جمال العربية

جمال العربية

أبو القاسم الشابي
و "أشواقه التائهة"

بين عامي 1909 و 1934 ومضت كالشهاب الساطع حياة واحد من كبار شعراء العربية ومبدعيها في العصر الحديث، هو الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي. وعلى الرغم من مضي ستين عاماً على رحيله، وهو في عامه الخامس والعشرين، إلا أن اسمه كما يقول عنه ابو القاسم محمد كرو- جامع شعره وآثاره النثرية وناشر ديوانه- "ما يزال يرن اليوم في جميع أنحاء العالم العربي، وشعره أغنية عذبة على كل لسان، ونشيد يتدفق من كل حنجرة، وطرب مؤنس في شفاه عدد غير قليل من المطربين والمطربات".

"يكاد لا يوجد أديب عربي إلا قال كلمة عن الشابي وأدبه أو ينوي أن يقولها، ويوشك أن يعم ذكره وأدبه كل ناد ومجلة ومنبر وصحيفة في كل قطر عربي ".

ويكاد دارسو شعره يجمعون على أنه رائد من رواد المدرسة الحديثة التي يمكن تسميتها بالمدرسة الرومانسية أو الرومانتيكية، وأن شعره يمثل كل خصائصها خير تمثيل، ففيه حب الشاعر وبغضه، وفيه نفوره من الحياة وإقباله عليها، وفيه الحنين إلى عالم مثالي مليء بالفضائل، عامر بالجمال خال من الآلام.

وتعبيره عن أحاسيسه تلك تعبير حر هدفه الأول التصوير الصادق الجميل دون أن يتقيد بما رسمه الأوائل إلا في حدود ما يجب على الفنان من رعاية للغة وأصولها وتجنب للتبذل والإسفاف.

ولقد بدأت شهرة الشابي تذيع وتنتشر، عندما أرسل قصيدتيه "صلوات في هيكل الحب " و"السعادة" إلى الدكتور أحمد زكي أبو شادي لنشرها في مجلته "أبوللو" التي كان يصدرها ومعه نخبة من الأصوات الشعرية الجديدة في مصر تعبيراً عن إحساس شعري جديد ولغة تعبيرية مختلفة وعصر جديد من الشعر يوشك أن يسفر ويتحقق.

ولم يكن يدور ببال أبي شادي أن في تونس موهبة شعرية في حجم موهبة الشابي، ولا نفسا شعريا بهذه الحرارة والتدفق والانثيال الموسيقي البديع.

من هنا كانت صيحته بعد مطالعة القصيدتين: "هذا هو الشعر الذي نشدناه ونشده من قبلنا فضلوا الطريق وضللنا، حتى ظفر به الشابي وحده من دوننا"، وسرعان ما أصبح الشابي وشعره، حديث الناس في كل قطر عربي وحديث جمهور الشعر الذي كان يهتز طرباً ونشوة مع قصيدته صلوات في هيكل الحب:

عذبة انت كالطفولة، كالأحلام

كاللحن، كالصباح الجديد

كالسماء الضحوك، كالليلة القمراء

كالورد، كابتسام الوليد

يالها رقة يكاد يرف

الورد منها في الصخرة الجلمود

والذين يعودون اليوم إلى شعر الشابي، بالقراءة والتحليل والتأمل، يدركون معنى افتقاد الوطن العربي لصـوت شعري بالغ العذوبة والنقاء، شـديد القوة والتأثير، كصوت الشابي. وهي عودة تجعلنا نرى في هذا النموذج الشعري المتميز، حسما لما يدور في الساحة الشعرية الآن: خلخلة في القيم والمفاهيم، وزعزعة واختلاطاً في الرؤى، واضطراباً في الأصول، عند التعرض لمعنى الشعر وحقيقة القصيدة الشعرية وطبيعة موسيقى الشعر ورسالة الشاعر في الحياة، وإنسانية الشاعر وتجلياتها المبدعة، ذاتاً ووجوداً وكوناً فسيحاً مترامي الأطراف والأبعاد.

والقصيدة التي نطالعها للشابي، في هذا العـدد من "العربي " واحدة من قصائده الجميلة فيها حسه الشعري المرهف، وعالمه الشعـوري المفعم بالغربة والتوحد، وتساؤلاتـه الكبرى عن الحياة والوجود، والتصاقه بكل عناصر الطبيعـة من عطور وأنغام وورد، وضياء وفجر وصباح، مختلطة بالغربة والسأم والملل والعزوف. وفي مقاطع القصيدة الخمسة، عزف على لحن أساسي يتردد في فضاء القصيدة ويكسبها روح الشجن ومسحة الحزن ومرارة الاغتراب. وتتجلى لغة الشابي في هذه القصيدة: لغة أنيقة صافية، لا غرابة فيها ولا إعنات، مثقلة بالظلال والإيحاءات، حاملة لأشواق الشابي التي يصفها بأنها تائهة، وأناشيده التي لا يفهمها قومه ولا يلتفتون إلى ما فيها من أصالة ونبوغ وتفرد.

