نصف قرن من (الحروفيّة)... وأسباب تراجعها من اللوحة العربية

نصف قرن من (الحروفيّة)... وأسباب تراجعها من اللوحة العربية

خضعت المحترفات التشكيلية العربية المعاصرة إلى إغراء الاستلهام من الموروث الكرافيكي (خاصة الكتابي والحروفي منه)، وذلك كردّ فعل نهضوي ابتدأ منذ منتصف القرن. حاول روّاد هذا الاتجاه تحقيق المصالحة التوفيقية بين موروث الذاكرة البصرية وتجريدات الفن الغربي المعاصر.

انخرط في بداية السبعينيات فنانون، بمستوى شاكر حسن وعزاوي وناصري (العراق)، حماد وسامي برهان (سوريا)، سعيد عقل وسمير صايغ (لبنان)، حامد عبدالله وأحمد فؤاد سليم (مصر). وذلك قبل أن تلامس هذه الأشواق دول المغرب العربي على مثال محمد المليحي (المغرب)، محجوب (الجزائر) ومهداوي (تونس)، وقبل أن يلحق بالركب العديد من فناني الخليج من مثال: السليم (السعودية)، يوسف أحمد وعلي حسن (قطر)، خمدن وبوسعد (البحرين).

ثم اجتاحت هذه الموجة أساليب بعض الفنانين المعروفين فعدلت منها مثل رفيق شرف (لبنان)، حسن جاها (السعودية)، عبدالقادر الريّس (الإمارات).

انحرف هذا الاتجاه في العقد الأخير عندما اجتذب - من باب السهولة الإنتاجية - جحافل من الهواة بدافع الاستجداء التسويقي واستغلال مصداقية العبارات العاطفية دينياً وقومياً، ونال هذا الاتجاه بسبب الحماسة والحظوة التي حظي بها من العناية النظرية والنقدية ما لم يبلغه أي تيار آخر، وشاعت صفة (الحروفية) التي ابتدعها النقد الصحفي، فشرنقت حوله منذ الخمسينيات ركام من التعريفات الملتبسة.

لم يتوقّف الجدل البيزنطي أبداً حول شرعية هذا التيار الإبداعية والاتباعية، خاصة بعد أن أخذت التجارب الجادّة تبحث عن نهج جديد خوفاً من النمطية والأسلبة، نحن بحاجة اليوم إلى وضع فاصل بين الإنتاج النخبوي والاستهلاكي منه، كما نحن بحاجة ماسّة إلى وضع المقاييس نفسها في تقويم تراثنا البصري بمعزل عن قدسية الاثنين العصبية.

اعتمد التنظير (الحروفي) منذ بداياته الصحفية على بداهات استشراقية جاهزة، تتجسّد خاصة في الإشكاليتين التاليتين:

1- تخليص الحرف من ذاكرة الطرز والأقلام وتفريغه من البعد الروحي:

لا نعثر على مقابل هذا الالتباس في الاستلهامات الكتابية في الدول الأخرى مثل إيران وتركيا واليابان، فالفصل الجاحد بين اللوحة الحروفيّة وذخائر المخطوطات العربية الإسلامية يتناقض مع التطوّر العضوي في الذاكرة الثقافية، يدّعي كتاب داغر (الحروفية العربية، فن وهوية) ص61 أن الحركة الحروفية تعتمد على (القطيعة التامة مع طرز الخط العربي)، وهو ما يتناقض مع صور الأمثلة التي يعرضها الكتاب نفسه، واحدة تمثل الخطاط محمد غني (أحد تلاميذ هاشم الخطاط) في محترفه، ولوحة للخطاط محمد سعيد الصكار، ولوحة لمحمد المليحي ترسم تحوّلات على حرف الهاء بالخط النسخ، وتخطيطات ليوسف أحمد بقلم الثلث، وغير ذلك. لا تخلو دعوى هذه القطيعة والانسلاخ المطلق عن ذاكرة معلمي الخط من الأصولية النهضوية، نقلها الكاتب عن موقف بعض الحروفيين من مثال وجيه نحله.

تفسّر خفة هذه الأطروحة أن المشكلة أخذت بالمقلوب، فمعرفة الطرز والأقلام لا تشكّل ذنباً يعاقب من خلاله الخطاط بطرد كتاباته من جنة (الحروفية)، ولكن هذه المعرفة (مثل شتى المعارف التشكيلية) لا تضمن الطرف الإبداعي في اللوحة، سواء وصمناها بـ(الحروفية) أو سواها. كما أن غياب هذه المعرفة لا يعمّم ارتباك أصحابها فنيّاً.

إن التعسّف النقدي الذي اتّهم الخطاطين بالاتباع وكل مَن خان طرزهم بالإبداع أدى إلى الخلط الراهن، يحضرني خطاطون مجيدون من مثال محمد سعيد الصكار ومنير شعراني، وما قدموه من تطوير لا يستهان بأصالته في طرز الخط، يصل هذا التعسّف ذروته في حالة عبدالقادر أرناؤوط، فهو خطاط وفنان تشكيلي معاصر، وهؤلاء الثلاثة اجتمعوا على ابتداع ثلاث أبجديات طباعية متطورة وبما أن الخط والخطاطين العرب لم ينقطعوا في نشاطهم الإبداعي في العواصم الكبرى بغداد، دمشق، القاهرة، وبقية الحواضر العربية والإسلامية مثل اسطنبول وطهران، فإن وضع نشاط هؤلاء خارج خارطة (الحروفية) تتناقض مع الضمير التراثي الذي حرّك الاتجاه منذ انطلاقته الجديّة الأولى على يد شاكر حسن وزملائه. لم تكن الحاضنة بغداد محض مصادفة، فهي الحاضنة الثريّة لكبار الخطاطين والشعراء. ولعله ليس من باب المصادفة أيضاً أن أولى بوادر شعر الحداثة ولوحة (الحروفية) تزامنت فيها، ففي الوقت الذي كان فيه أوائل الحروفيين يمتحنون قوة الحرف في اللوحة كان جماعة السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري يمتحنون قصيدة النثر، لعله ولذلك فإن نصوص بلند الحيدري حول (تاريخ الحروفية) تبدو من أشدّها مصداقية نقدية مقارنة بكل ما تلاها. يرفض الحيدري الفصل بين ذاكرة الحرف وبعثه في اللوحة المعاصرة، وهو ما نجده صريحاً في دراسته التي نُشرت مرات عدة تحت عنوان (الحرف العربي في الفن التشكيلي المعاصر) يستهل نصّه النقدي كما يلي:

(نون والقلم وما يسطرون)، أقسم الله به فكان ما لم يكن لغيره من حظوة وقدسيّة، وكان له ما لم يكن لغيره من فنون العرب والمسلمين من أهمية) منبهاً إلى قوة التنزيه في مداخل بعض السور.

يُنبئ نص الحيدري بأن الفصل بين ذاكرة الحرف وحداثته مناقض لبداية الدعوة الحروفية في اللوحة، لعله من الجدير بالذكر أن أحد كبار معلمي هذا الاتجاه وهو محمود حماد الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للفن المعاصر في سوريا، قد استقدم معلم الخط حلمي حباب ليدرس أصوله في قسم التصوير، وذلك عندما كان عميداً.

لم يطرح بقية الروّاد لوحاتهم بديلاً عن الصفحة المخطوطة أو الخطية، وإنما اعتبروها شكلاً آخر ينتسب إلى مغامرات اللوحة المعاصرة. يتحدث رافع الناصري عن محاولة ملاءمة هيئة الحرف مع المواد الحديثة، لذا نجده يقلب الحروف أو يضمنها في أبجديته الإشاراتية المبتدعة، وذلك بما يناسب وظائفها الجديدة في تكويناته، وكما شرحتها زوجته الناقدة مي مظفر.

