مطالعات في حضارة الحاسوب: الحساب بالأعصاب السيد نصر الدين السيد

مطالعات في حضارة الحاسوب: الحساب بالأعصاب

"كيف يمكن للحواسيب أن تقرأ النصوص المكتوبة بخط اليد أو المطبوعة؟".. تشكل محاولة الإجابة عن هذا السؤال الموضوع الأساسي لما يعـرف بمشكلـة "التمييـز الضوئي للحروف "، التي تشغل بال الكثير من العـاملين في حقل تطويـر التطبيقات العمليـة لمنظـومـات الحواسيب.

تنبع أهمية المشكلة من أن الورق لا يزال هو الوسيط الأكثر انتشارا لحفظ المعارف البشرية ولتسجيل بيانـات المعاملات اليومية وذلك بكتابتها عليه سواء كان ذلك بخط اليد أو بحـروف المطبعة، وعلى الرغم من نجاح هذا الأسلوب في حفظ المعرفة وتداولها بين بني البشر لقرون طويلة إلا أن استمراره حتى أيامنا هذه يحد من استغلال القدرات الهائلـة التي توفـرها منظومات الحواسيب المعاصرة في مجال حفظ واسترجاع وبث ومعالجة المعلومات، فأبجدية اللغـة التي تفهمها تلك المنظومات أبجدية ثنائية تتكون من الصفر والواحـد ويتم تمثيلها بواسطـة نبضات كهربية متقطعـة تسري في أوصالها أو يتم تجميـدها وحفظها على وسائط ممغنطة، لـذا تعتبر "كهربة البيانات"، أي تحويلها من الصورة المرئية كخطوط مرسومة على صفحات الأوراق إلى تيارات كهربيـة متقطعة سارية في دوائر الحاسـوب أو مجمدة على وسائط التخـزين فيه، أمرا لا غنى عنـه إن رغبنا في الاستفادة القصوى من إمكاناته. واتباع الأسلوب الشائع لإدخال النصوص إلى منظومة الحاسوب عن طريق لوحـة مفاتيحه يتطلب قدرا هـائلا من الوقت والجهد البشريين ويجعل الأمر برمته غير ذي جدوى أو منفعـة عملية، وهكـذا ظهرت الحاجـة إلى منظومات قادرة على تمييز الحروف المخطوطة أو المطبوعة لأي نص وتحويلها من الصورة المرئية أو الضـوئية إلى الصـورة الكهربـائية، أو " منظومات التمييز الضوئي للحروف" (ت ض ح).

مشكلة اللغة اليابانية

حل المشكلة، على وجه العموم، ليس بالأمر الهين حتى وإن اقتصر على النصـوص المطبـوعـة فقط، فحـروف تلك النصوص تتنوع تنوعا شديدا في الشكل وفي الحجم وفي الموقع وفي كثـافـة وألـوان الأحبار المستخـدمة في إظهارها، ومما يزيـد المشكلة تعقيدا تباين أنـواع الورق المستخـدم وحالته التي يكـون عليها، وعلى الـرغم من كل هذه التنويعات والتشوهات فإن على منظومات التمييز الضوئي أن تكون سرية وبالغة الدقة وإلا أصبح استخدامها غير مجد من الناحيـة العملية. كـانت هـذه بعضا من الصعـوبـات التي جابهت أولى محاولات تطـوير منظومـات تمييز ضوئي لحروف الكتابة الإنجليـزية التي لا يتجاوز مجموعها المائة حرف مـا بين ستـة وعشرين من حـروف الأبجديـة وعشرة حـروف للأرقام وحروف أخرى لعلامات الترقيم والرموز، إلا أن تلك الصعـوبات لم تقف حـائلا دون بناء منظومات تعرف ضـوئي على الحروف الـلاتينية تعتمد في عملها على أسس الذكاء الاصطناعي التقليدي، وبالطبع كلما زاد عدد الحروف التي على منظـومات (ت ض ح) التعـرف عليهـا ازدادت الحاجـة إليها وازداد في الوقـت نفسه تعقـد عملية تطويرها كـما هو الوضع في حالة اللغة اليابانية، فتلك اللغة ليست لغة ألفبائية كالعربية أو الإنجليزية، بل هي كالصينية من اللغات التصويرية Ideogrammtic التي يخصص فيها لكل شيء ملموس أو مفهوم مجرد شكل معين يرمز له، فعلى سبيل المثال يتجـاوز عدد الأشكـال التي تستخـدمها اللغة اليابـانية في مجال الأعمال الثلاثة آلاف شكل، ومما يزيد الأمور تعقيدا احتواء نص اللغة اليابانيـة الواحد على أربعة أنواع مختلفة من الحروف، فحـوالي 90% من تلك الحروف من النوع المعـروف بحروف الـ"كانجي" Kanji ذات التشكيل المعقد الـذي يستخدم أكثر من مائتي جزء أولي في تكـوينه، هـذا بالإضـافة إلى حـروف الـ "هيراجانا" Hiragana والـ "كـاتاكـانا" Katakana المستخدمين في تحديد نطق الكلمات، أما النوع الرابع فيضم الأرقام والرموز شائعة الاستخدام في اللغات الألفبائية، وعلى الرغم من هذا التنوع والتعقد الشـديدين في أسلـوب كتابة اللغة اليابانية نجح الحاسوبيون في بناء منظومات تمييز ضـوئي لحروفها بإمكانها التعرف عليها بمعدل 40 حرفا في الثانية وبدقة تتراوح ما بين 96 و 99%، إلا أن هذا الأداء لم يكن مرضيا لهم بالدرجة الكـافية!!.. وهكـذا كان عليهم البحث عن أسلوب جديد لحل المشكلة.

الحل العصبي..!

ووجـد الحاسوبيون ضالتهم في مخ الإنسان.. فالإنسان لا يجد صعوبة تـذكر في التعرف على ما يكون قد تعلمه من حروف وإن تباينت أشكالها أو تشوهت ملامحها أو بهتت الأحبار المستخدمة في كتابتها. وفوق ذلك كله لا تكاد عملية التعرف هذه تستغرق وقتا محسوسا، فما أن يعرض حـرف ما على إنسان حتى يميزه عن غيره في التو واللحظة، وهكذا بدأ الحاسوبيون في التفكير في بناء منظـومات تمييز ضوئي للحروف تحاكي بنيتها بنية المخ البشري وتتبع في عملها أسلوبا شبيها بما يحدث فيه، وبالطبع لم يكن بمقدورهم بنـاء منظومة تماثل في تعقدها تعقد المخ البشري الذي يتألف من شبكـة عصبية عملاقـة تحتوي على حوالي مائة بليـون خلية عصبية "أو عصب " Neuron تترابط مع بعضهـا البعض الآخر بواسطة ما يقرب من مائة تريليون مشبك Synapse. إلا أن هذه الشبكة العصبية الطبيعيـة العملاقة للمخ البشري كانت النموذج الذي يستلهمونه ويبنون على منـواله شبكـات عصبية صناعية أقل تعقيـدا ولكن بمقدورهـا محاكـاة الكثير من خصـائص الشبكـة الملهمة، وفي العادة تتكون هذه الشبكات من عدد محدود من الأعصاب الصناعية ومن الترابطات التي تصل بين تلـك الأعصـاب مـع بعضهـا البعض، وتلعب تلك الترابطات دورا شبيهـا بذلك الـذي تقوم به "مشابك" الشبكـات العصبية الطبيعية، فهي من ناحية تسمح بـانتقال الإشارات من عصب لآخر، وهي في نفس الوقت تحدد القـدر المسموح له بالمرور عبرها، ويتم التعبير عن هذا القدر بعدد يعرف بالـ "وزن" وتتراوح قيمته بين الصفر والواحد الصحيح، وتنتظم الأعصاب الصناعية في مجموعات أو طبقـات تختص كل منهـا بأداء وظيفة معينة، فواحدة منها، وهي "طبقة الإدخال " Input Layer، تخصص لتلقي المؤثرات الخارجية مثل نسق تباين الاستضاءة الذي يشكل صورة ما، وتخصص طبقة أخرى هي "طبقة الإخراج " Output Layer، لإظهار ما توصلت إليه الشبكة من نتائج، أما الطبقات الأخـرى فتعـرف بالـ "طبقات المخفية" Iidden Layers ، تتصل الأعصـاب المكـونـة لها مع كل من أعصاب طبقتي الإدخال والإخراج وتستخـدم هي وترابطاتها مع بقيـة الأعصاب في تمثيل المعلومات الواردة للشبكـة وفي معالجتها، ويقوم كل عصب صناعي بوظيفة معالجة بسيطة تشبه تلك التي يقوم بها العصب الطبيعي، فهو يتلقى الإشارات الواردة إليه من بقية الأعصاب عبر ترابطاته بها، وبالقدر الذي يحدده وزن كل تـرابط، ليقـوم بعـد ذلك بجمعها، وتتحدد حالة العصب، ما بين حالة الاستثارة وحالة الخمود، طبقا لقيمة المجموع الموزون للإشارات الواردة إليه، فإن تجاوز هـذا المجموع حـدا معينا تتم استثارته وتنطلق منه إشارة إلى بقية أعصاب الشبكة المتصلة به، أما إن لم يتجاوز المجمـوع الحد المطلوب فإن العصـب يظل في حالـة خمود، وهكـذا بمجـرد أن تستشعر الشبكـة بمؤثر خـارجي يأتيها عبر أعصاب طبقة الإدخال حتى نجدها وقد اتخذت وضع استثارة بعينه يتفق مع ما استشعرته، ويتحـدد وضـع الاستثارة هذا بعـدد أعصاب الشبكـة المستثارة، وبقيم أوزان الترابطات التي تصل بين الأعصاب المكونة لها.

