طقوس الحرب السيد نجم

طقوس الحرب

إن عمر الحرب يكاد يناهز عمر الإنسـان على الأرض. منـذ معركة قابيل وهابيل- أولى المعارك التي عرفتها البشرية- والصراع قـائم.. ذلك الـذي غالبـا ما ينتهي بالحروب.

لقد تعامل الإنسان مـع فكرة الصراع والحرب وصنع تاريخه، فكانت له طقوسه قبل وأثناء وبعد تلك الحروب، لعلـه بذلك يبث في نفسـه روح المقاومة ويزكيها. على مر التاريخ حاول الإنسان التعبير عن تلك الصراعـات والحروب، والتعـامل معها، حتى قبل أن يعرف الكلمة المكتوبة أو المدونة وإلى أن عرف الطباعـة وأشرطة الإذاعة المسموعة والمرئية وشرائح الكومبيوتر.. إنها الحرب إذن.

فكانت فنون الكلمة من أساطير وملاحم والآن من نثر وشعر، وفنون التشكيل من رسوم جـداريات ونحت، وفنـون الحركـة من رقص وإيماء، وفنـون الموسيقى. أما صراعاته الأولى، وقـد أرعبته الطبيعة فداهمته الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات والنار والحيوانات المفترسـة.. فبات يحلم بالسقوط وبالالتهـام.. وراودته الأسئلة! فلجـأ الإنسان إلى المقاومة السلبية، ظهرت الطقوس العقائدية (قبل أن يعرف الأديـان السماوية)، وعرف التمائم وتقـديم القرابين والسحر.. وعرف الفن!

مازالت جدران الكهف الشهير " التاميرا" باستراليا تحفظ لنا أول ما سجلته قريحة إنسان ورسم بريشته ذاك الثور المقوس الظهر والبطن، أقوى ثور رسمه البشر حتى الآن. أما وقد تعددت الصراعات وتعقدت الحياة وأصبحت الحروب بين القبائل والشعوب تشكل كيان تلك الأمم وتتشكل بـه أيضـا، فيمكن القول إن لكل أمة مزاجا وسمة خاصة تجاه الحرب.

ففي التراث الشعبي للأمم ذات الحضارات القديمة، تجنح الميثولوجيا الهنـدية " البراهما " بمزاج حربي حاد.. حيث يمجد الحرب ويزكي الصراع من أجل انتصار الحياة في النهاية.

إننا نجـد في "الفيدا" الهندية العـديد من الأساطير التي تحكي وتفسر المعارك بين الأرباب "كـما يعتقدون"، لعل أهمها ملحمة "الرمايانا" التي يتخذها الهنود مثلا أعلى وأن شخصية الأميرة "سيتا" فيهـا تتم تنشئة الفتاة الهندوسية على منوالها وهي الزوجـة الوفيـة لزوجها المتمسكـة بالعفـة والشرف. وفي الميثولوجيا الصينية تجنح الأساطير في معظمها إلى إزكاء السلم، ربما بتأثـير التعـاليم البوذيـة المضـادة لمفهوم الحرب، فتبـدو الشخصية الصينية وكأنها ترفض العنف.

كان كونفوشيوس يقول: "الجنرال العظيم حقا هو الـذي يكـره الغـزو وليس حقـودا أو انفعاليـا" واليابـانيون، عرف عنهم أنهم قوم محاربون. وتبرز الحرب في التراث الأدبي الياباني القديم ولكن ليس كبروز الحرب في التراث الأوربي. أما "المنيـوشـو" الـذي جمع عام 770 م فهي أروع مختارات الشعـر الياباني ذاك. وفي واحـدة من القصص الشعبي يتبارز عدوان، فيعجب كل منهما بمهارة الآخر الحربية، وفي النهاية يتصالحان ويتفقان على الصداقة!

.. لقد جرت العادة في كـل الحضارات المعروفة على طقوس شبه مشتركة، كأن يتم تقديم القرابين الكثيرة قبل المعركة وبعد النصر. المدهش أن بعض القبائل والأمم القديمة تقدم القرابين من الأسرى وجزءا من الأسلاب التي يحصلـون عليها... وفي معظم الاحـوال يتم ذلك وسط فرحة وتهليل أفراد الشعب وتحت أغطية أبخرة البخور وشذى العطور داخل المعابد أو خارجها.

أما تقديم النـذور لجلب البركات، فقد كـانت من أكثر ما يحرص عليه المحارب قـديما، وربما حتى الآن وفي الكثير من البلدان المتقدمة. فمازالت بعض الأمم المتقدمة تمارس طقوسها القديمة وبقدر مدهش من التفاصيل.. فقد عرف عن اليابان أثناء الحرب العالمية الثـانيـة، وهي من الـدول ذات الملامح الحضاريـة المتقدمة.. أن القادة اليابـانيين كـانوا يطلبون من الطيارين الشبان الذين يتقدمون تطوعا للمشاركة في الغارات الانتحارية المعروفة باسم غارات الكاميكازي الحضور عشية الرحيل في محفل جنائزي.

لقـد كانوا يلبسون اللون الابيض الذي هو لون الحداد ويتنـازلون، رمزيا، عن كل ما يملكون فـوق الأرض. وفي اليوم التالي، وعلى أرض المطار يتسلمون صندوقـا أبيض يمثل المرمدة التي تعد لحفظ الرماد- رماد الموتى بعد حـرقهم- بعدها يصعدون الطائرة لتنفيذ تلك المهمة الانتحارية!

صراع لا ينتهي

في دراسة أنثربـولوجية لقبيلة "شاكو" الهندية بقلب أمريكـا الجنوبية رصد العلماء ما يمكن أن نعتبره جملة الطقوس التي يتبعها طرف ما قبل وأثناء وبعد المعارك في العديد من المناطق بالعالم القديم. إن قوام حياة القبيلة يعتمد على الحروب سواء بالإغارة على الجـيران أو ردا على غارات القبائل المتجـاورة. وتبدو أسباب تلك الحروب غير مقنعة أو غير مبررة كأن تختفي امرأة من القبيلة فيدعي زعيمها أنها اختطفت بواسطة رجال القبيلـة المجاورة، وربما تبدأ المعارك من أجل الصراع على مصدر مياه.. لب الحقيقـة أن الصراع يتجدد دوما ولا يهم السؤال.. لماذا؟!

قبل بدايـة الهجوم، ترسل القبيلة ببعض الشباب الأقوياء والمدربين على مهام جمع المعلومات ودراسة نقاط الضعف والقوة بالقبيلة الأخـرى.. وهو ما يمكن أن نطلق عليـه الآن عمليات الاستطـلاع والتجسس. وفي ضـوء ما يتجمع لزعيم القبيلـة من معلومـات، يتخذ قـراره ويحدد خطته، حتى إذا ما قـرر إعـلان الحرب، يقسـم جماعة الشبـاب إلى مجموعات صغيرة على رأس كل منهـا قـائد محنك وقوي.. وتبدأ فورا عمليات الإخفاء والتمويه.

أما ليلة اليوم الأول لبداية الحرب فيمضـونها في الـرقـص والغنـاء والموسيقى الحماسيـة على آلاتهم الإيقاعية.. أهـم ما يهتمون به هو دهان أجسادهم ووجوههم باللون الأحمر "لون الدم ". وفي تلك الليلة أيضـا لا تبخل النسـوة بجهـدهن في طهي أشهى الأطعمة، وتقديم الشراب وكأنها ليلة عرس!! أثناء المعـارك يتقدم قـادة المجموعات ولا تنتهي المعارك إلا بالموت أو الانتصار.. غالبا لا تكون فكرة الانسحـاب في رأس أهل هذه القبيلـة. كـما لاحظ العلماء أن الرايـات لها دورهـا أثناء المعارك، فهي مسئولية قائد المجموعة، وأن اللون الأبيض هو لون الانتصار.

إذا ما كتب لهم النصر، فإنهم يعودون إلى زعيمهم مع الغنائم والأسرى "والتي يمكن أن يكـون لها دورها الاقتصادي بالقيام بتنفيذ كل الأعمال الشاقة للقبيلة لما ولا تعـرف تلك القبائل فكـرة احتلال الأرض. ومثلما احتفلـوا ببـدايـة المعارك يحتفلـون بنهـايتهـا في حفل راقـص غنائي كبير، ولا تـوزع الغنائم على المتحـاربين، كلها تسلم إلى زعيـم القبيلة ليفعل بها مـا يشـاء.. فـالكل يعمل ويبـذل حتى المقاتلة، ولا من عائد ينتظره محارب!