ضياء العزاوي بدوره لا يدّعي انشقاقه عن ذاكرة الحرف وإنما تحويله إلى إشارة كرافيكية، أو عنصر تشكيلي في ملصقات اللوحة، يبدو الحرف لديه مشظّى بما يناسب تجريداته التكعيبية، وبالعكس، فإن كتاباته الطباعية تقترن أكثر بما يستجيب مع معرفته العميقة بأصول المخطوطات وأحابيل وألاعيب الصفحة مع الهامش والكتابة المتحرّرة من نظام الأسطر ووحدة القياس والألوان، نعثر على هذه الحرية المتواصلة مع الذاكرة في أعمال (البورتفوليو) (الكتب الفنية).

هذا هو شأن الكثير من الروّاد، فلم يكونوا يتخيلون أن شكل الحرف بالإمكان سلخه عن ذاكرته الأبجدية أو هيئته وإلا لسقطت أسباب استخدامه. حامد عبدالله يتحدث عن استخدام الحرف كمن يعيد صقل مرآته الثقافية.

ألم يكن الأحرى بالمؤسسات ذات الدعوات القومية أن تشجع مراكز بحوث منهجية لتثبيت الأصول المقارنة في هذه الأبجدية، أي البحث عن أصول الخط النبطي في المسند الثمودي أو السورياني أو السينائي أو الإبلي والفينيقي وصولاً حتى الأكادي، والمقاربة مع عربية التدامرة والقبائل العربية وحضر وغيرهم.

إن الظلام والضباب المخيمين على مثل هذه الدراسات وعلى طرز الخط العربي نفسها أديا إلى إشاعة الفوضى في شجرة الكتابات السامية. وأمعنت الدوريات في سوريا والعراق تبذل الصفحات العاطفية السهلة للحروفية، (الحياة التشكيلية وآفاق عربية)، لعل هذا ما يفسّر اهتمام شاكر حسن آل سعيد بالعلاقة بين الخطين الكوفي والمسماري وجمع صالح الجميعي للكتابتين في بعض تجاربه.

واهتمام سعيد عقل بالكتابة الفينيقية - الكنعانية، واستثمار بعض تجريدات صليبا الدويهي للخط السورياني.

لعله ولهذا السبب فقد أهمل بعض الفنّانين المثقفين اسم (الحروفية) مثل فناني السودان الذين كان لهم الشراكة في فضل الريادة باستلهام الحرف وهم: شبرين والصلحي ووقيع الله. واستمر ذلك مع بشير إدريس وحسن بدوي ومحمد مختار، تماماً كما هو موقف سمير صايغ وسواه.

لاشك في أن التنظير القومي بما يحمله من (ديماغوجية) نهضوية قد رسّخ انسلاخ الحرف عن عرفانيته، فالتسمية مترجمة حرفياً عن أحد فروع التجريد الغنائي، (Le lettrisme).

يبتدئ الالتباس من الاسم الشائع (للحروفية)، فهو مصطلح لمدرسة صوفية، وتيار عقيدي حمله عماد الدين النسيمي.

وأصبحت (الحروفية) مصطلحاً صوتياً باطنياً للحروف، تتصل تعاليمه بعلم الحروف والأعداد والجفر والأوفاق التي نستشفها من تنظيرات شاكر حسن آل سعيد.

نعثر على بصمات روحانيته في تجربة سعيد طه المقيم في حلب، وهو من أعمق الحروفيين في سوريا.

والسؤال المطروح: هل يمكن أن تغيب توريات هذا المصطلح الباطني على فنانين ذوي معرفة عرفانية بحجم شاكر حسن آل سعيد وسمير صايغ والسليم وسعيد طه? وحتى بلند الحيدري نفسه? هذا في حال اعتبرنا أن النقد الصحفي لا يحتمل مسئولية هذه المعرفة خاصة في جانبها البصري - الصوتي العميق.

