يانسن وابن العنز... مَن منهما رأى بعيداً؟

يانسن وابن العنز... مَن منهما رأى بعيداً؟

مع تقدم الفلكيين المسلمين في فن الرصد، ومع براعة العرب في صناعة الزجاج، كنت كثيراً ما أسأل نفسي، لماذا لم يكتشف العرب التلسكوب?

تحكي كتب التاريخ الأوربي الحديث، أن التلسكوب (الناظور المقرّب)، اكتُشف بالصدفة في هولندا! ففي مدينة (ميدلبرج) كان أحد أبناء صانعي النظارات يلهو ببعض العدسات في دكان والده المدعو (جان ليبر شاي) فتصادف أن وضع الصبي عدسة أمام أخرى، ونظر خلال العدستين تجاه تمثال ديك يعلو برج الكنيسة المواجهة، فاندهش الصبي حين رأى الديك يقترب منه، ويبدو أمام ناظريه مقلوباً، وصاح الصبي مذعوراً، فجاء أبوه وكرر المحاولة، ثم اهتدى لوضع العدستين في أنبوبة فارغة، في كل طرف منها عدسة، فجاءت النتيجة أفضل، وانتشرت قصة هذه النظارة السحرية Magic Glass بعد اكتشاف ليبرشاي لها سنة 1608 ميلادية.

وقد ادّعى الاكتشاف غير واحد من الهولنديين آنذاك، فزعم (زخاريوس يانسن) إنه هو الذي اكتشف قبل (ليبرشاي)، بينما زعم (جيمس ماتيوس) من ألكمار، أنه صاحب الاكتشاف. المهم، أن الفلكي المشهور (جاليليو) سمع بالقصة، فصنع تليسكوباً يكبّر الأشياء ثلاث مرات، وحمله إلى البندقية ونصبه على البرج، وتوافد الناس للنظر من خلال هذه الآلة العجيبة.

يقول جاليليو: (إن النبلاء والشيوخ، رغم أنهم كانوا طاعنين في السن، فإنهم صعدوا إلى أعلى البرج في خفة شديدة ليشاهدوا السفن التي كان يمكن رؤيتها بسهولة من خلال هذا التلسكوب قبل أن تصل إلى الميناء بساعتين. ذلك أنه كان من الممكن أن تُرى الأشياء كالسفن التي على بعد خمسين ميلاً، وكأنها على بعد خمسة أميال فقط).

ابن العنز

في بلاد اليمن، أواخر القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) ولد عالم عربي كبير هو محمد بن أحمد بن عز الدين الزيدي، المعروف بابن العنز، ولهذه التسمية قصة، فقد روى المحبي في كتابه (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) أن ابن العنز كانت أمه قد ماتت وهو رضيع، فكانت واحدة من العنز ترضعه، بأن تقبل عليه ثم تنبطح له حتى تمكّنه من الرضاع! وفي الشق الثاني من القصة مبالغة، فمن الممكن أن تكون الأم قد ماتت وهو رضيع، فلم يجد له الأهل مرضعة، فكانوا يسقونه لبن العنز نظراً لقلة دسامته ومناسبته للصغار، فسمّوه (ابن العنز) لذلك.. وهكذا لا نحتاج في تعليل التسمية إلى ما يوحي به (المحبي) من أن العنزة كانت تعتني به كأنه أحد صغارها.

ويقول المحبي في كتابه (خلاصة الأثر 3/376) ما نصّه: (وكان من عباد الله الصالحين، وأهل التقوى والعقد، على طريقة أهل الطريقة (يقصد: صوفيا) كثير الصمت، قليل الضحك، لم تسمع له قهقهة، وكان أيام شبيبته يعتزل النساء ويمضي في الشعاب والجبال متخلياً متعبّداً، ثم يعود إلى مكانه بربيع (بلدة يمنية)، ويروى عنه أنه تمكّن من الصنعة (تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب وفضة)، وكانت له فكرة عجيبة عن كل شيء، وعمل ناطوراً يدرك به البعيد، فأبصر من صعدة (بلدة يمنية) إلى ربيع، ومن ربيع إلى صعدة، مولده ببيت الوادي ربيع، من أعمال صعدة، في ثاني ذي القعدة عام 1000 هجرية، وكانت وفاته في فلله (بلدة يمنية) مستقر سلفه، في رابع عشر ذي القعدة سنة 1053 هجرية).

تلك هي ترجمة ابن العنز كما أوردها المحبي، بنصّها، وقد أضفنا - فقط - ما بين الأقواس للتوضيح، وقد أثارت هذه الترجمة بحثاً شائقاً.

أسانيد الحديدي

الدكتور خالد الحديدي واحد من كبار المشتغلين بالتراث العلمي العربي، وهو إلى جانب كونه طبيباً بارعاً، له العديد من البحوث القيّمة في مجال علوم المكتبات، ومجال التراث العلمي.

التقط الدكتور خالد الحديدي عبارة أوردها المحبي وهو يترجم لابن العنز، فأقام عليها بحثاً نشره في كتاب بعنوان: ابن العنز الفلكي الصعدي اليمان، مكتشف الناظور المقرّب (التلسكوب)!

ويستند الدكتور الحديدي في قوله بريادة ابن العنز إلى جملة أمور، تدل في مجموعها على أن الرجل سبق الأوربيين في اختراع التلسكوب، فمن تلك الأسانيد:

أولاً: إن عبارة (وعمل ناظوراً يدرك به البعيد، فأبصر من صعدة إلى ربيع) هي عبارة صريحة تدل على أن ابن العنز قام بالفعل باختراع التلسكوب.

ثانياً: إن بلاد اليمن كانت في زمن ابن العنز منعزلة عن أوربا تماماً، خاصة المنطقة الداخلية التي عاش فيها ابن العنز، فالبواخر كانت هي الطريق الوحيد لاتصال الغرب بهذه المنطقة من العالم، كما أنه لا يوجد طريق سهل ممهّد يوصل إلى داخل اليمن بحيث يمكن السفر بسهولة عن طرق حدودها - وبالتالي فلا مجال للقول إن ابن العنز استفاد من العلم الأوربي في صناعة هذا (الناظور).

ثالثاً: إن ابن العنز، مع كونه معاصراً لهؤلاء الأوربيين الثلاثة، الذين نسب إليهم اختراع التلسكوب (ليبرشاي - يانسن - ماتيوس) فربما يكون قد اكتشفه دون اتصال بينهم، في الوقت نفسه، وهو أولى منهم بهذا الاكتشاف، لأنه - ابن العنز - كان عالماً فلكياً معنياً بالرصد، بينما هم من صانعي النظارات الذين اكتشفوه صدفة، وهو يفوقهم من حيث تراكم المعرفة عن أجداده العرب المسلمين من علماء الفلك وعلماء البصريات وصنّاع الزجاج، وكل هذه المعرفة كانت متاحة أمام ابن العنز، وممهّدة لاكتشافه.

رابعاً: ينقل الدكتور الحديدي عن مقالة منشورة بمجلة المعرفة (الجزء 10 صفحة 1806) قول الكاتب: (كان فن عمل التلسكوب معروفاً للعلماء العرب منذ القرن الحادي عشر الميلادي، ولكن نظراً لقصور التعليم العلمي في العصور الوسطى، فقد ضاعت هذه البراعة، ثم أعيد اختراعه في العقد الأخير من القرن السادس عشر، فقط، ويرجع الفضل في ذلك إلى زخاريا يانسن من مدلبرج، صانع النظارات الهولندي) فيعقب الحديدي قائلاً: (ولعل الكاتب نسي أن ذلك كان في العقد الأول من القرن السابع عشر (1608 ميلادية) مما يجعله متأخراً عن عالمنا ابن العنز).

وهكذا يلجأ الدكتور الحديدي لكل الأسانيد المؤيدة لفكرته، وهو ينهي كتابه بقوله: (لقد عرف عالمنا (ابن العنز) تراث أجداده العرب، عرف الزجاج وربما صنعه، فلقد كان عالماً بالصنعة يستخلص الفضة، وعرف العدسات وكتب ابن الهيثم، وعرف نظريات علم الفلك وألّف كتاباً عن الربع الفلكي المجيب، واستعمله في الرصد، ودرس أثر العدسات المقرّبة والمكبّرة في كتب ابن الهيثم التي وصلت إليه بالعربية قبل أن يترجمها الغرب إلى اللاتينية، وقبل أن تصل إلى جامعة (بادوا) أو (البندقية) ونظر في السماء، ورصد الكواكب، وكتب عن الكسوف والخسوف، والشهور والمواقيت، وبرع في العلم والعمل، فكانت له هذه العنز (المرصد) التي أقامها فوق أحد جبال صعدة، يرصد منها الكواكب ويؤلف الكتب، فليس بغريب إذن أن يضع عدستين، واحدة أمام الأخرى، وأن يصنع - كما يقول المحبي - (ناظوراً عجيباً يدرك به البعيد).

شكوك باقية

لاشك أن آراء الدكتور الحديدي جديرة بالنظر والاعتبار، وفيها نزعة استكشافية جريئة في مجال تاريخ العلوم، ومع متانة بحث الدكتور الحديدي، فلاتزال بعض الشكوك مثارة في نفسي، فنحن من حيث ندرس تاريخ العلم، فإن الغاية لا تكون مجرد إثبات ريادة العلماء العرب في كل شيء، وإنما الغاية هي المعرفة وإعطاء كل ذي حق حقه، فالعلماء العرب والمسلمون لهم في كل مجال سبق وريادة، وإن كان الغرب اليوم يسعى لطمس هذه الريادة لصالح علمائه - في محاولة لطرحنا خارج التاريخ - فإننا لن نكون أقل تعسّفاً من الغرب المعاصر، إذا سارعنا بقبول قضايا الريادة دون فحص، من هنا نقول إن بحث الدكتور الحديدي لاتزال بعض الشوائب عالقة به، ولايزال مجال الاجتهاد العلمي في قضيته مفتوحاً، فهناك - على ما قرره - تلك الشكوك:

