التنوًّع الحيوي قضية أغنياء الأرض وفقرائها رجب سعد السيد

التنوًّع الحيوي قضية أغنياء الأرض وفقرائها

المؤلف: جيفري ماكنيلي، وآخرين

عندما شهد العالم بداية ما يسمى بالثورة الصناعية، كان يعيش على الأرض ما يقرب من بليون نوع من الكائنات الحية. وكان ذلك يعني، بالنسبة لعلماء البيئة والبيولوجيا، غنى الأرض بأنواع الحياة، في تربتها، ومائها، وهوائها، بينما كان رجال الصناعة والاقتصاد يترجمونه إلى وفرة في المصادر الطبيعية الحية، تضمن لهم استمرار دوران مصانعهم ونمو مشروعاتهم.

وها نحن نختتم القرن العشرين، وقد تأكد لدينا أن للموارد الطبيعية البيولوجية قدرات وحدوداً، وأننا قد تجاوزنا تلك القدرات والحدود، وأن ذلك التجاوز قد أساء كثيراً إلى الأرض التي هيأها لنا الله شديدة التنوع والغنى بالحياة والأحياء، وأن الوقت قد حان لإعادة حساباتنا، وتغيير نظرتنا إلى تلك الموارد الطبيعية، لعلنا ننجح في صون التنوع الحالي في الأحياء التي تعيش معنا على سطح كوكبنا، ونمنع دفع مزيد من الكائنات الحية إلى هاوية الانقراض.

فمجموع الكائنات المنقرضة والمهددة بدرجات متفاوتة وصل إلى 22530 كائنا.

ماذا عن التنوع الحيوي؟

وقد أتى علماء البيئة بمصطلح جديد شامل، هو: التنوع الحيوي، الذي يمثل الإطار العام لصورة تضم كل الأنواع من الكائنات الحية، نباتية وحيوانية، بالإضافة إلى الكائنات الدقيقة، الموجودة في أنظمة بيئية مختلفة. إنه اصطلاح دال على القدرة الطبيعية على التنوع، ويتسع ليشمل عدد وتكرار وجود كل من الأنظمة البيئية وأنواع الكائنات الحية، وأيضاً، العوامل الوراثية المحددة لصفاتها.

فثمة، إذن، ثلاثة مستويات للتنوع الحيوي: الأول، لتنوع الصفات الوراثية، ونعني به مجموع المعلومات والصفات المشفّرة في جينات كل النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة الموجودة على سطح الأرض.. ويمثل هذا المستوى القاعدة العريضة لتنوع الحياة في كوكبنا. ويمكن تناول التنوع الحيوي في مستوى ثان،هو التنوع الحاصل في مجمل الأنواع من الكائنات الحية، والتي يعتقد أن عددها، حالياً، قد تناقص إلى خمسين مليون نوع، وإن كان عدد الأنواع التي تم التحقق من وجودها ووصفها لا يزيد كثيراً على 1. 4 مليون نوع، نصفها من الحشرات!

أما المستوى الثالث، فهو التنوع في الأنظمة البيئية، ويأتي من التباين في أنماط حياة التجمعات المختلفة من الكائنات الحية، ومن تعدد وتنوع التفاعلات البيئية في المحيط الحيوي الذي يضم كل الأنظمة البيئية، وفي هذه الأنظمة، تتم دورانات الأملاح المغذية في أطوارها الثلاثة، من الإنتاج إلى الاستهلاك إلى التحلل، كما يدور فيها أيضاً كل من الماء والأكسجين والميثان وثاني أكسيد الكربون، وهي العناصر الرئيسية المؤثرة في أحوال المناخ.

إن قضية صون التنوع الحيوي للأرض شديدة الالتصاق بالمسائل الاجتماعية وقضايا التنمية الاقتصادية في مختلف المجتمعات، ولا يمكن معالجة أي منها منفصلة. وعلى سبيل المثال، فقد طال استغلال الدول الصناعية لبيئة الحزام الاستوائي للأرض، وهي البيئة التي تشتمل على أكبر مخزون طبيعي من الكائنات الحية على سطح الأرض، ومنه أخذت تلك الدول خاماتها الصناعية والدوائية، كما استثمرتها سياحياً. فلما حلّ الإنهاك بتلك البيئة،لم تقم الدول الصناعية بتقديم العون الكافي لدعم جهود صونها وإنعاشها، بالرغم من أن هذا الدعم هو- في الواقع- تأمين لاستمرار انتفاع تلك الدول بموارد البيئة الاستوائية.

وبالرغم من تزايد الوعي العام بقضية الموارد الطبيعية الحية، وبأهمية صون التنوع الحيوي للأرض، فإن المشاركين في وضع هذا الكتاب يرون ضرورة إبراز القيمة الاقتصادية للتنوع الحيوي، وجعلها ملموسة للحكومات ولرجال الاقتصاد، ليعطوا للقضية اعتبارها عند وضع خطط التنمية واتخاذ القرارات التنفيذية.

ويشتمل الفصل الذي يحمل عنوان (القيم الاقتصادية للتنوع الحيوي)، على ثلاث مجموعات من التقديرات لهذه القيم، أولاها تقدير القيمة الاقتصادية للمنتجات الطبيعية التي يجري استغلالها من الطبيعة مباشرة، وعلى حساب كثير من الكائنات الحية، دون أن تمر بمرحلة تسويق، مثل أخشاب الوقود، والأعلاف، وحيوانات الصيد. أما المجموعة الثانية، فتضم القيمة الاقتصادية للمنتجات الطبيعية الحية التي تستغل تجاريا، مثل أخشاب الأشجار التصنيعية، والأسماك، وأنياب الفيلة (العاج)، والنباتات الطبية. وتمثل المجموعتان السابقتان أوجه الاستغلال المباشر للموارد الطبيعية الحية، فإذا أتينا إلى الأوجه غير المباشرة، أمكننا أن نعطي تقديرات اقتصادية لمجموعة من القيم غير المحسوسة، مثل عملية البناء الضوئي، وهي أضخم مصدر للمواد الكربوهيدراتية، أساس الحياة على سطح الأرض، وتنظيم أحوال المناخ... وهما عمليتان تتحكم فيهما بعض مكونات الأنظمة البيئية.

الإنسان يجور على البيئة

ويتعرض أحد فصول الكتاب لأسباب وكيفية الجور على الموارد الطبيعية الحية وتتلخص بعض الأنشطة الآدمية ذات الدوافع الاجتماعية والاقتصادية، مثل تعرية مساحات كبيرة من الغابات بالاقتلاع أو بالحرق، بغرض زراعتها بالطرق التقليدية، أو تحت ضغط التوسع العمراني، والاستهلاك غير الرشيد للثروات الحيوانية والنباتية الطبيعية، وتزايد الاعتماد على المبيدات،وعمليات الصيد الجائر للأسماك وغيرها من المنتجات البحرية، وتلوث الهواء، وزحف العمران على الأراضي الزراعية.

ويرى المؤلفون أن ثمة ستة معوقات رئيسية تحول دون تحقيق تقدم كبير في جهود صون التنوع الحيوي، وهي:

1 - إن مستهدفات خطط التنمية الوطنية لا تعطي الاهتمام المناسب لقيمة الموارد الطبيعية الحية.

2 - إن الجانب الأعظم من مردودات استغلال الموارد الطبيعية الحية يصب في خزانة التجار ورجال الصناعة، الذين لا يلتفتون - غالباً - إلى تحمل أنصبتهم من التكلفة البيئية لاستغلال تلك الموارد، بينما يقع عبء هذه التكلفة على الوطنيين من سكان البيئة محل الاستغلال، الذين قد يفاجأون بنضوب تلك الموارد، واختلال الأنظمة البيئية في مواطنهم، وقد يهتز استقرار معيشتهم.

3 - إن العلاقة بين الأنظمة البيئية المختلفة والأنواع من الكائنات الحية التي تعيش فيها، والتي تمثل عماد حياة البشر، في حاجة إلى مزيد من الدراسة، من أجل مزيد من الفهم.. وكما سبق أن ألمحنا، فإن إمكانات وجهود علماء التصنيف في رصد ووصف الكائنات الحية، لا تزال قاصرة عن تعريف كائنات حية تعيش معنا الآن، وتخلو منها الخرائط التصنيفية، بل إن بعض هذه الكائنات- مع الأسف- ينقرض قبل أن يتعرف عليه العلماء!

4 - إن ثمة قصوراً علمياً آخـر، يتمثل في عدم كفاية سبل الإدارة العلمية للأنظمة البيئية.. وعلى سبيل المثال، لا تزال علوم إدارة المصايد البحرية (المسامك) عاجزة عن تحقيق الاستغلال الأمثل للموارد البحرية الحية، ولا يزال الجدل دائراً حول حقيقة المخزون الطبيعي من تلك الموارد، وخصوصا الثدييات البحرية.

5 - إن معظم المنظمات والهيئات العاملة في مجال صون البيئة والموارد الطبيعية الحية تعمل منفصلة عن بعضها، وتتركز أنشطتها في مجالات ضيقة، ذات تأثير محدود.

6 - إن المؤسسات التي تتصدى لتحمل مسئولية حماية التنوع الحيوي، تفتقر إلى التمويل المادي.

وقد أتيح لكاتب هذه السطور أن يشارك في مؤتمر علمي حول التنوع الحيوي، إقامه جهاز شئون البيئة بمصر، وكانت الشكوى العامة لكل العلماء المشاركين أن مشروعاتهم العلمية لا تكتمل نتيجة عز الموارد المالية.

حماية الكائن الحي

ويلقي مؤلفو الكتاب الضوء على بعض الأفكار والتوجهات العملية التي يمكن الأخذ بها لحماية التنوع البيولوجي، ومنها: أن حماية وجود الكائن الحي تبدأ بحماية بيئته، وهذا ما يدفع بعض الإدارات الحكومية إلى إصدار قرارات بتحريم استغلال الموارد الطبيعية الحية في بعض البيئات الحساسة، واعتبارها مناطق محمية.