لم يشر أيّ من هؤلاء إلى تأثره الصريح بهذه المعرفة التراثية، ما خلا بعض إشارات شاكر حسن آل سعيد.

هل يمكن أن نقبل بخضوع هؤلاء مثل بقية الفنانين إلى الترجمة الحرفية للأصل الغربي? وإذا فات الفنانين هذا الالتباس، فكيف توارى عن تبيانه الخطاطون ذوو المعرفة الصوفية من مستوى محمد سعيد الصكار ومنير الشعراني?

لعلها المداراة المزمنة التي يتعامل بها الفنانون مع سطحية النقّاد، أو بالأحرى، وهو الأخطر، مداراة الذين يتمسكون بعرفانية الحرف ويبطنون ذلك خوفاً من تهمة الأصولية!

بقي المصطلح مفزعاً من معناه، ولا أحد يملك القدرة على تغييره بعد شيوعه. ولكنه مع ذلك يمثل تعايشاً بين تيارين على الأقل وهو ما أشار إليه محمد عزيزة بتقسيمه الحروفيين إلى خطين (بما معناه):

(1- احترام قدسية الحرف) 2- اعتباره مختبراً بصرياً.

لاشك في أنه من الصعوبة نزع البعد الروحي عن الحرف مهما شطحنا في رسمه عن أصول الخط، كيف يمكن أن نفك حرف (الهاء) الذي يراجعه محمد المليحي عن عبارة (هو) المنتشرة في المساجد والزوايا، ألم يعتبر ابن عربي (أن الحروف أمة من الأمم) ويعرف الفارابي الخط بأنه (أصيل في الروح وإن ظهر بحواس الجسد) ويثبته الخطاط الكبير المستعصمي بأن: (الخط هندسة روحانية بآلة جسمانية).

لنتذكر كيف قلبت عزلة عارف الريس حساسيته الروحية عندما صمم نصب سيوف الله من أحرف لفظ الجلالة على قياس عشرة أمتار في جدة.

تفترض دعوة شاكر حسن آل سعيد (في بياناته عام 1971) التخلي عن أحد أبعاد السطح الإقليدي، وذلك ضمن تورياته وترميزاته الصوفية الأفلاطونية، مستعيراً التصوّر نفسه لمادة الصناعة الفنية التي تتسامى لتقترب من نماذج (عالم المثل) فاقدة أبعادها المادية، فالمربع في (عالم المثل) غير قابل للرسم، وكذلك (النقطة) التي تختزل حركة (الخط)، فالتقشف والزهد في الشكل والخط واللون يفسّر المعنى الرمزي لتسمية (البعد الواحد)، يدعو بالنتيجة للتخلي عن وظائف الحرف القاموسية والسمو به إلى مراتبه الروحية العليا.

لم تؤثر هذه التنظيرات لا على لوحة صاحبها ولا على مجموعته بقدر ما أثمرت في تجربة تلميذه الباريسي مهدي مطشر، فقد توصّل في سياق اختزاله المتواتر للحرف والشكل الهندسي إلى أبجدية (منماليست).

تقترن بـ(الوهم البصري) الذي يبثه طراز الكوفي المربع، اختص بهذا الالتباس الوهمي كمال بلاطة في سلسلة أعمال على الشاشة الحرير، خلال سنوات طويلة، وكذلك الأمر مع بصريات حسان أبو عياش القريبة من فازاريللي.

نعثر في هذا الانفصام الذي تعانيه (الحروفية) بين النزعة القومية والنزعة الروحيّة على انفصام أسلوبي لدى بعض الفنانين، فالعديد من المتعصبين لقومية الحروفية يجترّون الخطوط الفارسية (نصطليق وسواه) أو العثمانية (أنواع الديواني والطفراءات).

وضع شاكر حسن (اللبنات الأولى لمدرسة معاصرة تعتمد استلهام الحرف) كما يقول -لذلك فقد أضاف إلى اسم (جماعة البعد الواحد) شعار (الفن يستلهم الحرف) وبادر خلال اجتماع الاتحاد العام للفنانين العرب عام 1974 بتأسيس (رابطة الفنانين العرب المستلهمين للحرف).

يقول شاكر حسن في رؤى تأملية حول باطن الحرف وظاهره: (ليس الحرف مجرد علامة لغوية، ولكنه البرزخ الوحيد للنفاذ من عالم الوجود إلى عالم الفكر)، محاولاً إخراج الحرف من قواميسه الدلالية وزرعه في حقل المادة النورانية في التصوير.

إذا تجاوزنا المساحة التهويمية في تنظيرات شاكر حسن التصوّفية، (والتي يغلب عليها المعنى الباطني) فإن تصويره يتناقض بشكل حاسم مع هذه المنطلقات، فلوحته غربية بحتة وذات ثلاثة أبعاد، موادّية (mtieriste) على غرار جداريات تابييس.

وذلك على عكس منحوتات سلوى روضة شقير الحروفية المبكرة، وتناغم منطلقات سمير صايغ الروحيّة مع نتائج تجاربه الكرافيكية الأخيرة، والتي لم تُنشر نتائجها بعد على أهميتها.

ومهما يكن من أمر، فإن النشاط الحروفي كان جزءاً من الالتزام القومي لدى الكثيرين من مثال المرحوم أدهم إسماعيل وسعيد عقل، بل إن محمد خدّه كان عضواً في مجلس الثورة الجزائري. ولم تكن تخلو هذه النزعة بالتالي في المغرب العربي من أداة مقاومة للفرانكوفونية. أتيل عدنان على عمق تجربتها تمثل المقاومة الثقافية المعاندة للفرانكوفونية والانجلوساكسونية، فهي لا تعرف اللغة العربية إلا بعد أن أصبحت بالغة، ولكننا رغم ذلك نعثر على بعض الحروفيين الذين يكتبون العربية من اليسار إلى اليمين ولن نستبعد ذلك على القريشي والمهداوي وبلكاهية.

2- سلخ الحرف عن الموروث الكرافيكي، واختلاط الكتابة بالتخطيط:

أقام معهد العالم العربي في باريس (عام 1994) معرضاً مقارناً تحت عنوان (تقاطع الإشارات)، عرض فيه لوحات مستلهمة من ذاكرة الأبجديات والكتابة ما بين جنوب المتوسط وشماله، وخُصص معرض مواز للتجارب العربية المتميزة للفنانين العرب المعاصرين، أقيم المعرض في متحف بواتييه، أحب من خلالها الناقد إبراهيم علوي أن يصحح ركام التعسّف النقدي الذي حيك حول مفهوم الحروفية، وذلك بإخراج الحرف من عزلته السياسية المفتعلة ليعيده إلى حاضنته الكرافيكية والتشكيلية، مع تجاوز الحدود الزمانية، أشرفت بدوري على تقديم هذا المعرض بدراسة مستفيضة وعدد من المحاضرات، شارحاً نقاط محوره (إشارات وكتابات): حروف عزاوي وناصري وبلاطه إلى جانب إشارات وأوشام الشرقاوي وتبصيمات كمون وعمر خليل، ثم هندسات مهدي مطشّر إلى جانب الكتابة الجدارية لشاكر حسن، والتنويطية الغنائية لمحجوب بن بيللا، والحياكة التشكيلية الشمولية لمليحة أفنان.

كان المعرضان فرصة لإعادة لحمة مفهوم الاستلهام الكرافيكي واستثماره في الأثر التوقيعي التشكيلي، وذلك بعد عقود من وصاية التنظير الصحفي، والنقد الوافد من مساحة الأدب، والواقع أن حماس هؤلاء للتيار الحروفي لاعتبار الحرف برزخاً متوسطاً بين القصيدة النثرية واللوحة النهضوية التجريدية.

ثم إن جزءاً كريماً منها تم من خلال رسم الشعر أو شعر الرسم الطباعي، لامس هذا التعاون نرجسية الحسّ التفوّقي للكلمة على اللون والخط، باعتبار أن سلطة الحرف تفد من اتصاله بالصورة القدسية للإلهام والوحي ورسخ بعض الأدباء بالتالي تراتبية عنصرية تعتمد على مبدأ: (الأدباء قوّامون على الفنانين).

بحث النقد الأدبي عن الاستعارة الأولى للحرف العربي وكأن ذلك يمثل ثورة فنية، وافتعل التنافس بين مديحة عمر وجميل حمودي دون تقويم ارتباك الاثنين من ناحية التأويل التشكيلي، لقد فات هذا النقد أن المستشرقين سبقوا الاثنين في استخدام الحروف ضمن لوحاتهم ومشاهدهم الملفقة، وأن الموروث الكرافيكي سبق كل الأطراف في استثمار تشكيلية الحرف بمعزل عن دلالته، ابتداء من مداخل السور (الصوتية)، وانتهاء بتداخل القراءة في بعض الطرز الباطنة، لقد استعار الفنان فكتور فازاريللي شتى هذه الأحابيل المنجزة في قلم الديواني والكوفي المربّع وسواهما، بعض أنماط قلم الثلث لا تُقرأ بسبب توخيها الجمال البصري والتقاطع الموسيقي وتغيير مواقع الأحرف، أما الطفراءات، فقد صممت في الأساس حتى تكون مغلقة القراءة، في كثير من هذه الحالات تتفوّق النشوة والشطح البصري - السمعي على دلالة الحرف، وهو ما عثر عليه سامي برهان، وعرف من خلال تنويطاته وتوقيعاته معنى (التنزيه) في الحرف.

إن فك عروة الحرف عن هذه العلاقة المركبة والتراكمية، قاد إلى تسويحه واستشراقيته، خاصة مع التمسّك الدائم بمثال تجربة الفنان بول كليه معه، فهو من الذين سبقونا - في الأربعينيات - إلى تنويط الحرف العربي بصرياً دون أدنى معرفة لغوية بدلالته، فات هؤلاء أنه يمثل تطوّراً عضوياً في سياق الفن الألماني المعاصر، وأنه تعرّف على كنوز وذخائر الإشارات (بما فيها الحروف) من معرفته العميقة بنظام الموسيقى اللحنية الأفقية وارتباطها بالتوقيعات الكرافيكية، وذلك لصفته موسيقياً محترفاً، بدليل مراجعته مرات عدة موضوع (الغناء العربي) من خلال شكل المغنية.

ثم بتفوق معرفته لخصائص الفن الإسلامي من نقدنا الصحفي، تشير إلى ذلك دراسته البالغة الأهمية التي تناول فيها زخارف المحاريب (مودعة في اليونسكو)، ويبدو تأثيرها على تجربته بالتسطيح المتدرّج للإشارات حتى مرحلة مصر التي تحوّلت إلى سلم بصري - موسيقي يتفوّق في انتسابه لخصائص الموروث البصري التنزيهي بما يتفوق على عرفانية شاكر حسن النظرية.

ثم إن العديد من الفنانين الجديين اقتصروا على مناخات الرقش والإشارة والمفردة كما هي المدرسة التونسية (سمير تريكي والهاني وفخفاخ) وأبو عياش، مصطفى النشار اختص بالحليات القرآنية، عبدالرحمن النشار بالمصدفات والمرصّعات الخشبية، عبداللطيف صمودي والصفار بالبسط والسجاجيد، نجاة حسن مكي بالحرائر والألبسة التراثية أو الاتصال بهيئة العمائر مثل نجيب بلخوجة وهكذا...

