أرقام

أرقام

عالم سنة (2050)!

كانت القاهرة تستعد للمؤتمر العالمي للسكان حين أصدرت الأمم المتحدة تقريرا عن الحالة السكانية للعالم حمل العديد من المفاجآت والتنبؤات.

كان ذلك في يوليو 1994، وكان موضوع التقرير الـذي أصدرتـه إدارة المعلـومـات الاقتصادية والاجتماعية: مراجعة تقديرات وتوقعات الأمم المتحدة حول السكان.. و.. في المراجعة كانت المفاجأة الأولى وهي أن الموقف أفضل كثيرا مما نتصور.

كانت الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة - قد توقعت أن يكون النمو السكاني قد انخفض إلى (68. 1%) في السنوات الأخيرة.. ولكن بإعادة الدراسة اتضح أن النمو السكاني للعالم قد أصبح (57.1%) فقط كمتوسط عام لسنوات (90 - 94).. وبما جعل تعداد البشرية في منتصف 1994: (63 .5) مليار نسمة فقط.

إذن لقد نجحت، أو كادت السيـاسات السكانية أن تنجح، ولم يعد غول النمو السكـاني يهدد الموارد التي يخشى الاقتصاديون أن يكون نموها بنسبة أقل، ومع ذلك فإن المشكلة لم تنته.. مشكلة السباق بين السكان والموارد.

في التفاصيل، تبدو الخريطة غير سعيدة.. فسكان العالم المتقدم يمثلون 21% من البشرية والدول الأقل تقدما تمثل 79%. المجموعة الأولى والتي تضم (2 . 1) مليار نسمة تنمو ببطء وبمعدل سنوي لا يتجـاوز (4. %).. والمجموعة الثانية الأكثر فقرا، وأقل تقدما تضم (5 . 4) مليار نسمة وتنمو بسرعة تفوق الأولى بنحو أربع مرات أو يزيد!

فإذا لاحظنا أن المجموعة الأولى هي الأكثر امتلاكا لفنون التقدم والتكنولـوجيا، وأن معظم التطورات العلمية المثيرة، كتلك التي تجري في عالم الوراثة.. تتم على أرضها.. أي أنها أكثر قـدرة على زيـادة بل ومضاعفة مواردها، لـو لاحظنا ذلك، لأدركنا أننا أمام عالم سوف تتسع فيه الفوارق ولا تزيد، فمن يملكون أدوات التقدم ومضاعفة الثروة يحوزون نسبة أقل من السكان وينمون بشريا بمقدار محدود، وصل في بعض البلدان إلى الصفر.. أو إلى ما أسمته المنظمات السكـانية: حـالة التثبيت، فـلا زيادة ولا نقصان.. والمواليد يغطون بالكاد ما تفقده هذه البلدان نتيجة الوفـاة.. وعلى الجانب الآخر فإن الأغلبية التي لا تملك نفس القدر من وسائل التقدم تحوز نسبة أعلى من النمو السكاني.

لكن هذه الحقيقة الأولى، حقيقة اتساع بون التقدم والفقر والثراء، ليست كل شيء، فتنبؤات المستقبل تحمل مفاجآت أكثر.

الصين تتراجع!

من تنبؤات المستقبل أن الصين سوف تفقد تفـوقهـا التاريخي في عـالم السكان. سوف تزحف الهنـد التي لا تملك نفس السياسات التي تتبعها الصين لضبط السكان. سوف ينجح التنظيم الحديدي والفريد في الصين لكي يحكم تعـداد السكـان، ليصبح عام (2050): (61 . 1) مليار فقط.. في مقابل (64. 1) مليار للهند.. أي أن الهند سوف تكون أكبر تجمع سكاني في العالم وبما يعادل 30% من سكانه الحاليين.

يعني ذلك، وهي الحقيقة الثانية المهمة: استمرار ظاهرة التركز السكاني.. ففي ذلك الوقت - منتصف القرن المقبل - سوف تكون هناك دولتان يصل تعدادهما إلى نحو ثلث سكان العالم.. بما يعنيه ذلك سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. وبما يفوق أي سابقة تاريخية في هذا المضمار.

