سارة برنار ضحكة لا تتكسر فتحي العشري

المؤلف: فرانسواز ساجان

هذه سيرة ذاتية من نوع جديد . لقاء تخيلته الكاتبة الفرنسية الشهيرة فرانسواز ساجان مع أشهر ممثلات زمنها سارة برنار . ورغم السنوات التي تفصل بينها . ورغم أن الموت قد طوى جسد الممثلة الشهيرة إلا أن ساجان تحليت أنها قد تبادلت معها مائة رسالة عرضت فيها كل تفاصيل حياتها وكل آرائها في الحياة والفن .

" سبع عشرة رواية، ست مسرحيات، مجموعتان من القصص القصيرة، مذكرات، سيناريو واحد، وهذه السيرة عن سارة برنار.

إنها الشهيرة فرانسواز ساجان.. صاحبة: صباح الخير إيها الحزن - ابتسامة ما - في شهر في سنة - هل تحبين برامز - السحب الساحرة - دقات قلب - حارس القلب - قليل من الشمس في الماء البارد - زرقاء في النفس - وجه ضائع - بيانو في العشب - الفراش الشاحب - الكلب النائم - المرآة المخضبة - عاصفة ساكنة - حرب ضجرة - دم من ماء .

وصاحبة: سارة برنار ، ضحكة لا تتكسر . عنوان غريب كسائر عناوين رواياتها ومسرحياتها وقصصها ومذكراتها .

100 رسالة خيالية

هي سيرة وليست سيرة ، محاورة وليست محاورة . فالشكل مختلف والطريقة جديدة والأسلوب جذاب . هي المرة الأولى في تاريخ السير على الإطلاق التي تكتب فيها على هذا النحو .

فقد اتخذت فرانسواز ساجان شكل الرسائل أو المراسلات ، بينها وبين بطلة السيرة . والذي عمق غرابة السيرة هو أن صاحبتها ليست على قيد الحياة ، بل هي شخصية لم تلتق بها يوما ولهذا فالشكل الذي اختارته خيالي أيضا .

ومن خلال الرسائل التي تبعث بها ساجان إلى الرسائل التي ترد بها سارة برنار على كاتبة سيرتها ساجان .

مائة رسالة متبادلة بينهما تبدأ ساجان هكذا:

( فرانسواز ساجان إلى سارة برنار .

عزيزتي سارة برنار:

أعتقد أني قرأت تقريبا كل السير والمذكرات والصور والأصداء التي كتبت عنك ، أو صدرت بقلمك بعد رحيلك منذ أكثر من ستين عاما إذن .

هي كثيرة ومتنوعة ، ولكني لم أبدأ بها ولا حتى بفكرة منك ، فتلك الفكرة كانت عندي ، ولكنها جميعا كانت محركات تتجمع حول وجودك .

فقد كان لك وجود سري وصاخب في الوقت نفسه ) .

وتستمر خلال صفحتين وهي تؤكد لسارة برنار أن معاصريها قد كتبوا عنها بإعزاز وإجلال بعد رحيلها باعتبارها أكثر النساء الشهيرات إنسانية طوال العشرين قرنا التي عرفناها .

سارة برنار إلى فرانسواز ساجان .

عزيزتي:

أقبل . عندك حق في هذا: فعلت كل شيء لأصبح مشهورة وكل شيء لأظل مشهورة . أحببت ذلك ليس لأن مجدى لم يكن يتكسر ) .

مشاهد في الكهف

وتستمر خلال خمس صفحات وهي تبين لفرانسواز ساجان أنها واجهت لحظات فشل كبيرة ، وكانت تضحك منها ، ضحكات لا تتكسر .

وتكتشف أن ساجان تريد أن تعرف كل شيء عن حياتها ، وهي لا تمانع في ذلك فتقول إنها كانت فتاة صغيرة تتمتع بصحة جيدة ، وأن أمها - جولي فون هاردت - الألمانية المولد كانت " غسالة " في باريس ، ظلت تمتهن تلك المهنة حتى التقت بأحد الدارسين الجادين ويدعى برنار ، أنجب منها طفلة ، هي بالتأكيد سارة ، قبل أن يعود إلى مدينته وأسرته ومهنته ، ولكنه رصد مبلغا من المال يحق للطفلة عندما تبلغ سن الرشد أو عندما تتزوج .

واستطاعت الأم أن تصبح متعهدة غسالات ، واستدعت أختها التوأم روزين لتساعدها ، في الوقت الذي أرسلت سارة فيه إلى مربية في إحدى القرى لتتعهدها ، وحتى لا تشغلها عن العمل . هذه المربية كانت تطعمها الزبد واللبن والأعشاب النورماندية خلال السنوات الخمس الأولى من عمرها .

في عام 1850 لم تكن الحياة في باريس سهلة ، خاصة بالنسبة لسيدتين غريبتين . ولهذا وبعد خمسة عشر عاما من مولدها ، وجدت أمها جولي تعيش مع السيد لانكري ابن جراح نابليون ، وخالتها روزين تعيش مع الكونت مورتي .أما أمها فكانت قد أنجبت طفلتين من رجلين آخرين ، ولكنهما عاشا معها بعد أن تحول بيتها إلى صالون من الصالونات المعروفة .

والتحقت سارة بما يسمى " الكهف " وهو ما يشبه الكتاب لتتعلم القراءة والحساب ، وفيه قدمت لأول مرة مشاهد استعراضية أدت من خلالها شخصية الملاك رافاييل ، مما أضحك زملاءها وزميلاتها . وفي الخامسة عشرة جاءت أمها لتصحبها إلى المنزل ، أصبح لها منزل مثل الأخريات وهي في الخامسة عشرة من عمرها ، وقد كانت سعادة غامرة بالنسبة لها . في هذا البيت التقت بأختيها كلير وجان .

سارة .. والأدباء

وتذكر سارة برنار تعرفها على الكتاب والأدباء في عصرها ، تذكر مارسيل بروست ذا الشعر الأسود والوجه الشاحب وغرابة عينيه .

وتذكر كذلك راسين وكورناي وموليير الذين منعت من قراءتهم تقريبا بأوامر الآنسة برابندر . أما لافونتين فهو الوحيد الذي كان يسمح لها بمعاودة قراءاته ، ظنا منهم أنه يعنى بقصص الأطفال ، والحقيقة أنه كان يعني أشياء أكبر من ذلك بكثير .

كانت مبهورة بالمسرح قراءة ومشاهدة ، ولهذا التحقت بالكونسر فاتوار . وكان عليها أن تصحح حرف " الراء " وحرف " الأوه " وتكف عن التصفير بحرف " السين " ، وكان عليها أن تقرأ عشرين مرة قبل النوم عبارة مليئة بحرف " الدال " وأخرى مليئة بحرف " الباء " .

وكانت تهتم كثيرا بقراءة أشعار " راسين " من مسرحياته بطبيعة الحال ، وتقول إن صوتها كان قويا ، ينتقل ببساطة وعفوية وتلقائية وفطرة من الهمس إلى القوة دون أي مجهود . وهذا الانتقال في علم الأصوات عسير جدا ويكاد يكون مستحيلا . وترد سارة برنار على أسئلة فرانسواز ساجان ، بقولها: هذه أسئلة لم يتوجه إلى بمثلها أحد في حياتي ، ولهذا أحاول أن أتذكر .

تسأل ساجان: هل عرفت ماري بيل التي كانت تؤدي دور فيدر على المسرح وتوفيت عام 1983 وكانت آخر البطلات المتميزات ؟

تقول سارة: عرفتها وهي بعد ناشئة تحاول أن تقرأ دور فيدر في الكواليس وعندما تراني تخفي الكتاب ، فلم يكن يجرؤ أحد على أداء الدور في حياتي أو يحاول أمامي ، وتعترف ساجان لسارة بأنها أفضل من يكتب قصة حياته بنفسه ، فإن لم تكن قد فعلت ذلك ، فهذه هي الفرصة لاستدراك الأمر ، وتسألها عما فعلته بعد أن التحقت بالكوميدي فرانسيز ؟

كانت في السابعة عشرة من عمرها عندما طلبوا منها أن تؤدي مشهدا تراجيديا ومشهدين كوميديين ، ولجأت إلى أستاذين أحدهما ينتمي للمدرسة الطبيعية في الأداء ، والآخر ينتمي إلى المدرسة الانفعالية ، وقد تركتها معا ولجأت إلى موهبتها وأخذت تقرأ كثيرا . وقبلت بعد عام كامل .

إن حياة سارة مثلما كانت حياة ساجان بعد ذلك ، ومثل حياة الفنانات في الغالب ، والأدبيات من هذا النوع ، حياة مليئة بالعلاقات وبم لا نرضى عنه ولا نقره في شرقنا ن أو نذكره في كتبنا وصحافتنا فقد طلبت ساجان اعترافات سارة ، فاعترفت لها .

أول مسرحية

كانت أول مسرحية تقدمها سارة أمام الجمهور ، هي مسرحية إيفيجيني لراسين ، بينما امتلأ مسرح الكوميدي فرانسيز عن آخر . إنها ليلة لا تنسى ، ليلة الفاتح من سبتمبر عام 1962 . بدأتها سارة في الخامسة مساء .

وتصف سارة برنار الرعب الذي عاشته قبل أن يدفعوها دفعا نحو خشبة المسرح بعد رفع الستار ، وبين المشاهد وفي لحظات الخروج والدخول من جديد ، وفي الاستراحات حتى نهاية العرض .

ولكنها نجحت نجاحا ساحقا من أول ليلة . وكررت النجاح نفسه في العرض الثاني " فاليري " والثالث " النساء العالمات " لموليير . لتؤكد نجاحها في التراجيديا والكوميديا على السواء . وأكد النجاح الجماهيري الكتابات النقدية التي ظهرت بعد هذه العروض .

حاولت ساجان أن تسأل عن تفاصيل التفاصيل لدرجة استفزت سارة ، فقالت لها في صفحة 98 بالحرف: " ولكن ! إنك تضايقينني في النهاية .. ماذا اقول ؟ "

وفي إحدى رسائل ساجان ، تصف جمال سارة: عينان صفراوان ، شعر أشقر ، أناقة ، رشاقة ، ثقة ، بهجة ، ضحكة ، ابتسامة .

هذا الوصف يقع في صفحة 140 ، ولكن ما يلفت النظر التعبير عن لون العينين ، فهل توجد عينان صفراوان حقا ، حتى في الصين ؟ الصوت الذهبي ونعرف أن سارة لعبت مسرحية ري بلا عام 1872 ، وفيدار عام 1873 وديدمونة عطيل عام 1878 ، وكان عمرها 34 عاما ، فقد ولدت سارة عام 1844 . كذلك لعبت النسر لإدمون روستون ، والزهور لجان ريشبان وماكبث وهاملت وهرناني لهوجو ، وأشهر وأكبر المسرحيات الفرنسية والإنجليزية والعالمية آنذاك .

في ذلك الوقت كان يطلق على صوتها " الصوت الذهبي " وكانت الأوبرا تحتفل في الرابع عشر من يوليو كل عام بعيد الثورة الفرنسية ، حيث يحضر رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة ، ويبدأ العرض بعزف " المارسلييز " أو السلام الوطني .

أحد رؤساء الجمهوريات " جول جريفي " صفق للصوت الذهبي طويلا . وهكذا كان يفعل الجمهور في مثل تلك الحفلات الخاصة كانت سارة ترتدي ثوبا طويلا جدا بألوان العلم الفرنسي الثلاثة الأزرق والأبيض والأحمر ، وفي النهاية تلتف به ويلتف بها فيختلط الألوان وتبدو وسطها كما لو كانت هي تمثال النصر وسط جنون تحية الجميع .

تعتز سارة وهي تصف هذه اللحظات لساجان ! تقول لها ساجان: كم هي رائعة ، تلك الحياة ، أن تتعرف على واحدة من أهم شخصيات ذلك العصر .

سارة برنار والنقاد

وتذكر ساجان النقد الذي كتبه الناقد الشهير جول لوميتر ، والكاتب المسرحي الشهير برنارد شو عن سارة برنار الذي لا يقارن ولا يقاوم ولا يعطي فرصة لأي ملاحظات . بل وتبين إلى أي مدى اتفق الضدان على رأي واحد حول سارة: جول رونار ومونتسكيو ، هنري جيمس وبير لوتي ، بروست ووايلد ، جان لوران وجول لوميتر . كما تؤكد أن شخصيات لم تعاصرها كانت ستفتن بها هي الأخرى من أمثال: سارتر وأنوي وبيكيت ومالرو ودورا ولوكليزيو وغيرهم .

وتؤكد سارة أنها كانت ستسعد بلقاء هذه الشخصيات وأداء أدوار لهم والحياة في عصرهم .

وتتحدث سارة عن رحلة إلى الأمريكيتين الجنوبية والشمالية ، تذكر العرض الذي قدمته في الهواء الطلق فوق براكين سان فرانسسكو . والعرض الذي قدمته أمام سجناء سان - كينتان . والعرض المغلق أمام جمهور متحفظ بنيويورك .

طافت الدنيا إذن ، وطافت التاريخ .

تحدثت سارة في عجالة عن ابن لها وعن ابنة كذلك وذكرت في عجالة أيضا حربين عشاتهما ، الأولى عام 1870 حين فتحت بيتها للمصابين وحولته إلى مستشفى ، وتحولت هي إلى ممرضة ، وكانت تبلغ الخامسة والعشرين وقد اصبحت نجمة معروفة ، والثانية عام 1914 عندما طلب منها كليمنصو نفسه أن تعادر باريس ولكنها قالت له: إذا أخذني الأعداء فكأنهم يأخذون أيضا الجيوكندا .

جولة في أمريكا

وتحدثت كذلك عن حادث الباخرة الذي أدى إلى آلام في ركبتها وفخذها لازمتها حتى النهاية . وتسببت هذه الآلام المعذبة في بعض عزلتها وفي تكسير ضحكتها التي لا تتكسر . فلم يجرؤ على إجراء عملية جراحية لها إلا طبيب صغير في بوردو ويدعى دوموسيه قام في الحادي والعشرين من يناير عام 1915 ببتر ساقطها وسط صراخ أسرتها وأدائها لنشيد المارسلييز.

ومع هذا صعدت على المسرح بعد ثلاثة شهور يسحبها أحد الرجال ، وتؤدي قصيدة ضد النازي ، ثم تتجول على مقعد متحرك بين الجنود المنتصرين . فقد ساقها ولم تفقد صوتها .

وعلى حد تعبير سارة برنار أيضا هذا القول: " وأدركت أن زماني على الأرض سيستبدل به زماني تحت الأرض . وبرغم وجودي وحدي بلا محب ، بلا ساق ، بلا حرية ، بلا موهبة ، فقد احتفظت دائما بضحكتي التي لا تتكسر "

وفي رسالتها الأخيرة إلى فرانسواز ساجان تقول سارة برنار: " الحياة كبيرة وحرة وغريبة . الحياة عجيبة. فيها الريح والدموع والقبلات والجنون والغيرة والحسد والغبطة والرغبة والشهوة والندم . الحياة بعيدة ، ولكنها قريبة جدا . أنصحك بحرارة ، صدقيني ، إذا كنت قادرة ، اضحكي ، اضحكي كثيرا ، لأنه إذا وجدت موهبة ثمينة حقا أكثر من غيرها فإنها - هذه الموهبة -: ضحكة لا تتكسر ".