والجدير بالذكر أن عدد المحميات الطبيعية في العالم يبلغ 4500 محمية، يزيد مجموع مساحاتها على 500 مليون هكتار.

ومن التوجهات العملية لحماية التنوع البيولوجي، أيضاً، المشروعات والبرامج التي يجري تنفيذها في حدائق الحيوان وبنوك البذور والحدائق النباتية، حيث ينصب الاهتمام على الأنواع النادرة والمهددة بالانقراض من النباتات والحيوانات البرية، فتخضع لبرامج الإكثار والتربية ثم تعاد فتطلق في بيئاتها الطبيعية. وهو توجه عملي طيب، ثبتت فعاليته في أحوال عديدة.

ومن الضرورات اللازمة لحماية الموارد الطبيعية الحية، أن تعيش الكائنات الحية في محيط حيوي خال من التلوث، وإلاّ فلا معنى لأي جهد يبذل لإعادة إعمار الأنظمة البيئية بالكائنات النباتية والحيوانية التي أصبحت نادرة أو أوشكت على الانقراض.

وبالرغم من تأكد حقيقة أهمية التنوع الحيوي كضرورة لصحة الأنظمة البيئية المختلفة، فإن هذه الأنظمة لا تزال تتحمل ضغوطا تفوق قدراتها على التجدد وتعويض الفاقد. إن ذلك يستدعي وضع تشريع عالمي يرعى جهود التعاون المثمر في مجال صون التنوع الحيوي. وقد أعد برنامج الأمم المتحدة للبيئة. بالاشتراك مع منظمة الفاو، اتفاقية عالمية لحماية التنوع الحيوي، رحب بها عدد كبير من الدول.

وينتهي الفصل الرابع من الكتاب بالاقتراب من نقطة مهمة في مسألة حماية التنوع الحيوي، وهي موقف السكان المحليين من هذه المسألة، فهم يعتبرن كل ما على (أرضهم) جزءاً من تاريخهم الحضاري والاقتصادي، وأن حرمانهم منه، بحجة صونه أو تنظيمه، يعد مساساً بمقومات حياتهم، وتهديداً لوجودهم ذاته. من هنا، يدعو الكتاب إلى ضرورة وضع مصالح هؤلاء الوطنيين في الاعتبار، والتعامل مع كل (حالة) محلية منفصلة عن غيرها، فلكل منها درجة حساسيتها الخاصة التي يجب عدم إغفالها، ضمانا لنجاح برامج ومشروعات حماية التنوع الحيوي.

ويتحدث المؤلفون في فصل خاص عن أهمية توافر قواعد قوية للمعلومات كأساس لنجاح مشروعات وبرامج حماية الموارد الطبيعية الحية، على أن تتضمن هذه المعلومات، بالدرجة الأولى، وصفاً دقيقاً لجميع الأنواع النباتية والحيوانية المتجمعة في مختلف الأنظمة البيئية.. فمن الضروري أن نعرف: ماذا لدينا، قبل أن نبحث في: ماذا سنفعل بما لدينا. ولقد سبقنا إلى هذه المسألة مجموعة العلماء المصاحبين للحملة الفرنسية على مصر، فاهتموا بوصف عدد ضخم من الكائنات الحية البرية والبحرية والطيور المصرية، ورسموها رسما علمياً دقيقاً. ونحسب أن ذلك العمل لم يكن لمجرد التسلية أو التسجيل، بل كان تمهيداً لرصد الثروات قبل البدء في استغلالها.

وندعو، مع مؤلفي الكتاب، إلى ضرورة أن تهتم مراكزنا العلمية في الوطن العربي بإصدار (كتالوجات) تصنيفية للكائنات الحية في البيئات المتنوعة، ودعم جهود العمل العلمي التصنيفي، وتبادل الخبرات والمعلومات البيئية في البلدان العربية.

ولا يبالغ الكتاب في تقرير أن هذا العقد الذي ينتهي به القرن العشرون هو مفترق الطرق أمام الحضارة الإنسانية، وأن توجهاتنا خلال السنوات القليلة القادمة هي التي ستحدد في أي السكتين نسير: (سكة الندامة)، بالاستمرار في الإساءة إلى مواردنا الطبيعية الحية وتدميرها، دون أن ندري- أو، ربما بوعي تام- أننا نصدر الفوضى إلى أبنائنا وأحفادنا ونحرمهم من فرصة طيبة للحياة؟ أم (سكة السلامة) بأن نتيح لخريطة الحياة في كوكبنا أن تعود إلى الازدهار، وبأن ندرك أننا، بني الإنسان، لسنا وحدنا على سطح الأرض، وأن ثمة كائنات أخرى، قد ننظر إليها على أنها (متدنية) في سلم التطور الذي صنعناه بأنفسنا، ولكن استمرار وجودها- معنا- ضرورة لاستمرار الحياة.

 

رجب سعد السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب