إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

في وداع القرن العشرين

سنوات قليلة وينتهي من تاريخ البشرية أشد القرون غرابة وأكثرها إثارة، القرن العشرون، وسوف تتبارى الأقلام حتى تؤبنه قبل أن تستعد لاستقبال القرن الذي يليه، ولكن سوف يبقى هناك سؤال حائر: ما هو ذلك الحدث الأهم الذي يمكن أن يدل على هذا القرن ويعبر عن روحه، بحيث يمكن أن نطلق عليه حدث القرن العشرين، هل هو غزو الفضاء وتحقيق أكثر أحلام الإنسان رومانسية بالهبوط على سطح القمر، وإن كان الحلم قد اقتصر على إحضار بضع من صخوره؟ أم أنه ذلك التلاحق السريع للتطور، بحيث تتراكم المخترعات وتتضاعف المعلومات في فترات زمنية قليلة،وفي خضم هذا اللهاث صعدت إمبراطوريات وهوت خلال حقب قصيرة، وهو الأمر الذي كان يستغرق قرونا طويلة؟ أم أنه قدرة العلم على النفاذ إلى الخلايا وهي أدق بنية في جسم الإنسان وبحثه الدائم عن تركيب شفرته الوراثية لعله يكتشف ذلك السر الأزلي، سر الموت؟ أم أنه تفجر كل هذه النزعات العدوانية واختراع أسلحة للدمار تفوق كل الكوابيس التي كانت تعاني منها البشرية؟.

لقد ولد قرننا العشرون من رحم القرن التاسع عشر، قرن العقل والتجريب، وولد معه الأمل في أن تصحح البشرية أخطاءها القديمة، مثل طغيان الأقوى والاستعباد والقهر، ولكن الأخطاء أصبحت أكثر حدة، أعطى التقدم العلمي للقوي أسلحة أكثر مضاء، وتحولت عبودية الجسد إلى عبودية الروح، وبدلا من قهر الفرد، قهرت شعوب وأمم بأكملها. لقد كان قرن المتناقضات، اجتمعت فيه كل أشكال البذخ الشديد والفقر الإنساني المدقع، ووفرت التكنولوجيا أسبابا كثيرة للراحة ولكنها نزعت الأمان وجعلت العالم كله يعيش على حافة الخطر، شهد صعود أعظم الأفكار والفلسفات دون أن تحمل الحرية للإنسان، وها هو قرن المتناقضات يوشك أن يمضي تاركا خلفه جروحا مفتوحة، وقد انطلقت قوى التعصب والتطرف من عقالها مثل الأرواح الشريرة التي كانت مختبئة في صندوق "باندورا" كما حدث في الأسطورة القديمة، فماذا يحمل لنا القرن الواحد والعشرون؟.

من بين كل الاكتشافات التي عرفتها البشرية لا يوجد مثل هذا الذي توصلت إليه في عصور ما قبل التاريخ، حدث هذا عندما استطاع الإنسان أن ينتصب بقامته وأن يرفع رأسه إلى أعلى، لقد أتاح له هذا أن يسير بقدمين على الأرض وأن يحرر يديه، أصبح قادرا على التقاط الثمار وصنع الأدوات وصيد الحيـوان، كما أنه عندما رفع رأسه لم يعد منشغلا بموطىء قدميه فقط بل استطاع أن يكتشف ما حوله وأن يمد بصره إلى حافة الأفق، ولقد منحه هذا القدرة على التفكير والتخيل والحلم واستطاع أن يمتلك العالم، إننا الآن في حاجة إلى إعادة هذا الاكتشاف، أن نرفع رءوسنا إلى أعلى، وأن نتخلى عن نظرات التعصب الضيقة والأنانية، لنتطلع إلى الأفق ونحلم بمستقبل القرن القادم.

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات