واحة العربي

واحة العربي

السوق
أنت السلعة مهما كنت وأينما كنت إلا في سوق حسن فتحي

وأنت قابع الآن مع التلفزيون أو زوجتك أو كتابك أو خيالاتك، أي: وأنت في أي مكان وفي ظل أية أفكار، إنما أنت في الموقع الذي أنتجته قوى السوق، العرض والطلب بالضبط، أنك سوف تزعم أنك اخترت وأن هذا الاختيار جاء موافقا لمؤهلاتك أو أهوائك، كل هذا صيغة تبدو مقنعة لحرية وهمية نحب أن نثرثر بها، حتى لو مزقت كل شروط التعاقد واكتفيت بملبس بسيط وتوجهت حافيا بالشص أو السنارة إلى شط النهر مكتفيا بسمكة صغيرة واحدة - فأنت لم تخرج عـن دائرة إرادة الحاجة والمحتاج التي ترتكز عليها عناصر السوق، وستظل طرفا في مجال قوى واضحة أو غامضة بقدراتك ومشاعرك وإبداعاتك ورغائبك وأحلامك وإحباطاتك أيضا. والقاعدة: أن كل ما تود اقتناءه، أو استعماله، إنما هو ملك لطرف بعيد يرقب حركتك ويسحب في هدوء سنارته لتخرج - أنت إليه - بصفتك سمكته الأثيرة، ليلبي رغبتك مقـابل أن تدفع له شيئا: من الجهد أو المال أو المرح أو الثناء أو التوسل أو الدعاء بطول العمر، لا شيء يتم مجانا. والسوق الكبرى تعم الكون، وتتكون من أسواق أصغر وسويقات أدنى، وعلى أرصفتها الممتدة تجد كل ما يخطر على بالك: القنابل الذرية والصواريخ والأبقار والجنس والمدافع والمقالات والأخشاب والغزلان والكلاب والقصائد والذئاب والأناشيد والمدارس والقوافل والأصوات الجميلة والحبوب والجواري والأسهم والجياد والمجلات الملونة والسندات ودور السينما والماعز والقطط والاستوديوهات وماء النهر والبترول والبغال والعبيد ونقل الدم والغلمان وتغيير الأعضاء والسكر والرقص والبرلمانات والكحول وأدوات التجميل وموادها والورق والبنوك وموجات الإرسال والنكت والأهازيج والملابس والأقلام والأدوية واللحوم والفراش الوثير والمبيدات واللوحات وكتابة التاريخ وخفة الدم والمعادن وتسريب الأسرار والزهور والمخدرات وتزوير الوثائق والحشرات والمخطوطات والحوائط والكواكب والآثار والمتعة والمصحات والجنود (والجيوش أيضا) والزعماء والآلات ووسائل الإخصاب والأراضي والحراس وأدوات المائدة والسباع والمناظر المبهجة والوزارات والأشعة والخطب اجتماعية أو دينية أو سياسية والإنسان هو مركز السوق، حتى لو كان الأمر لا يعدو تحريك سلعة هي قطعة عظم يلهو بها كلب ، فسوف تجد صاحب الكلب ينتظر هذه اللحظة ليسعد، وليبدو رءوما بالحيوان، لأن الإنسان هو الأب الحقيقي للسوق، منذ تدحرج في العصور الغابرة وبيده ثمرة طماطم يود أن يقايض إنسانا آخر بثمرة جوافة، ومنذ ذهب إلى بائع العظام العريضة ليشتري عظمة فخذ فيل كي ينتقم بها من أصهاره الذين اعتدوا عليه بعظمة فخذ أسد، ومنذ وقف على رأس بئر مسلحا بالقوس والسهام يحول بينها وبين ذوي المطمع. فيها، ومنذ ظهور إشارات النار بينه وبين عملائه كي يمهدوا له سبيل الاستيلاء على شجرة برتقال في الغابة الأخرى، وهي كلها أنشطة لها أسواقها المعاصرة وبورصاتها الحديثة في بكين وباريس ولندن ونيويورك - وما يتفرع منها من مواقع البيع والشراء والتجريب والمساومة والإقناع والاقتناع في بلدان أخرى، وكلها العقد العصبية التي تتجمع فيها خطوط أعصاب العالم دقيقها وغليظها، وفي ثنايا حركتها تتركز كل شعيرات أنشطة العالم، وصراعاته الظاهرة والباطنة. وأشهر الأسواق عند العرب تاريخيا - كما هو معروف- سوق عكاظ قديما، ثم سوقا بغداد ودمشق بعد انتشار الإسلام، ثم السوق السوداء التي تعني التعامل غير القانوني في مواد قانونية، ولا سيما تلك المواد التي تعنى بتسويقها الحكومات، وأطرف الأسواق: سوق حسن فتحي، وهو المهندس المصري الشهير الذي اهتم بعمارة تقوم على خامات البيئة، وقد أقام سوقا واسعة على أطراف واحة باريس في منطقة الوادي الجديد، ليتبادل فيها أهل واحات مصر في الصحراء الغربية عمليات البيع والشراء، مبنى واسع ضخم له مجموعة من القباء التي تحمي رواد السوق وحيواناتهم من الحرارة الشديدة، ومنذ إنشاء السوق- في الستينيات- حتى الآن لم يستعمله أحد، حيث لم تكن ثمة دراسة جدوى جادة تفسر لنا الدافع لتاجر يمتطي ظهر جمل، ويسعى مئات الكيلومترات ليبيع أو يشتري جملا، وفي مقدوره أن يبيعه على أطراف بلدته بسهولة، ولا يزال هذا السوق قائما يعج بالثعابين والحشرات، ويمر عليه السائحون والمتطفلون مشدوهين، ويتيح لكل وزير ثقافة يأتي أن يزور هذا السوق ويفكر في تحويله إلى مدينة إبداع للمثقفين، حيث تنعقد اللجان وتعلن التصريحات، ثم يظل السوق قائما كعلامة تعجب ضخمة ترقد في واحات مصر.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات