إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

الحكايات الشعبية في الخليج

          في أواخر العام 1994م التحقتُ بفريق عمل لجمع وتدوين الحكايات الشعبية القديمة التي تسمى في الأحساء وبعض دول الخليج (خَرّوفه) وتُجمَع بـ (خراريف), وذلك بتكليف رسمي من (مركز التراث الشعبي) لدول مجلس التعاون الخليجي في مشروعه آنذاك: (تدوين الحكاية الشعبية).. الذي كان يتخذ من دولة قطر مقرًا له والذي تم إغلاقه أخيرًا - للأسف - بسبب الضائقة المالية التي يمر بها (!!!), أي أن حكومات دول الخليج بإغلاقها هذا المركز الحيوي الذي يرصد ويوثق ثقافة وتراث المنطقة لم تعد بحاجة إليه..! أعود للمفردة السابقة: (خَرّوفه) فقد يفهمها الكثير من ظاهر اسمها أنها مشتقة من (الخرافة), لكن ليس شرطًا أن يكون معنى الخرافة هو ما كان غير واقع أو صحيح أو هو أسطوري. لا.. فالخرافة تحمل أيضًا معنى السرد, والسرت, والإحلال والتفريغ, وما يقترب من دائرة هذه المعاني.

          والخَرّوفة التي كنا نسمعها صغارًا.. انبثقت من حدث حقيقي أو صورة قائمة, أو ظرف عابر, أو موضوع معروف غير خيالي, أو حكمة أريد لها أن تجسد قصصيًا, ثم تم إدخال (البهارات) عليها من هنا, وهناك, عبر توالي الأجيال.

          ولقد واجه كل عضو في الفريق متاعب, ومصاعب في العثور على الشخص الراوي المطلوب أو الموافقة على قيامه بذلك, إلى جانب عملية التدوين والتفريغ من أشرطة (الكاسيت) إلى الورق, وغير ذلك. ولمست أن طريقة عرض القصة تعتمد على روح وثقافة ومعرفة الراوي ومزاجه وكيميائيته.. ولعل أغرب ما في الأمر من الرواة الكبار في السن الذين طلبنا رواية ما لديهم من حكايات شعبية أنهم كانوا يرفضون التعاون معنا ظنًا منهم أننا سنقدم أسماءهم للجهات الأمنية بالدولة لاعتقالهم!!

          ولقد حصل المركز من أعضاء الفريق.. على ثروة هائلة من الحكايات والمواقف والقصص والخيالات, والأساطير والخرافات أيضًا.. وهنا نتساءل: ماذا صنعت إدارة المركز بتلك التسجيلات بعد الإغلاق المؤلم?

          وبالطبع فإن الكثير من هذه الحكايات تتضمن (أمثالاً) شعبية ومواويل و(أبوذيات) وغيرها.

          و(الأبوذيات) جمع (أبوذية), وهي نوع من الشعر الشعبي العربي المواويلي.. معروف في الأحساء والخليج والعراق, تتكون من بيتين كاملين.. ثلاثة أشطار منها تنتهي بكلمة واحدة تعتمد على التورية, بحيث تجد أن الكلمة نفسها تتكرر ثلاث مرات لكن بمعان ووظائف وصور مختلفة, ويُقفل البيتان بكلمة أخرى تنتهي في العادة بياء مشددة وتاء مربوطة كما في المثال التالي, أو بياء منصوبة.. مثلاً:

حبيبي لا تظن الدهر.. سَرنا وعلشانك لدار الغرب سِرْنا
ترانا ما طلع للغير سِرنا سوى دمعي فضحني ونم عليّه


          والطريف في الأمر أن أحد زوار المركز المهتمين بتراث, وتاريخ الخليج وهو من البرازيل, وكان قد سمع وقرأ شيئًا من قصص ذلك المشروع يذكر أن عددًا غير قليل من أحداث وصور تلك القصص يتم ذكرها وتداولها حتى اللحظة في بعض الدول اللاتينية, باختلاف طفيف في (بعض) عناصر تلك القصة أو (إكسسواراتها)!!

          وهذا يدل على أن الثقافة الإنسانية في الذاكرة البشرية والوجدان.. هي واحدة ولا وجود للجغرافيا والمسافات بين جهات وأجزاء الكرة الأرضية! وليس ببعيد - والحال تلك - أن تكون مثل تلك الحكايات موجودة أيضًا.. بصورة أو بأخرى - في الجزء الشرقي, أو الشمالي, أو الجنوبي من (أمّنا) الأرض!

          وقبل ختام هذا المقال أود أن أهمس في أذن الإخوة والأخوات الذين يكتبون المسلسلات, والروايات الاجتماعية والتاريخية للإذاعة والتلفزيون أن يغرفوا, وينهلوا, ويستفيدوا من تلك الحكايات ويحاولوا إنتاجها وتجسيدها لكي يراها الأبناء والأحفاد بعد أن عاشها الآباء والأجداد حدثًا ومعايشة وسماعًا واستماعًا.

 

محمد الجلواح