من المكتبة العربية: أيديولوجيا الأدوار والأرض الطوباوية

   من المكتبة العربية: أيديولوجيا الأدوار والأرض الطوباوية
        

بحث في التفسير الوظيفي لدور لبنان التاريخي والحضاري

عرض: عواطف الزين*

          عن دار الحداثة في بيروت صدر كتاب بعنوان «أيديولوجيا الأدوار والأرض الطوباوية - التقليدات والتسميات والألقاب والشعارات» للدكتور زاهي ناضر استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية «الحاصل على جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي» عن كتابه «أمثالنا الشعبية مدخل إلى دراسة الذهنية الشعبية» عام 1996.

          في كتابه الجديد يقدم د. زاهي مراجعة تاريخية شاملة لمفهوم الأرض الطوباوية، ويفتح الباب واسعًا أمام البحث في مجمل القضايا التي تتعلق بالأرض اللبنانية ووضعيتها التاريخية والاجتماعية، ويلقي الضوء على خصوصيتها الجغرافية ومميزاتها الطبيعية والاقتصادية وتركيبتها الديمغرافية الفريدة في تعدديتها الدينية، والعرقية، والثقافية، ويفسح المجال للتعرف إلى تجارب سكانها وأخلاقهم وأحوالهم وروحانيتهم وعقائدهم وأنماط عيشهم، وحضورهم التاريخي، وتفاعلهم مع محيطهم الحيوي ومع المجتمعات المجاورة أو البعيدة.. كما يعطي إمكانية للنظر إلى أحداث ووقائع شغلت الذهن اللبناني في مراحل زمنية طويلة ومتعاقبة وتمحورت أساسًا حول «كيان الوطن وهويته ووظائفه وشخصيته الحضارية».

لمحة تاريخية

          من وجهة نظر تصنيفية يمكن ضم هذا التحقيق إلى باب «الأدبيات الوطنية» أو الخصوصيات اللبنانية» أو إلى إطار الإنتاج السوسيو - ثقافي أو إلى مجال التاريخ الاجتماعي والديني للبلاد لأن مضمونه العام ينفذ إلى حرم التجربة الحضارية لهذا التاريخ.. أي إلى صميم الواقع المعيش فيشير إلى معطيات أصلها أرض الوطن وقضاياه، وأدواره، ووجوه ثقافته، وديمومة حضوره في هذا العالم وحقيقة شعبه ونظرة هذا الشعب إلى الكون، والحياة والمصير.

          لا بد من الإشارة أولاً إلى أن أدوار لبنان التاريخية بما تنطوي عليه من عوامل قوة، وعناصر ضعف، لم تكن دائما مجرد خيار عفوي أو من النتائج الطبيعية لمقوماته فالبعض منها استند إلى حصيلة تاريخية ممنهجة، من التجارب والخبرات، والتقاليد والأعراف التي تلونت على ضوء الواقع المعيش وخضع من جهة ثانية لشتى أنواع المؤثرات الخارجية والعلاقات الجدلية مع الجوار. أما البعض الآخر فقد فرض على أهل البلاد وأدى في كثير من الأحيان إلى معوقات كيانية وعواقب سلبية.. ومن الملاحظ أن هذا التفسير الوظيفي أو الغائي للكيان اللبناني ينطوي على أبرز مقولات الفكر السياسي والاجتماعي والديني المتداولة في البلاد وتشكل معطياته لحقبة طويلة من الزمن وخصوصًا في المرحلة المعاصرة موضع ترويج إعلامي واسع النطاق، وتحتل حيزًا محوريًا في أدبياتنا الوطنية ونماذجنا الحياتية، وتتخذ بالنسبة إلى بعض المنظرين الأيديولوجيين مقام المنظومة الفكرية، أو الرؤية المستقبلية لمصير لبنان، وشخصيته وحضوره في العالم، على اعتبار أن هذه الرؤية تتوافق مع واقع البلاد وطبيعة تشكلها الاجتماعي وسياق مصالحها وإمكانات تطورها وازدهارها.

          ويستند المؤلف في تفسيره إلى مجموعة من المقولات والمفاهيم والاجتهادات والمسلمات والوقائع التاريخية والحضارية ويزخر بالدلالات الرمزية والمسوغات القيمية والمعيارية، وينبغي أكثر ما يكون في بعض جوانبه التي تحمل طابعًا أيديولوجيًا أو ميثولوجيا، إضفاء معنى تعليلي لقيام لبنان ككيان ووطن.. وقد نجد في هذا التعليل، محاولة لتقديم منظومة معرفية عامة، ليست مقطوعة الصلة عن توجه فلسفي لصياغة ماهية وطنية خاصة ومميزة للوضعية اللبنانية لدعم مقوماتها وإمكان ديمومتها وصمودها في وجه الضغوط والصراعات الأيديولوجية الدائرة محليًا وإقليميًا حول الهوية، والتراث، والأصالة، وإشكاليات الانتماء الحضاري.

المعجزة اللبنانية

          ومن بين الدوافع الرئيسية المحركة لهذا التفسير، الطموح لتأمين مكانة مميزة أو موقع مرموق للبنان في المسار الحضاري للشعوب ويتوق العديد من المفكرين اللبنانيين إلى جعل هذا الموقع معيارا للتفوق والسمو، وسبيلا للوصول إلى مستوى النموذج الحضاري والتمثيل الرسولي.. وذلك من أجل الدخول إلى رحاب التاريخ الإنساني من باب العطاء الحضاري، والإنجازات الكبيرة، ولا يخلو هذا التوق من رغبة في التلميح إلى دينامية الاجتماع اللبناني، وإلى ما يمتاز به من قدرة على الحراك والتطور والتجدد.. بالاستناد إلى العناصر التي شاركت في بنائه تاريخيًا وديمغرافيًا، الأمر الذي دفع البعض إلى وسم هذه القدرة بالمعجزة اللبنانية، أو «التمايزية اللبنانية».

          ويقول المؤلف إن التفسير الوظيفي للوضعية اللبنانية لم يحظ في العديد من نماذجه على موافقة عامة من قبل التيارات الفكرية السائدة في البلاد بل كان عرضة للانتقاد وموضوعًا مثيرًا للجدل والإشكاليات ومجالاً رحبًا لتبادل منظم للآراء المتعارضة.

          ويعبر هذا التعارض بكل وضوح عن حالة الانقسام والخلافات الطائفية، والعقائدية، والأيديولوجية القائمة بين اللبنانيين، ويفصح عن جدلية ائتلافهم وافتراقهم حول هوية الوطن، وتاريخه ومصيره، وعلاقاته بالعالم وبمحيطه العربي، وقد لا يكون هذا التعارض بعيدًا كذلك عن عوامل الصراع التي تتحكم عادة بأنماط الهيمنة الاجتماعية ومراكز القوى السياسية وتتجاذبها المصالح والامتيازات الفئوية وتدخل في اطار التموية الأيديولوجي السائد في البلاد، لأن المهيمنين هم في حاجة دائمة إلى تبرير امتيازاتهم.

مراجع وموروثات

          استند المؤلف في مادة كتابه القيم إلى مجموعة كبيرة من المؤلفات التي تدخل بطريقة أو بأخرى في إطار «التراث اللبناني» لأدب الأدوار أو تسهم في النظر إلى مختلف جوانبه بالتفصيل، والتوضيح في ضوء تاريخ البلاد الحضاري، والثقافي المديد.. كما اعتمد المؤلف على مادة مرجعية متراكمة على مر العصور من أمثال، واقوال، وتقليدات، وتسميات، ومصطلحات، وتعابير شعبية، واوصاف ورموز ووجوه تشبيه وتصوير وتمثيل ضمنتها الأصالة اللبنانية نظرتها إلى الواقع والحياة والمصير وأضاف إليه على نحو خاص مدونة مختارة من الشعارات والألقاب المعروفة لدى عامة الناس.. وهو ما أسماه بالمأثورات العامة لأن مجمل تلك الجوامع يتم تداوله على مستوى مختلف شرائح المجتمع.. وقد توافر للمؤلف مادة غنية بالشواهد شكلت عاملاً مساعدًا لاستكمال تحقيقه عن نظرة اللبنانيين إلى دور موطنهم، وتوقهم إلى طبع هويتهم الروحية بالطابع المقدس، او إلى جعل تاريخهم اقرب إلى التاريخ المقدس.

          إلى جانب اعتماد د. زاهي على مراجع ومصادر مكتوبة من بينها كتب التاريخ العام في لبنان «أدب الرحلات» والرسائل والأطاريح الجامعية والدوريات اللبنانية والبرامج الإعلامية المسموعة والمرئية، والنشرات المحلية، وكتيبات برامج ومهرجانات ومؤتمرات وندوات، تقام على مدار السنة .. إلى جانب أحاديث الناس ومروياتهم من مختلف المناطق اللبنانية.. بالإضافة إلى اللوحات والكتابات الجدرانية والاستذكارية واللافتات الإعلانية وغيرها الكثير من مكونات البيئة الشعبية وموروثاتها وخصائصها ومميزاتها ودلالاتها.. تحت عنوانين رئيسيين: الجانب الدنيوي من الأدوار، ويتضمن هذا القسم عدة فصول من الكتاب ويعالج القسم الثاني وهو القسم الأكبر نظرة اللبنانيين إلى دور بلدهم كضرورة دينية وروحية للعالم على مر التاريخ الحضاري للبشر. باعتباره «أرض الإيمان والأديان، والطوائف»، ويحمل في تجليات كينونته ومعالمه ماهية مقدسة وينطوي هذا القسم أيضًا على عدة فصول، يتناول كل واحد منها وجها من وجوه هذا الدور.

أسس عقلانية

          ويختتم المؤلف كتابه بمناقشة عامة تقيمية لأيديولوجيا الأدوار في لبنان وما يحيط بها من مأثورات، وأقوال ووجهات نظر، خصوصًا أن أكثر هذه الأدوار التقليدية قد أصبح من الماضي، مع تقدم أساليب الحياة والتغيرات الكبرى التي طرأت على الوطن، وعلى محيطه الإقليمي وعلى العالم أجمع، ولابد من التفتيش عن البدائل وإعادة بناء أدوار جديدة على قاعدة صلبة وأسس واقعية، وخيارات عقلانية وعصرية.
-----------------------------
* كاتبة من لبنان.

-------------------------------------------

نَطَقَ البُكا بِهَوىً هُوَ الحَقُّ
                              وَمَلَكتَني فَليَهنِكَ الرِقُّ
فَاِرفُق بِقَلبي يا مُعَذِّبَهُ
                              ظُلماً وَلَيسَ لِظالِمٍ رِفقُ
وَإِذا غَضِبتَ فَلَم تُكَلِّمني
                              ضاقَت عَلَيَّ الأَرضُ وَالأُفقُ

علي بن الجهم

 

تأليف د. زاهي ناضر