في نفس الوقت فإن الهند - مع استمرار وحدتها السياسية - هي دولة المستقبل، وهي تملك مقومات تقدم ونمو قد تستطيع أن تحيل هذا التعداد الضخم غير المسبوق وهو (1640) مليون نسمة من عبء تنوء به.. إلى ثروة تستثمرها وتفخر بها.

في نفس الاتجاه، اتجاه التركز، تأتي الحقيقة الثالثة والتي تقول إن الدول العملاقة سوف يزيد عددها وبـما قد يجعل الدول الصغرى أقل شأنا.

في العالم الآن - 1994 - عشر دول يزيد عدد سكان كل منها على مائة مليون نسمة. الصين في أول الطـابور (حوالي 2 . 1 مليـار نسمة).. ونيجيريا في آخره: (108) ملايين نسمة.. و.. بينهما حسب الترتيب: الهند (919 مليونا) - الولايات المتحدة (211 مليونا) - أندونيسيا (195 مليونا).. و.. هكذا: البرازيل، روسيا، باكستان، اليابان، بنجلاديش، ثم نيجيريا.

في هذه الخريطة اختفى الاتحاد السـوفييتي والذي كان يفوق تعداده تعداد الولايات المتحدة الأمريكية.. ولكن وعندما انفرط عقـده وتحول إلى دول تـزيد على العشر بقيت روسيا وحدها منافسة في المجال السكاني ولتحتل المقعـد السادس بدلا من المقعـد الثالث بعد الصين والهند.

الصورة عام (2050)، وحسب توقعات الأمم المتحدة سوف تختلف. سوف تنضم لقافلة الدول العملاقة والتي يتجاوز تعداد كل منها المائة مليون: ثماني دول أخـرى وبما يجعل العمالقـة: ثماني عشرة دولة تحوز نسبة هائلة من سكان العالم لأول مرة.

في القائمة الجديدة دولة عربية واحدة هي مصر.. ومن دول الجوار العربي ثلاث دول هي: إيران وتركيا وأثيوبيا.. أي أن المنطقة سوف تضم 4 دول يزيد تعداد كل منها على المائة مليون، وبما يعنيه ذلك أيضا من انعكاسات سيـاسية واقتصادية.. وبما قد يعنيه من شرق أوسط جديـد تتنازع فيه القوة الدول الأكبر حجما مع الدول متوسطة الحجم.. والدول التي تملك إمكانات بشرية وإمكانات تقدم مثل مصر وتركيا وإيران.. مع دول تريـد أن تحقق السبق عن طريق التكنولوجيا مثل إسرائيل..

هل تتغير صورة العالم سنة (2050)؟.. هل يزيد سكان الدول الأكثر تقدما على تلـك النسبة المتواضعة التي سجلها عام 1994، أعني (21%)؟

لا يحتاج الأمر إلى إدارة أفضل في شئون السكان، بقدر ما يحتاج إلى إدارة أكثر رشدا في مجال السياسة والاقتصاد. صحيح أن التكنولوجيا، وبالتالي وفـرة الموارد أو ندرتها سوف تلعب دورا حـاسما.. ولكن، أليس اختيار نوع التكنولوجيا ونمط التنمية وتوزيع عائد التنمية.. أليس ذلك نوعا من القرار السياسي؟

على أية حال فإن استشراف القرن الجديد، والذي يطل علينا بعد خمس سنوات يحمل العديد من الأسئلة على ضوء التطورات السكانية المتوقعة.

لقد كان الثقل السكاني دائما ذا علاقة بالأهمية الاستراتيجية للدول.. فأي أثر يتركه التركز السكاني، وانتشار ظاهرة الدولة العملاقة؟.. وما مكان الكيانات الصغيرة؟

والأهم: كيف ندرأ هذا الخطر.. خطر المزيد من التفاوت بين فقراء يتكاثرون وأغنياء يتحفظون في مسيرتهم البشرية؟

الأرقام ليست جوفاء.. لكنها ذات معان مهمة تنتظر إجابات من متخذي القرارات.. هنا.. وهناك.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات