مساحة ود

 مساحة ود
        

متى يشبع الإنسان من العالم?!

          ظللت أغمس قطعة القطن في الماء المثلج بآلية, وبآلية أضعها على الجبهة الملتهبة, التي كم قبّلتها, شاردًا مع حكاية قديمة, هي سؤال امتحان (قارن بين بيتي الشعر أمامك: في البيت الأول يرثي شاعر أباه, وفي الثاني يرثي شاعر آخر ابنه, أيهما أكثر بلاغة وصدقًا.. ولماذا?). ثم صوت المدرس يحسم لغطنا قائلا: (البيت الثاني بالضرورة فحزن الأب على ابنه لا يضاهيه حزن آخر).

          لاحظت زوجتي شرودي, واضطراب عمل يديّ, فظنّت بي التعب, واتخذت مكاني في عمل الكمادات وهي تهمس:

          - ألم تلحظ أن عينيه صارتا أكثر اتساعًا وجمالاً?

          قالتها بفرح ارتعبت له رعبًا, لم أدعه يتسرب إلى ملامحي, فبخبرتي المهنية, لا تتسع عيون المرضى هكذا أو تلمع عند الشفاء, بل في أشد لحظات المرض شراسة وخطورة.

          ساعة.. ساعتان, وحلّت البنت محل أمها في عمل الكمادات لأخيها, وكان استيقظ وراح يدير معها حوارًا, بينما تمنحه خبرتها بلهجة متعالية لمن تكبره بخمسة أعوام قائلة:

          - يابني افهم.. هذه الفراشات هي أرواح جدتك وخالك وكل من أحبونا, تجيء إلينا من الحقول لتزورنا كلما أصابنا مكروه.. فهمت!

          كانت فراشات كبيرة وصغيرة مغطاة بالدقيق الملون تطير, ثم تحط على الملاءة أو الأباجورة.

          ثم تطير وتحط.. وهكذا.

          - لا أريد كماداتك. ماما تعمل لي أفضل منك. ثم إنني أعرفها يا فالحة.. هذه ذات الأجنحة المزدوجة روح خالي الذي مات في الحرب. وهذه التي كحمصة خضراء ماري بنت خالتي روز جارتنا. ومضى باسم بنبرة واثقة ينسب كل روح ملونة إلى صاحبها أو صاحبتها. ثم باغتني بما جعل رعبي حزًا في القلب.. حقيقة لا مجازا.

          - بابا.. أمير صاحبي حين كان مريضًا قال إنه سيقسم نفسه مثل الساحر إلى نصفين. نصفه يرسله لربنا, والآخر يعيش به مع أهله, ثم صمت قليلا وأضاف: لماذا يموت الناس?

          افتعلت بسرعة حديثا يُبعد ذكْر الموت والفراشات, غير أن الفخ كان قد أطبق.. بمَ إجيبه?

          هل أقول له نموت حين لا يصبح لدينا هدف نعيش لأجله! أم أقول إن الكبار يموتون بعد أن يمنحوا صغارهم ما يكفيهم من الحب لبقية عمرهم, أو أقول إن لكل موت سببًا من المرض, أم أختصر الأمر كله بالقول إن الله يريد لنا ذلك?

          ثمة إجابة وددت لو أمكنني قولها (يموت الناس عندما يشبعون من هذه الحياة) لكني بدلاً منها قلت: (هيا قم وصالح أختك). قال بنبرة تحد طيبة (هي التي أغضبتني أولا, لذا عليها أن تصالحني. وتعمدت أيضا أن تسقط الماء على عيني وأذني. لن أترك حقي).

 

رضا البهات