الرؤية التاريخية يحيى الجمل

الرؤية التاريخية

ما الذي تعنيه الرؤية التاريخية؟ إنها تعني مقدرة صاحبها على إدراك حركة التطور وإلى أين تتجه والمقدرة على التوافق هذا الاتجاه وعدم التصادم معه، إنها رؤية تحتاج إلى أشخاص من نوعية خاصة.

كـان الجنرال ديجول واحـدا من عمالقة القرن العشرين في عالم السياسة بغير منازع، ولم يكن ديجول كذلك لأنه أنقذ فرنسا- في تاريخها الحديث- مرتين: الأولى عندما قاد حركة تحريرهـا من الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية. والثانية عندما أسس الجمهـورية الخامسة ووقـف بقامتـه المديـدة وراء دستور 1958 الذي بدأ مع تلك الجمهورية الخامسة والـذي أعـاد التـوازن بين السلطتين التشريعيـة والتنفيذية وأدى إلى نوع من الاستقرار في الحياة السياسيـة الفرنسية بعد الـذي شهدتـه الجمهورية الرابعة من اضطراب وعدم استقرار.

أقـول لم يكن الجنـرال ديجول من عمالقـة القـرن العشرين في عالم السياسة من أجل ذلك فحسب ولكنه كـان كـذلك لأنه استطاع أن يمتلك تلك الـرؤية التاريخية التي لا يتمتع بها إلا قلـة من الحكام والقـادة والذين يتحكمون في مصائر الشعوب، ونعني هذه الرؤية التاريخيـة في مراتبها العليا- كتلك التي كـان يمتلكهـا ديجول- وهـي ليست مجرد إدراك لحركـة التـاريخ والتـواؤم معها فحسب بل دفعها أيضـا والإسراع بها نحو غايتها. وقد أدرك ديجول أن الاستعمار بشكله التقليدي قـد آن له أن يرحل من خريطة العالم. أدرك ذلك مبكرا قبل غيره ولم يكتف بذلك الإدراك بل إنه تبنى داخل فرنسا- في مـواجهة معارضة قوية وعاصفة أحيانا- دفع مبدأ حق تقرير المصير للمستعمرات الفرنسية السابقة وفي مقدمتها الجزائر التي كان يعتبرها غلاة الاستعماريين الفرنسيين جزءا لا يتجزأ من فرنسا وأن المناداة بإعطاء الجزائر حق تقرير المصير هو نوع من الكفر بوحدة أراضي الدولة والتفريط في سيادتها ومستقبلها.

ولكن ديجول كان يدرك أن الجزائر ليست فرنسية وأن الجزائر لن تعيش إلى الأبـد تحت السيطـرة الفرنسية ومن ثم فقـد نادى بحق الجزائر- وغيرها من المستعمرات- في تقرير مصيرهـا. ولم يكن الأمر بالنسبة للجزائر سهلا ولا مقبولا لدى الغـالبية من الفرنسيين الأمر الـذي دعا ديجول أن يحضر بنفسه الجمعية العمومية لمستشـاري مجلس الدولـة- لأول مرة في تاريخ فرنسا الحديث- لكي يدافع عن حق الجزائر في تقرير مصيرها ولكي ينجح في استصدار فتوى من مجلس الدولة الفرنسي في هذا الخصوص.

وتمرد بعض قادة الجيش على ديجول وهـو أمر غير متصور الحدوث في دول المؤسسـات الديمقراطية وتصدى ديجول للتمرد بكل قوة واستطاع أن يدحره لأنه كان يقف مع اتجاه التاريخ وحركة التطور أو بعبارة أخرى لأنه كان يملك رؤية تاريخية.

الصين موقع مغاير

وقد أثبت ديجول مـرة أخرى في حدث آخر كبير أنه صاحب رؤية تاريخية ثاقبـة ذلك عندما اتخذ من "الصين" موقفا مغـايرا للولايات المتحدة الأمريكية وكل أقطار أوربا الغربية.

كان ذلك في بداية عام 1964- وعلى التحديد في 31 يناير 1964- حين وقف ديجول ليعلن في مؤتمر صحفي عالمي أن الصين هي أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان وأن شعبها لا يعرف الكلل ولا المل، وأن الصين هي إحـدى الدول القليلة ذات الحضارة القديمة والعميقة. وقد مرت الصين في الأزمنة الأخيرة بالعديد من الأزمات والكوارث ولكنها صممت على أن تتغلب على ذلك كله. وتغلبت عليه بالفعل.

وقد بذلت الصين جهودا جبارة من أجل اكتشاف ثرواتها الطبيعية ومن أجل استخـراج هذه الثروات. وبذلت جهودا جبارة أخرى من أجل إحداث التنمية الزراعية والصناعية وحققت تقدما كبيرا. ورغم ما أسدته روسيا للصين من مساعدات- ومازال الكلام للجنرال ديجول في أوائل عام 1964 - فإن السياسة الخارجية والداخلية للبلدين تختلف عن الأخـرى وستختلف لاختلاف ظـروف الشعبين واختلاف طرقهما في التفكير وحضارة كل منهما.

دولة هذا هـو وضعها وشعب هذا هو تكوينه لا يمكن إغفال أمرها ومن ثم فقد قررت فرنسـا أن تقيم علاقات طبيعية مع الحكومة الصينية في بكين.

وكان لذلك الحدث دوي عـالمي كبير. وغضبت الولايات المتحدة وأنذرت ديجول بالويل والثبور وعظائم الأمور. ولكن ديجول العملاق ذا النظـرة التاريخية سار في طريقه إلى غايته ومداه.

ما الذي حدث بعـد ذلك؟ لم تمض إلا سبع سنوات واعترفت الولايات المتحـدة بما اعترف به ديجول وتبعتها في ذلك دول أوربا.

وكلنـا يرى الصين الآن: العملاق الذي يزحف إلى صدارة العالم. الدولة التي تحقق أعلى معدل إنتاج عرفته الحضارة الصناعية الحديثة. الـدولة التي تدخل عصر المعلـومات وتسهم في تلك الثورة العلمية وتـدخل مع الداخلين عصر الفضاء والنواة وما بعد النواة.

ألم يكن ديجول هكذا صاحب رؤية تاريخية؟.

وغير ذلك كثير في حيـاة ديجول، حتى أن البعض يـرى أن استقالتـه واعتزالـه الحياة العـامة في أواخـر الستينيـات وذهابه ليقضي بقية حيـاته في قـرية كـان نوعا أيضا من الرؤيـة التاريخيـة وفهما للمستقبل والتواؤم معـه قبل أن يفرض نفسـه فرضا. وعبر ديجول بـذلك عن المثل الـذي يقـول إن خير الممثلين هم الذين يتركـون المسرح والنظارة مـازالوا متعلقـين بهم وليس أولئك الذين يصممون على الوقوف على خشبـة المسرح حتى وإن قذفهم النظارة بالحجـارة. وما أكثر الذين يفعلون ذلك.

وإذا كان ذلـك كذلك فـما هي "الـرؤية التـاريخية" التي نتمنى أن نـراهـا في وطننـا العـربي وأقطـاره المترامية؟.

رصد حركة التاريخ

كيف نستطيع أن نـرصد حـركـة التـاريخ واتجاه التطور ونحن في نهاية قرن وعلى أعتاب قرن جديد؟. في تقديري أنه يتوقف على هـذا الرصـد والتواؤم معه ما إذا كان سيقدر لأقطارنا أن تدخل القرن القادم مع الداخلين مرفوعة القامة والهامة أم أنها ستقف على بـابه مستخـذية كما يفعل المتخلفون حتى ولـو كانـوا أغنى الأغنياء في حسابات المصارف والبنوك.

تقـديري أن القرن القادم سيفتح ذراعيـه لألئك الذين يدركون بين ما يدركون أمرين على أكـبر جانب من الأهميـة لأنهما يمثلان حـركـة التاريخ وبـوابة المستقبل. أما أول هذين الأمرين فهو ما يتصل بثورة المعلومـات التي تجتاح العـالم وتهزه هزا وتكـاد تجعل أغلب ما كنا وكان غـيرنا يعـرفه في بدايات هذا القرن بل وحتى منتصفـه من بـاب التراث القـديم الـذي لاغناء فيه.

لم يعد هنـاك جانب من جوانب الحياة إلا وغيرته وهزته هزا ثورة المعلومات الحديثة. لم يعد الكون هو الكـون ولم تعـد الأرض هي الأرض ولم يعـد جسم الإنسان هو جسـم الإنسان. لم يعد ما كنا نعـرفه عن ذلك كله منذ سنين قليلة هو هو المعروف الآن. لم يعد يجدي أن نتحدث فقـط. لم يعد يجدي أن نكرر عبارات التكنولوجيا الحديثة إنجازاتها والكمبيوتر وآفاقه والهندسة الوراثية وما حققته، لم يعد الحديث عن ذلك كله بنافع وإنما الذي ينفعنا أن نعيش ذلك كله. ان نعيش عصر العلم. أن تصطبغ حياتنا في كل مناحيها بـالصبغـة العلميـة، وأن نتحرك وفقـا لمنـاهج علميـة. مدارسنـا وجامعـاتنا ومستشفياتنا بل وطرقنا وبيوتنا والهواء الذي نتنفسه والغذاء الـذي نأكله. لم يعد العلم يقف بعيدا عن شيء ولم يعـد هنـاك من شيء إلا وقد وصلت إليه أيدي العلم وثورته وأحـدثت فيه إعصارا أي إعصار.

هذا العلم "وثورتـه " هو إحـدى القـدمين الأساسيتين في الخطـو نحـو القرن القادم: القرن الحادي والعشرين.

وما أظن أن عملا علميا استطاع أن يعبر عن هذه الصرخـة قـدر ذلك العـدد الحديث من سلسلة عـالم المعرفة التي تصـدر في دولة الكـويت، والتي أزعم أنها أهم السلاسل الثقـافية العلمية في الـوطن العربي كله من أقصاه إلى أقصاه "العرب وعصر المعلومات" للدكـتور نبيل علي.

إن هذا السفر القيم جدير بأن يكون في مكتبة كل مثقف عربي وكل إنسان يتصـدى لمصائر النـاس في هذا الوطن الذي يعشش الجهل في خلاياه وحناياه.

لقد آن وقت الفزع

وعلى حد تعبير مؤلف ذلك الكتاب القيم "لقد آن وقت الفزع " حقـا آن لنا أن نفـزع ونحن على أعتاب القرن الـواحـد والعشرين. نفزع ممـا نحن فيـه من تخلف ونفزع من اتساع المسـافة بيننـا وبين المتقدمين ونفزع من هول الثورة القادمة في ميدان المعلومات.

العلم إذن هو أحـد جـوانب الرؤيـة التاريخيـة المستقبلية لمن يريدون العبور نحو المستقبل. فهل يعي ذلك حكامنـا والذين يخططـون لحياتنا ويرسمون بـرامج تعليمنـا ويـوجهون وسـائل إعـلامنـا، لعلهم يعـون ويدركون.

والقـدم الـواحـدة تجعل صاحبها أعرج. ولابد لمن يريد أن يسير سيرا طبيعيـا مستقيما أن يسير على قدمين. وإذا كانت القدم الأولى تتمثل في العلم واللحاق بثورة المعلـومات فإن القدم الثانية تتعلق بحقوق الإنسان.

وما أظن أن عبارة قد امتهنت في وطننا العـربي قدر هـذه العبـارة "حقـوق الإنسـان " وكل النـاس يتحدثـون عن حقوق الإنسان وأغلبهم ينتهكون حقوق الإنسان قبل أن ينتهوا من مضغ العبارات.

حقوق الإنسان تعني أول ما تعنيه أن هذا الكـائن البشري الذي خلقـه ربه وكـرمه لـه قيمـة في ذاتـه، وليس لأنـه ابن هـذا أو ذاك وليس لأنه يملك، أو لا يملـك وليس لأنه أبيض أو أسود وحتى ليس لأنه يعلم أو لا يعلم. إن الإنسان بحسب كونه إنسانا ولمجرد كـونه إنسانا لـه حقوق تستحق الرعاية والاحترام.

وقد كان الإسلام العظيم في جوهـره النقي دعوة عالمية لإقرار حقوق الإنسان قبل كـثير من الدعوات. ولكن المسلمين بعـد فترة الازدهار الأولى أمعنـوا كـما أمعن غيرهم في انتهـاك تلك الحقـوق وتمريغهـا في التراب.

وجاءت العصور الحديثة لتعيد الاعتبار من جديد لقضيـة حقـوق الإنسـان. وأهم مـا يميز العصـور الحديثة في هذا الخصـوص أنها لا تكتفي بالقول أو الحديث أو النص وإنـما تضع لذلك كله الآليات التي تكفل إنفاذه واحترامه وصد العدوان عنه.

وقامت دولة المؤسسات على أنقاض دولة الفرد.

ودولـة المؤسسـات ليست مجرد كلمات تقـال أو شعـارات بغير مضمون كما اعتـدنا أن نفعل في بـلاد العالم الثالث. دولة المؤسسات تعني أن السلطة يجب أن تستنـد إلى أسـاس قـانـوني يحدد مـاهيتهـا واختصـاصاتها وكيف تبـاشر تلك الاختصاصات. وكذلك يحدد علاقـة السلطات ببعضها والتوازن بين السلطـات. وعـلاقـة ذلك كلـه بحقـوق الأفـراد وواجبـاتهم. هـذا الأسـاس القانـوني الـذي يحدد المؤسسـات على هذا النحـو هو الـدستور. والحكـام عنـدما يلتزمون الـدستور يتصرفـون في إطار مبـدأ المشروعيـة وعندمـا يخالفـون الدستـور تسقط عنهم المشروعية والشرعية جميعا.

والقضاء الدستوري والفصل المرن بين السلطات ورقـابـة السلطات لبعضهـا وتوازنها مع بعضهـا والرأي العام القوي كلها آليات تضمن مبدأ الشرعية وتصون حقوق الإنسان.

وهذه هي القدم الثانيـة التي ستحمل الداخلين إلى القرن الواحد والعشرين. فهل يـا ترى ستكون أقطارنا العربية من الذين سيـدلفون إلى ذلك القرن وفي يمينهم العلم ويسراهم حقوق الإنسان؟!. ليتهم يفعلون. والله وحده هو المستعان.

 

يحيى الجمل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ديجول