ولعل أول من حاول تقنين فنون الحرب في التاريخ القديم ومحاولـة حصر وتهذيب فنون الحرب عن خبرة عسكرية وسياسية، هو المحنك الصيني "صن تزو" في كتابه "فن الحرب ".. منذ ألفين وخمسمائة سنة.

ومن بعض مقولاته:

... " لفن الحرب أهمية حيوية للدولة.. "

.. " إن الهدف الأسمى والأبرز في الحرب هو قهر العدو وإخضاعه دون اقتتال.. "

.. "اعرف عدوك واعرف نفسك وبإمكـانك أن تحارب في مائة معركة دون ان تهزم... "

.. "إن هدف الحرب هو السلام.. "

وفي محاولـة لفهم وتقنين ما كانت تفعلـه بعض القبائل.. مثل التلصص كأحد طقوس الحرب يفرد له "صن تزو" البـاب الثـالث عشر من كتابـه بعنوان " الانتفاع بخدمات المخبرين " ويعني بالطبع عمليات الاستطلاع على الأعداء.

فهـو يرى أن المخبرين أهم عنصر في الحرب لأن عليهم تعتمد قدرة الجيش على المعركة.. يقول: "جيش بدون مخبر مثل إنسان بلا أذنين أو عينين ".

ولعل توزيع الغنائم من أكثر الطقوس شيوعا في الحروب القديمة. بينما عرفت بعض القبائل والحضارات القديمة أن معيار تقسيم الغنائم على المحاربين هو عدد الأسرى أو على الأقل عـدد الأيـدي المقطـوعـة من الأعداء!!، عملت بعض الأمم الأخـرى "أكثر رقيا" على الاستفادة من هؤلاء الأسرى كقوة اقتصادية.

.. وربـما انتهت الآن فكـرة تـوزيع الغنـائم على المنتصرين، أصبحت الأنواط والنياشين المرشوقة فوق الصدور بدلا منها!

طقوس الهزيمة

يبقى الآن النظـر إلى الجانب الآخر، ما طقوس المنهزم؟!

إن الإحسـاس بـالخزي والقهـر والإحباط يجعل الجيوش والشعوب المنهزمـة على حالين.. الاستكانة والاستسلام أو الانتفاضة والجهاد. ما بين الحالتين تنجلي معادن الأمم وتعمل القـرائح.. فما كـان من خدعة حصان طروادة من أثر على مر التاريخ كشاهد عملي، يؤكد المقولـة السابقة من أن الحرب في جانب منها وسيلـة لإعمال العقل وتطـوير حيلـة الإنسـان ومساعيه نحو حيـاة أفضل. وتسجل لنا صفحات التاريخ القريب كيف كانت نهاية القادة الأقوياء بعد الهزيمة، ليذكرنا بحوادث أخرى عديـدة على مدى التاريخ حتى أنـه عرف عن بعض القبائل الإفريقية أنهم يقومون بحفر المقابر الجماعية بعد الهزائم والإحساس بقلة الحيلة.

يروي "هانز لينج " الذي عمل على خدمة هتلر "الزعيم الألماني الفاشي وقـد انهزم " عن اللحظات الأخيرة من حياة هتلر، فيقول:

"كان سيدي قد قتل صباح اليوم كلبه "بلوندي "، قبلها استـدعاني الفوهلر وقال: "لينج.. عندي أمر خاص لك. لقـد قررت أنا وفراو براون أن نموت معـا. أوامـري لك هي أن تقـوم بنفسك بحـرق جثتينا.. لا أريد أن يتعرف علينا أحد بعد الموت.. ثم اذهب إلى غـرفتي واجمع كل مـا يخصني من أشياء تذكر الناس بي.. ".

بعد فترة تابـع الفوهلر: "لو أمسكـوا بي حيا أو ميتا لأخذوني إلى موسكو لعرضي على الناس كما لو كنت دميـة من الشمع ". صرخ: "لن يحدث هذا، أني أقـول لك.. لا، لا لن يحدث ".... بعـد أن تأكـدت من سماع صـوت طلقات الفوهلر، ذهبت إليـه لأجده ميتا مع فراو براون. لففت كلا الجثتين في بطانية سميكة بعناية وسـاعـدني اثنـان مـن الفدائيين على حمل الجثتين إلى خارج المخبأ.. سكبت عليهما الجاز، وما كـدت أشعل الجاز حتى اندلع لهب كبير له بريق متوهج".

وهكذا كانت طقوس نهاية قائد أقوى قوة عسكرية في العالم وأشرس حرب عرفتها البشرية خـلال القرن العشرين.

الحرب النفسية

لعل أطرف ما يروى في الحروب هو وسائل الحرب النفسيـة بين المتحاربين، تلك الحرب التي تعمل قبل وأثناء وبعد الحرب الفعلية. وقد عرفت تلك الحرب التي تهدف إلى زعزعة الثقة والقوة في الطرف الآخر.. عرفت قديما، إلا أنها تعتمد الآن على المنهج العلمي وعلى علمي النفس والاجتماع والدراسـات الأنثروبولوجيـة وغيرها من علوم الإحصاء والإدارة المتقدمة. وفي ذلك يمكن القول بأن البلدان المتحاربة تعتمد على ما يمكن أن نطلق عليه "الحرب بلا قتـال أو الحرب النفسية".. فإذا كـانت الحرب الفعلية وسيلة يتبعها أحد الأطراف للانتصار عسكـريـا وسيـاسيـا وفرض إرادة أحـد الأطراف على الآخر، ففي الواقع والحقيقة لا يمكن أن يتحقق ذلك إن لم يسبقهـا ويستتبعهـا الحرب النفسيـة. ومن أطرف ما رصده الأدباء في العصر الحديث عن طقوس المحاربين أثناء الحروب هـو مـا عـبر عنه "هيمنجواي " الكـاتب الأمريكي بقوله:

"إن حيـاة المحـارب مصـارعة من أجل الأمعاء المفتوحة".

إن طقوس المحـارب هائلـة وعجيبـة، فهي وليـدة تجربة الحياة في مقابل الموت، الموت الذي تزكيه الجماعة وتدعو لـه وتباركـه. وقد جبلت النفس البشرية على حب الحياة.. ولا يوجد أمام المحارب إلا اشتهاء الحياة من الطعام حتى الأحلام.

أما "إريك ماريا" الروائي الألماني في رواية "كل شيء هادىء في الميدان الغربي " فقـد عبر عن ذلك طويلا وشرح طقوس وهموم المحـارب التي لا تـزيـد على الرغبة في سد احتياجـات المحارب البيولوجية من إطعام وإخراج وجنس.

لذلك يرى بعـض المحللين أن قلة الأعمال الأدبية التي يكتبها المحاربون أنفسهـم ترجع إلى هول الحياة الطقوسية المعبأة بالمتناقضات. يرى "نوي سميس":

"السبب الـذي يجعـل الجنـود لا يعبرون عن تجاربهم بـاللغة إلا نـادرا هو أن الحرب بالنسبة للجندي هي شيء مادي مجسـد، ويبدو أن اللغة تزيف الحياة المادية".

بينما يرى "بـاول فسل " أن هـذا غير صحيح، وأن السبـب الحقيقي هـو أن الجنود قد اكتشفوا أن ليس ثمة من هو مهتم بالأخبار الروائية التي عليهم نقلها.

أخيرا نقـول إن الإنسـان ومنـذ أن استقـام على الأرض عـرف الصراع والحرب، فحاول أن يتعامل مع تلك اللعبـة والتعبير عنهـا أيضـا. فتنوعت الشعـوب والأمم وكذلك القبائل من رفض أو قبول فكـرة الحرب أصـلا، لكنهم اشتركـوا جميعـا في البحث عن مبررات ذاك الصراع- لعبـة الموت- وأصبح للجميع طقوسـه قبل وأثنـاء وبعد المعارك، سواء القبائل البدائية أو الأمم المتقدمة حضاريا!!

 

السيد نجم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من تراثنا العربي الاعتزاز بالسلاح خنجر موشي بالذهب





إعادة تمثيل طقوس الحرب القبلية القديمة كما كانت تؤدى وسط القبائل الإفريقية





إحدى الدبابات التي اشتركت في حرب الخليج حتى الجنود يقومون بطقوس معينة قبل استخدام الأسلحة الحديثة





الطائرات ليست سلاحا حربيا فقط ولكنها تهدف إلى زعزعة الثقة في نفس العدو