ونعثر عليها في المخطوطات الحرّة، الكتابة بقياسات واتجاهات وألوان مختلفة، خروج عن نظام الصفحة والهامش، وتراكم في بعض الخطوط.

نعثر في تجارب بعض الفنانين على ذاكرة تهشيرات القلم وحياكة السجاجيد كما هي لدى محجوب بن بيللا ويوسف أحمد وعبدالرزاق الساحلي ومليحة أفنان ومحمود أمهز، تتضمن هذه الحياكة نسيج المخطوطات مع غياب هيئة الحروف، متقاربة من بعض التجارب الغربية ابتداء من أندريه ماسون وميشو، وانتهاء بتوبي وبولوك مروراً ببعض أنماط الوهم البصري.

تكشف تجربة قويدر التريكي أحد أبرز المصوّرين في تونس استلهامه بادئ ذي بدء من حياكات هنري ميشو (كاتب وحروفي فرنسي)، ثم حوّل نواظم هذه الكتابات إلى كائنات أسطورية فينيقية محتشدة، تتحالف مع شطحات أحمد الحجري الحلمية والتي تسكن اللاشعور الجمعي، لم تتغير في الحالتين خرائط وتوقيعات التكاوين، وكذلك التأثير السحري والبصري، وهو ما يفضح افتعال الانفصام بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، وهو فصل لم يخضع له عزاوي. فكثيراً ما يراجع في رسومه التشخيص التعبيري الحر. كذلك حسين ماضي لم تمنعه حروفياته من التجوال في الكائنات الحيّة والجامدة.

لعلّ الخطأ الجوهري الذي شارك بغموضه شاكر حسن نفسه هو الخلط بين ثنائية الفلسفة الجمالية (العربية الإسلامية) القائمة على (التنزيه) المناقض لـ(التشبيه)، وثنائية الفن الغربي المعاصر وهي: (التجريد) المناقض لـ(التشخيص)، فالخط مثل (الموسيقى) لا يقبل خلط الشرق بالغرب.

إن تكريس سلطة الحرف والكلمة والتنظير الأدبي ثبّت أصولية تغييب الصورة وأشكالها التعبيرية (التي ابتدأت مع النهضة في بداية القرن)، تغييبها من جدران الثقافة التشكيلية الخاصة والرسمية، وقطع رحم تواصلها بالموروث التشخيصي الذي لا يمكن فصله عن توائمة (رغم التدمير والاخفاء الذي منيت به المخطوطات المرسومة)، بل إن طغيان فكرة احتكار الحرف للخصائص الثقافية رسّخت التلفيقات الاستشراقية حول كراهية الرسم والصورة، وقادت إلى أحادية الاختيار من رحم الموروث.

علينا بالاعتراف بأن الفن التركي والإيراني وحتى الياباني لم يتعثّر بهذا الالتزام الديماغوجي والدهمائي في فنونهم المعاصرة، فالفنان الياباني مثل الإيراني يملك حرية الاختيار اليوم في تواصله سواء مع ذاكرته التجريدية الكتابية أو مع أصول (الاستامب) و(البارافان) التشخيصي.

إذا كان من التعسّف فصل الحرف عن حضانته الكرافيكية، فقد آن الأوان للتعايش بين التجريد والتشخيص، ليس فقط باعتبار موروثهما يقع في مساحة التنزيه، بل وأيضاً أسوة بمحمولة الغربي، الذي رفع التفرقة العنصرية بين الفنون.

 

أسعد عرابي

 
 




حسين ماضي - حروف على وجه امرأة - 1993 - ألوان جواش على ورق





محمد خده (الجزائر) قلعة الكوفة - ألوان زيتي على قماش - 1986





لوحة للفنان كمال بلاطة





للفان رشيد القؤيشي - الجزائر





"المتعلقات السبع" ضياء العزاوي - فنان عربي مقيم في لندن