جمال العربية
جمال العربية
عندما تغنى شوقي بلبنان خاتمة القدماء وطليعة المحدثين, هذه هي مكانة شوقي شاعر العصر الحديث وأمير شعرائه, وصنّاجة العرب في القرن العشرين. الموسيقى في شعره نشوة طاغية, وإيقاع جياش متدفق, وأصوات متجاوبة متناغمة, تنطق جميعًا بالحسّ الموسيقي الرفيع عند واحد من أهم شعراء العربية على مدار تاريخها كله, وأكثرهم حفاوة بالجانب الموسيقي في شعره, بعد الأعشى, صناجة العرب في الشعر القديم. من هنا كان لشعر شوقي - في كثير من قصائده - دورانه وذيوع صيته في ساحة الغناء, وكانت له هذه القابلية للتلحين والتطريب, تشدو به أصوات مصرية وعربية, وتترنم به حناجر وجدت فيه بُغْيتها, بعد أن قرأته واستمعت إليه فاستمتعت به, وتحوّل استمتاعها وترديدها إلى امتدادٍ لتأثير هذه الشاعرية الفذة, واتساع لنفوذها الطاغي, المستمر فينا حتى اليوم. أغلق شوقي - بشاعريته الاستثنائية - الباب في وجه الكلاسيكية القديمة التي حاول البارودي - في مشروعه الشعري الضخم - إذكاء النار من جديد في رمادها المحترق, وفتح شوقي - بهذه الشاعرية الاستثنائية - الباب في وجه كلاسيكية شعرية جديدة, حملت - فيما حملت - أقباسًا وتأثرات رومانسية, هي ملمح من تجليات التيار الوجداني - كما يؤثر البعض تسميتها - تمتد جذورها إلى الرومانسية الفرنسية - أو الرومانتيكية كما يفضل البعض - عند هيجو ولامارتين وألفرد دي موسيه وغيرهم, مصطبغة بالنّفَس التراجيدي الكلاسيكي الذي أتيح لشوقي من خلال المسرح الشعري لراسين وكورني وغيرهما, ووجد هذا النّفَس التراجيدي الكلاسيكي مُتنفسه في المسرح الشعري لشوقي إنجازِه العظيم وريادته التي لا يختلف عليها أحد. هكذا يتسع نسيج شعر شوقي لما لم يتسع له نسيج غيره من الشعراء الكبار في زمانه, في مصر وفي العالم العربي, والتمعت العناصر الرومانتيكية والرمزية, في غنائياته مرةً, وفي مسرحه الشعري, وقصائده للأطفال - تأثرًا بحكايات لافونتين ومأثوراته الشعرية - مرة أخرى. لتجعل من شعره فضاء مغايرًا, ومذاقًا لشاعر مسكون بالحداثة الشعرية, راسخ القدمين في عصره وزمانه, وحلمًا شعريًا مستمرًا, يتسع لمغامرات اللغة والخيال الشعري, ويتوهج بكينونته الموسيقية, وإيقاعها الشديد الأسْر, العميق النفاذ والتأثير. وفي قصائد شوقي التي اهتزّ لها وتر الجمال في وجدانه وتجاوب معها حسُّه الفني الصافي, تجسيد رائع لفيض هذه الشاعرية, خاصة عندما يتصل الأمر (بلبنان), البلد الذي منح شوقي صفاء أصيافه التي قضاها في ربوعه وأُنْس أيامه ولياليه. كما أضفى رجالاته وشعراؤه وأدباؤه على شوقي من الحفاوة والتكريم والإكبار ما لم يجد مثيلاً له أو لبعضه في أي مكان آخر. من هنا انتقل لبنان من موقع الصدارة في قلب شوقي إلى موقع الصدارة في شعره, من خلال قصائد أتاحت لشوقي أن يطرب وأن يغنّي, فكان شعره - في لبنان وعنه - طربًا وغناءً ونشوة حياة واستشرافًا لأفق الجمال الرحب, في الوجود والإنسان, في الطبيعة والفن, في الصحبة والإيناس, في كيمياء المعنويات والحواسّ, في اللفتة والنظرة, والغمزة والوعد, وفي جموح الشباب - لدى شوقي - وهو يزهو بمعاكساته ومشاغباته, وكشفه عن حيله وطرائقه وأساليبه مع النساء, ونجاحه - آخر الأمر - في الوصول إلى غاياته, منتصرًا بشعره وشبابه معًا. يقول شوقي في واحدة من بدائعه عن لبنان: ولا يفوت شوقي - في إبداعه لهذه اللوحة الشعرية البديعة عن لبنان, وامتلاء وجدانه بفنون جماله وروائع مشاهده وسحر غيده وفاتناته - لا يفوته أن يحيي رجالات لبنان وزعماءه, وبخاصة موسى نمّور بك رئيس مجلس النواب اللبناني, لقاء ما وجده على أيديهم من حفاوة وتكريم, واحتفال بمكانته الأدبية الفذة وشاعريته الاستثنائية, فيقول: في رائعته الثانية (زحلة) يقدم شوقي لوحته الشعرية الثانية عن لبنان, شاعرًا ومصوّرًا ورسامًا وموسيقيًا. وإذا كانت سهاة (بكفية) * قد سلبته عقله ورشاده في قصيدته الأولى - ودفعته إلى الخروج عن وقاره ومزاحمته لها في الطريق وارتقابها حتى خروجها من الكنيسة, الأمر الذي دفع بكثير من حسناوات لبنان إلى ادّعاء أن كلا منهن كانت مقصد شوقي وملهمته, وموضع اهتمامه في قصيدته - فإن جارة الوادي في قصيدة (زحلة) لها هي الأخرى حديث ذو شجون وتأثير باق لايزول. وقد أتيح لها من الحظوظ مالم يتح لحسناء (بكفية), حين اختارها الموسيقار محمد عبدالوهاب لتكون إحدى روائعه اللحنية والغنائية عندما تغنى بها في مستهل شبابه ورحلته مع الغناء, وأصبحت تتردد على كل لسان. يقول شوقي: ومن (جارة الوادي) إلى (لبنان), موطنِ الحنين, وملقى الذكريات, ومدارِ الأحلام والأشواق: ---------------------------------------
|