إنه كما يصف نفسه في شعره- نبي الشعر المجهول- الذي بدأ اكتشافه بعد رحيله، والحديث مستمر عن نبوغه وعبقريته طيلة ستين عاماً من الغياب الحضور.

يقول الشابي وهو يتحدث عن شعره:

انت يا شعر فلذة من فؤادي

تتغنى وقطعة من وجودي

فيك ما في جوانحي من حنين

أبدي إلى صميم الوجود

فيك ما في خواطري من بكاء

فيك ما في عواطفي من نشيـد

فيك مـا في عوالمي من ظلام

سرمدي ومن صباح وليد

وهو حديث كاشف دال، يطلعنا على وجدان الشاعر الذائب في شعره، وعلى نظرته لشعره وما يعنيه له من فيض واحتشاد وامتلاء، وهو ما سنجد معادله الحميم في قصيدته: "الأشواق التائهة"

يقول الشابي:

يا صميم الحياة! إني وحيدٌ

مدلج تائه، فأين شروقُكْ؟

يا صميم الحياة! إني فؤادٌ

ضائع، ظامئٌ، فأين رحيقك؟

يا صميم الحياة! قد وجم النّاىُ

وغام الفضا، فأين بروقك؟

يا صميم الحياة! أين أغانيك!

فتحت النجوم يصغي مشوقك؟

***

كنتُ في فجرك الموشح بالأحلام

عطرا، يرف فوق ورودك

حالما، ينهل الضياء، ويُصغي

لكَ في نشوة بوحي نشيدك

ثم جاء الدجى، فأمسيتُ أوراقاً

بدادا، من ذابلات الورود

وضبابا من الشذى يتلاشى

بين هول الدجى وصمت الوجود

***

كنتُ فى فجرك المغلف بالسحر

فضاء من النشيد الهادي

وسحابا من الرؤى، يتهادى

في ضمير الآزال والآبادِ

وضياء يعانق العالم الرحبَ

ويسري في كل خافٍ وبادِ

وانقضى الفجرُ، فانحدرت

من الأفق ترابا، إلى صميم الوادي

***

يا صميم الحياة! كم أنا في الدنيا

غريب! أشقى بغربة نفسي

بين قومٍ لا يفهمون أناشيد فؤادي

لا معاني بؤسي

في وجود مكبّل بقيود،

تائه في ظلام شكّ ونحس

فاحتضنّي، وضمّني لك

كَالماضي، فهذا الوجود علة يأسى

***

لم أجد في الوجود إلا شقاءً

سرمديا، ولذة مضمحلة

وأماني، يغرق الدمعُ أحلاها

ويفني يم الزمان صداها

وأناشيد، يأكل اللهب الدامي

مسراتها، ويُبقي أساها

ووروداً تموت في قبضة الاشواك

ما هذه الحياة المملَّة؟!

***

سأمٌ هذه الحياة معادٌ

وصباح يكر في إثر ليل

ليتني لم أفد إلى هذه الدينا

ولم تسبح الكواكب حولي!

ليتني لم يعانق الفجر أحلامي

ولم يلثم الضياءُ جفوني

ليتني لم أزل- كما كنت- ضوءا

شائعاً في الوجود، غير سجينِ

***

نحيف الجسم، مديد القامة، قوي البديهة، سريع الانفعال، حاد الذهن، تكفكـف رقة طبعه من عذب عاطفته وحدة ذهنه، يراه أصدقاؤه بشوشا، كريماً، وديعاً، متأنقاً، طروباً لمجالس الأدب يحب الفكاهة الأدبية، ويراه من لم يخالطه حييا محتشما، ويعرف منه هؤلاء وأولئك صراحة حازمة قوية، يبديها لخاصة خلطائه في غير ما تحرج متى اجتمع بهم، ويجاهر بها العموم في شعره ونثره، وكان محبا لبلاد، صادق الوطنية، يؤمن بأن لقادة الفكر رسالة إنسانية سليمة حاول جهده أن يحققها في أثناء حياته القصيرة قولاً وعملاً. هذه صورة قلمية للشابي رسمها محمد الأمين الشابي في تقديمه لديوانه- طبعة الدار التونسية للنشر- وهي صورة إنسانية تكمل صورته الفنية والشعرية في وجدان قارئه وتجعلنا نردد بعض هتاف الشابي في قصيدته "يا ابن أمي ":

خلقت طليقا كطيف النسيم

وحرا كنور الضحى في سماه

تغرد كالطير أين اندفعت

وتشدو بما شاء وحيُ الإله

وتمرح بين ورود الصباح

وتنعم بالنور أنى تراه

كذا صاغك الله يا ابن الوجود

وألقتك في الكون هذي الحياه

فما لك ترضى بذل القيود

وتحني لمن كبلوك الجباه؟

وتسكت في النفس صوت الحياة

القوي إذا ما تغنى صداه؟

حتى نصل إلى قوله:

ألا انهض وسر في سبيل الحياة

فمن نام لم تنتظره الحياه

إلى النور فالنور عذب جميل

إلى النور، فالنور ظل الإله!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات