لغة شعره اليونانية. فهو ابن الإسكندرية مولدا ونشأة وحياة.

ودع " كافافيس " الدنيا عن عمر بلغ سبعين سنة، لم يفارق طوالها عروس البحر، يغالب حنينه إلى وطن الأجداد الأول ، تشده إليه اللغة والجذور والتاريخ ، وتصله أمواج البحر بوطن الأجداد في الشمال، مع كل شروق وغروب، وتحيط الإسكندرية بالعديدين من المعارف والأصدقاء الذين آثروا الإقامة مع عروس المتوسط.وفي القاهرة، وبعد ست وخمسين سنة، من وفاة " كافافيس "، صدر لأول مرة الديوان الكامل لأشعار " كافافيس "،. ترجمه عن اليونانية ترجمة كاملة القاص والناقد الدكتور " نعيم عطية ". ونشره في كتاب بلغت صفحاته (272) صفحة ، وضم الكتاب بين دفتيه ( 154 ) قصيدة، معظمها من شعر المقطوعات ، كأكثر أشعار الشعراء الغربيين قاطبة . فالمقطوعة الشعرية هي دائما أكثر نفاذا وتركيزا وتكثيفا وبصيرة وامتد تاريخ هذه القصائد بين ما قبل عامي: 1911 و 1933. وبينهما سنوات متفرقة، منفردة حينا ، ومتوالية حينا، لم يكتب فيها الشاعر قصيدة واحدة. وشغلت قصائد هذا الديوان، من الكتاب مائة وأربعين صفحة فقط، فبقية صفحات الكتاب كرسها الدكتور " نعيم عطية " لمقدمة قصيرة عن حياة الشاعر وشعره، ولمائة وأربع وخمسين حاشية عن قصائد " كافافيس "، وما ورد بها من إحالات ورموز وتواريخ، ولقراءة نقدية، هي رؤية نقدية وتفسيرية، لبعض قصائد " كافافيس ". فالكتاب إذن ليس جهد ترجمة فقط ، بل هو أيضا تأريخ ونقد وتفسير، وتذوق ورؤية، وهو غاية ما يطمح إليه المترجم وقارئ الترجمة معا.

ومن الغريب أن تتأخر ترجمة قصائد " كافافيس " السكندرى إلى العربية ستا وخمسين سنة، إلا من قصائد متفرقة، ترجمها من قبل نعيم عطية، مع قصائد أخرى لشعراء يونانيين، ونشرها في عدد من أعداد سلسلة " المكتبة الثقافية " التي تصدر عن هيئة الكتاب المصرية، في الوقت الذي كانت قد ترجمت فيه كثير من قصائد " كافافيس " إلى عديد من اللغات الأجنبية ، وبينها: الفرنسية والإيطالية والألمانية، وفي الوقت الذي امتلأت فيه صفحات " رباعية الإسكندرية " للروائي السكندري المعاصر " لورانس داريل لا بالحديث عن " كافافيس "، كروح خفاق لقلب الإسكندرية النابض.

كافافيس..عاشق الإسكندرية

في الإسكندرية عام 1863، وفي السابع عشر من أبريل، ولد " كافافيس " وفي الإسكندرية عاش حياته كلها إلى الوداع الأخير، وعاين في صباه، وعمره ستة عشر عاما غزو الإنجليز الغادر للإسكندرية عام 1882، وقذفها بالقنابل، وذكره غزوها هذا بغزو الرومان لها في سالف القرون. وعندما شب عن الطوق لم تطاوعه نفسه على هجرة اسكندريته، رافضا كل الدعوات التي وجهت إليه للإقامة في " أثينا "، وكتب، وهو دون الأربعين، قصيدته: " المدينة " حول هذا المعنى:

" قلت: " سأذهب إلى أرض أخرى
وسأذهب إلى بحر آخر
مدينة أخرى ستوجد أفضل من هذه
كل محاولاتي مقضي عليها بالفشل
وقلبي مدفون كالميت
إلى متى سيبقى فكري حزينا؟
أينما جلت بعينى، أينما نظرت حولي
رأيت خرائب سوداء من حياتي
حيث العديد من السنين قضيته وهدمت وبددت
لن تجد بلدانا ولا بحورا أخرى
ستلاحقك المدينة
وستهيم في الشوارع ذاتها
وستدركك الثسيخوخة في هذه الأحياء بعينها
وفي البيوت ذاتها.سيدب الشيب إلى رأسك
ستصل على الدوام إلى هذه المدينة
لا تأمل في بقاع أخرى. ما من سفين من أجلك
وما من سبيل
وما دمت قد خربت حياتك هنا
في هذا الركن الصغير،
فهي خراب أينما كنت".

رحلة حياة

كان " كافافيس " آخر العنقود ولتسعة أبناء، وقبله كانت أخت واحدة، ولذلك كان " كافافيس " الابن الجميل الصغير المدلل لأمه، بعد وفاة أخته الصغيرة تلبسه ملابس البنات، وتعقص له شعره، وتضفره كالبنات، وتعامله طوال صباه كالبنات، ويظنه الناس طفلة جميلة، يرعاها حنان أم جميلة.

فثب " كافافيس " صبيا خجولا، منطويا، يعتمد على أمه، وعلى الخدم دائما، له مربية، ومدرس خاص، يقيمان معه في بيت الأسرة الواسع بشارع " شريف " بالإسكندرية، يعرف الإنجليزية والفرنسية معرفته باليونانية.

وإلى سن السادسة عشرة، ظل " كافافيس " حبيس البيت والترف والرعاية والعزلة، يقرأ تحت الثريات في الليل، وأشعة الشمس من وراء الستائر في النهار، كتبا تحمله إلى أسفار بعيدة، وأزمان سحيقة، في الآداب، والعلوم والتاريخ، لا يطيق البعاد عن أمه، سليب الإرادة معها، فهي حياته، وكيانه، وإرادته أيضا.وأبوه التاجر مشغول عنه بتجاراته في الحبوب والمحاصيل، ومحالج القطن التي يملكها، وأعماله ومشاريعه وصفقاته، وتنمية ثروته الكبيرة، طوال سنواته الخمس عشرة الأولى، وشهد " كافافيس " تبدد الكثير من الثروة قبل وفاة أبيه، واكتسب منه حبة للجالية اليونانية، وخدمته لها، وعزوفه عن الاتصال بالبلاط، وبالإنجليز، معا.

وفي السادسة عشرة، وإثر وفاة أبيه، ألحقته أمه بالمدرسة التجارية الإسكندرية، وبرغم انطوائه وخجله، تفوق على أقرانه باطلاعه وذكائه، وتأثر بشخصية أستاذه " قسطنطين بابازي "، ناظر المدرسة، وحامل الدكتوراه في التاريخ والفلسفة من الجامعات الألمانية. كان أستاذا عاشقا للنظام والطاعة، يشيد لكافافيس دائما ببطولات اليونان القديمة، ويغريه بقراءة كتب التاريخ، فظهر تأثره بهذا التاريخ في أشعاره، وولعه بالقواميس التاريخية.

مرة واحدة فقط، هجر فيها " كافافيس " الإسكندرية مع أسرته. إلى الآستانة، إثر غزو الإنجليز لها، وأقام عند جده بها، لكنه ما لبث أن عاد إلى مدينته الحبيبة الإسكندرية (1885)، واضطر إلى العمل كمترجم في تفتيش الري " الإنجليزي "، وتركته أمه وحيدا في الإسكندرية (1899)، وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة، وقد غادر الإسكندرية بعدها إخوته وأحباؤه، وبقي هو مع الوحشة، ملتصقا بالإسكندرية، وبحر الإسكندرية، لا يغادرهما، وكان شعره يتردد في اليونان، وكان الشاعران: " انجلو صيقيليا نوس " و " لامبروس بورفيراس "، يدعوانه إلى " أثينا " فلا يجيب، ويترك العمل (1922) مؤثرا العزلة، وقد بلغ من العمر خمسا وخمسين سنة، حيث يلازم مسكنه الصغير في بيت متواضع بحي " كوم الدكة " سنواته الخمس والعشرين الأخيرة من حياته، لا يحب ثرثرة الناس، ولا صغار عقولهم، لا يضيء في الليل سوى شمعة واحدة، ولا يضيء معها شمعة أخرى إلا لضيف عزيز. ويعايش " الملل "، " قدر إمكانه ".

" اليوم الرتيب يأتي في أعقاب يوم رتيب آخر مماثل الأمور ستحدث، ثم ستحدث من جديد

ويضحي الغد بذلك كما لو لم يكن فيه من الغد شيء " (ملل) ....

" لو لم يكن بإمكانك أن تصنع حياتك كما تريد

فعلى الأقل حاول ما استطعت

لا ترخص من شأنها بكثرة الاحتكاك بالناس،

وبالإفراط في حركاتك وكلماتك

حتى تمسي حياتك ضيفا ثقيلا عليك ".

تجربة شعرية إنسانية

عن تجربة " كافافيس " الشعرية، يسوق القاص الناقد المترجم ! نعيم عطية " ما موجزه: كتب لاكافافيس،، ربما، الشعر إثر عودته من الآستانة. ولم يجمع قصائده في ديوان، ولم ينشر في الصحف والمجلات سوى القليل من شعره، يكتفي بقصاصات ورق، بها شعره، يوزعها على أصدقائه ومعارفه. قصائده نغمة حزن رصين، وحسرة خفية، على عمر يولي، وأسى على غد لا أمل فيه، كل أيام غده ص! من الشموع الصغيرة الموقدة، حارة، مفعمة بالحياة، وماضيه خط حزين من شموع مطفأة. لذكريات الماضي في شعره دور سحري، في سكون الليل يسمع أصوات الحبيبة والموتى والراحلين، تحدثه في أحلامه وفكره، في هدوء البيت، وضوء الشمعة. لا أنيس له سوى أطياف شباب صلى، يجلس وحيدا في التاسعة كل ليلة، وحيدا مع الذكريات والأطياف، ورؤى البحر حين يأتي الصباح. ومتع والت، وفراق حل. يغوص في أعماق المأساة الإنسانية.. يتمنى أن تنفتح له نوافذ للعزاء. يخاف أن تنفتح هذه النوافذ، ويتدفق منها النور:

فربما كان النور عذابا جديدا.

من يدرى كم من أشياء ستظهر ".. !

يرى أن روعة المصير الإنساني، ليست في الهدف، بل في السبيل إلى ذلك الهدف والهدف أبدا عنده، هو " إيثاكا "، أي إيثاكا تكون!!، فهي كامنة في روحه منذ عام (1911)، عندما كان عمره دون الخامسة والأربعين:

" إذا ما شددت الرحال إلى " إيثاكا "

فلتتمن أن يكون الطريق طويلا حافلا بالمغامرات، مليئا بالمعارف...

لتكن إيثاكا في فكرك دائما،

والوصول إليها هو مقصدك.

لكن، لا تتعجل في سيرك.

الأفضل أن يدوم السفر سنين عديدة

وأن تصل إلى الجزيرة

عجوزا، غنيا بما كسبته من الطريق

لا تتوقع أن تعطيك " إيثاكا " ثراء.

لقد منحتك " إيثاكا " الرحلة الجميلة

فما كنت لتخرج إلى الطريق، لولاها.

وليس لديها أن تعطيك كثر من ذلك..

ولو وجدت " إيثاكا " فقيرة

فهي لم تخدعك

وما دمت قد صرت على هذا القدر من الحكمة

ولك كل هذه الخبرة

فلا بد أنك قد فهمت ماذا تعنى " إيثاكا "، وأي

"إيثاكا "!!

في انتظار البرابرة..

وتبقى من بين أروع ما تقرؤه من شعره، من روائع "كافافيس" القلب الشاعر، قصيدته: " في انتظار البرابرة " لتكون خير ختام، وخير تحية، لروح ذلك الشاعر السكندري اليوناني: " كافافيس ":

  • ما الذي ننتظره في السوق محتشدين !

- إن البرابرة يصلون اليوم.

  • وفي مجلس الشيوخ، لماذا هذا الإعراض عن العمل؟

لماذا جلس الشيوخ لا يسنون التشريعات.

- لأن البرابرة يصلون اليوم. وما الجدوى من أن يسن الشيوخ التشريعات، ما دام البرابرة عندما يحضرون سيسنون هم التشريعات؟

  • لماذا صحا امبراطورنا مبكرا هذا الصباح، وجلس عند البوابة الكبيرة في المدينة، على عرشه، مرتديا تاجه وزيه الرسمي.

- لأن البرابرة يصلون اليوم. والإمبراطور في الاستقبال،، ليستقبل رئيسهم، بل وأعد الإمبراطور العدة، كي يمنحه شهادة فخرية يضفي عليه بها رتبا وألقابا.

  • لماذا خرج قنصلانا والحكام اليوم، في مسوحهم الحمراء الموشاة؟ *

لماذا لبسوا أساور ذات جواهر قرمزية، وخواتم زمردية براقة؟

  • لماذا يمسكون اليوم عصيا ثمينة مزينة بالذهب والفضة؟

- لأن البرابرة يصلون اليوم. ومثل هذه الأشياء تبهر البرابرة.

  • لماذا لا يجيء الخطباء المفوهون مثل كل يوم، ليلقوا خطبهم، ويقولوا ما ألفوا أن يتشدقوا به؟

- لأن البرابرة يصلون اليوم، وهم يملون الخطب، وتضجرهم البلاغة.

  • لماذا يبدأ فجأة هذا الانزعاج والقلق، ويرتسم الجد على كل الوجوه.
  • لماذا تقفر الشوارع والميادين بسرعة، ويعود الجميع إلى بيوتهم، وقد استبد بهم التفكير؟

- لأن الليل قد أقبل، ولم يحضر البرابرة، ووصل البعض من الحدود وقالوا: إنه ما عاد للبرابرة وجود.

  • ماذا سنفعل الآن.بلا برابرة؟ لقد كان هؤلاء الناس حلا من الحلول!!