فيما يخص عبارة المحبي القائلة إن ابن العنز (عمل ناظوراً يدرك به البعيد)، نقول إنها عبارة مفردة، لم ترد عند مؤرخ آخر، ولم ينقلها غير المحبي، ولو كان الأمر صحيحاً لتناقلتها الأقلام، لأهميتها، أو شاع خبرها، وإذا كان ابن العنز قد توصل بالفعل إلى اختراع هذا (الناظور) لكان قد وضعه في رسالة من رسائله أو كتاب، كما فعل غيره من العلماء السابقين عليه، خاصة أنه كان صاحب مؤلفات، وهذا الأمر يدعونا إلى التنقيب وراء مؤلفات ابن العنز المخطوطة التي لم يُنشر منها شيء حتى اليوم، فربما نجد ما يؤكد وصوله إلى هذا الاختراع، أما الاعتماد - فقط - على ما يذكره المحبي، فهذا أمر لا تطمئن النفس إليه، خاصة أن المحبي أورد الخبر ضمن كلامه عن (كرامات) ابن العنز التي أولع أهل القرن الحادي عشر بروايتها، وكانت في الغالب مصنوعة! وإلا، فنحن إذا قبلنا أخبار المحبي التي أوردها في تاريخه (خلاصة الأثر) فنحن - إذن - أمام حشد ضخم من الأخبار التي أقل ما توصف به أنها: في حاجة إلى تمحيص.

إن تاريخ حياة ابن العنز غير مضبوط، فالمحبي يقول إنه ولد سنة 1000 هجرية، ومات سنة 1053 هجرية، بينما الدكتور الحديدي يقرر أنه ولد ما بين سنة 960-965 هجرية، لأن أباه مات سنة 975 أثناء غزو الترك بلاد اليمن للمرة الثانية بقيادة مصطفى باشا، وعليه يستنتج الدكتور الحديدي أن وفاة ابن العنز تكون ما بين سنة 1015-1020 هجرية، مادام الرجل قد مات (شيخاً صغيراً مثل جده) وهذا، فيما أرى - أمر يحتاج إلى مراجعة وضبط، إذ لا تقوم على تواريخ الدكتور الحديدي بيّنة، بل هو يعترف في كتابه بأن (ما أذكره عن ابن العنز مؤكد، موثّق في كتب التاريخ، لا يكاد يحتاج إلا إلى تحقيق للمولد أو الوفاة)، هذا مع أن قضية المولد والوفاة هنا قضية حاسمة، لأننا إذا أخذنا بما ذكره المحبي، فسيكون مولد ابن العنز سنة 1000 هجرية يوافق سنة 1591 ميلادية، ويكون يوم وفاته سنة 1053 هجرية، موافقاً لأحد أيام سنة 1643 ميلادية، وهذا يعني أنه توفي بعد اكتشاف التلسكوب في أوربا (سنة 1608) بفترة طويلة لا تجعل له ريادة في الأمر.

نحن نتفق مع رأي الدكتور الحديدي حول (عزلة اليمن) في عصر ابن العنز، ولكن، هل كانت هذه العزلة تامة بحيث تمنع كل اتصال بين اليمن والعالم الخارجي? لقد جاءت جيوش العثمانيين غازية لليمن أكثر من مرة - قبل مولد ابن العنز بقليل، أو في سنوات طفولته - والعثمانيون كانوا على احتكاك بأوربا، وبين الفريقين صلات وحروب، فما الذي يمنع أن يكون العثمانيون قد تناقلوا خبر الاكتشاف أو نقلوه إلى اليمن? أو يكون البحّارة من غير العثمانيين قد فعلوا ذلك!

- أما بخصوص تلك الفقرة التي نقلها الدكتور الحديدي عن مجلة المعرفة، أعني تلك القائلة (كان فن عمل التلسكوب معروفاً للعلماء العرب منذ القرن الحادي عشر الميلادي)، فهي محض قول لا يستند لدليل، صحيح أن الفلكيين العرب عرفوا في القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس الهجري) آلات أعقد من (التلسكوب)، كالاسطرلاب، لكنه لم تقم بيّنة على معرفتهم للتلسكوب ولم تصفه كتبهم أو أخبارهم المدوّنة بكتب التاريخ - وما أظن أن فضل العلماء العرب سوف يزداد، إذا نسبنا إليهم ماليس لهم، بل إنهم لا يرضون بذلك.

وبعد... فلايزال ملف القضية - كما أسلفنا - مفتوحاً، ولايزال الأمر بحاجة إلى جهود باحث عربي مخلص يستكمل درس هذه المسألة، وإنني أنصح هذا الباحث - الذي، ربما، لم يولد بعد - أن يسلك طريقين، الأول هو التنقيب في تراث (المراصد الفلكية) التي أقامها العرب والمسلمون، وفحص مخطوطات الأرصاد، والثاني هو تتبّع تلك العبارة الخطيرة، المقتضبة، التي وردت في كتاب الخوارزمي المتوفى 387 هجرية (مفاتيح العلوم) حين يعدد الآلات المستخدمة في علم الفلك، فيذكر من بينها:

ذات الحلق، وهي حلق متداخلة تُرصد بها الكواكب!!

 

يوسف زيدان