ولقد تمكن الحاسوبيون بـاستخـدام الشبكـات العصبية الصناعية من بناء منظومة تمييز ضـوئي للحروف اليابانية بمقدورها تمييز 200 حـرف في الثانية الواحدة وبدقة تزيد على 99%، وهكذا ألهم المخ البشري الحاسوبين الأساس لبناء منظومات حاسوبية غير تقليدية قادرة على الإتيان بأفعال تعجز عنها المنظومات التقليدية، ويبقى بعد ذلك سؤال جوهري لم نتعرض لـه حتى الآن، وهو كيف يمكن للشبكة العصبية الصناعية تمييز الحروف أو الأشكال التي تعرض عليها وبمثل هذه الدقـة الفائقة؟.. وجـواب هذا السـؤال يوجز في كلمة واحدة هي "التعليم "!!..

الشبكة على التختة

يتطلب حل أي مشكلة باستخـدام المنظومات الحاسوبيـة التقليدية وصفا دقيقا ومنطقيا لخطوات هذا الحل، أي تصميم "خوارزمية الحل "، لتقوم هي بعد ذلك بتنفيذ هذه الخوارزمية بعد "برمجتها"، أي كتابتها بإحدى لغات برمجة الحاسب المعروفة، ولكن الأمر يختلف في حـالة الشبكات العصبية الصناعية، فهي لا تبرمج بل تتعلم وتتدرب على مـا يطلب منها عمله سواء كان تمييزا للحروف المكتوبة أو تعرفا على الأصوات المنطـوقة أو تصنيفا لما يعرض عليها من أشكال أو تشخيصا لأعطال آلـة أو لأمراض إنسان، ويتم تعليم الشبكـة، مثلهـا في ذلك مثل الأطفال، بضرب الأمثال. فتعليم الشبكـة كيفية التعرف على شكل شيء ما لا يتطلب منا تـوصيفا كميا دقيقـا لخصائص هذا الشيء، ولا يقتضي منا صياغة منطقية للمعـايير التي تميزه عن غيره من الأشيـاء، كـما هـو الحال عنـد استخـدام تقنيات الـذكـاء الاصطناعي التقليـدي، ولكنـه يتم بعرض بعـض الأمثلة لهذا الشيء أمام الشبكـة لتقوم هي بنفسها بتعديل أوزان الترابطات بين أعصابها منشئة بذلك تمثيلا داخليا له يمكنها استرجاعه كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

وتصنف طرق تعليم الشبكات العصبية الصناعية إلى فئتين رئيسيتين هما: فئـة "التعلم الموجـه " -Super vised Learning التي تتطلب وجود أمثلـة للنتائج المطلوب من الشبكة التـوصل إليها بـالإضافـة إلى المدخلات التي سيطلب من الشبكة التعرف عليها، وفئـة "التعلم الذاتي" Unsupervised Learning التي يكتفى فيها بـالمدخـلات ويترك للشبكـة أمر تعلم تمييزها بنفسها وبدون أي "أمثلة محلولة "، وتعد طـريقة "انتشـار الخطأ المرتد" - Back-error Propaga tion من أكثـر طـرق التعلم " الموجه" شيـوعـا، وتستخدم هذه الطريقة مجموعتين من المواد التدريبية تضم أولهما أمثلة متنوعة للشكل المراد من الشبكـة استشعاره والتعرف عليه، فعلى سبيل المثال تضم هذه المجموعة في حالة تمييز الحروف كل التنويعات المختلفـة لشكل حرف معين سـواء كـانت هـذه التنويعـات تتعلق بحجم الحرف أو بالخط المستخدم في كتابته أو بمدى وضـوحه. أما المجمـوعة الثانية فتضم النتيجـة المستهـدفـة مثل الشكل النموذجي للحرف المطلوب التعرف عليه. وتبدأ عملية تعليم الشبكـة بعـرض أحد تنويعات الشكل المراد منها تمييزه عليها لتقوم هي بتعـديل أوزان الترابطات بين أعصابها بما يتفق مع ما استشعـرته، ويسفر هذا التعديل عن نتيجـة مـا تظهر على أعصـاب طبقة الإخراج وتتم مقارنتها بالنتيجة المستهدفة، وبناء على الفروق بين النتيجتين، الفعليـة والمستهدفة، تقوم الشبكـة مرة أخـري بتعـديل أوزانها، وهكـذا حتى تنعدم الفروق أو تصبح أقل ما يمكن.

وهكذا انفتح أمام الحاسوبين عالم جديد هو عالم المخ وشبكـاته العصبيـة، فراحوا يستلهمون منه الأفكار وينشئون منظومات يحاكي أسلوب عملها عملـه وبـاتـوا يفكـرون في صناعة الحاسـوب البيولوجي!

 

السيد نصر الدين السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مطالعات في حضارة الحاسوب





الخلايا العصبية وتشابكاتها هل تكون الصورة المثلى لحل مشاكل الحاسوب