وفاق وفراق وتبادل منفعة إبراهيم عبدالمجيد

وفاق وفراق وتبادل منفعة

الرواية والفيلم

منذ البداية والعلاقة بين الرواية والفيلم علاقة عناق حقيقي ، ولم تحدث المفارقة إلا في وقت متأخر مع موجات السينما الجديدة وظهور سينما المؤلف، وهو هنا المخرج بالطبع " وحتى في هذه الحالة لم يكن الفراق كاملا

كانت الشرائط المصورة في السنين الخمس الأولى لفن السينما، مجرد أشياء تتحرك، وتعرض على الجمهـور في برامج مسارح الفودفيل ولا شيء غير ذلك، حتى جاء ساحر، ساحر حقيقي محترف، هو الفرنسي ( جورج ميلييه) وأدخل الشرح على الفيلم ( كتابة تظهر على الشريط تشرح للمشاهد القصة وتفسر الحوادث) ، فانفتح الطريق أمام الحكاية في السينما ، وما دام لدينا حكايات شعبية وتاريخية ودينية وأدبية، فلتكن هي المنبع الأول لهذا الفن الذي يتقدم بخطى سريعة. ميلييه نفسه صور أفلام " سندريلا، و"رحلة إلى القمر" و " قضية دريفوس".

كان هناك تقدم في صناعة الشريط السينمائي إذن، واكتشاف إمكانات جديدة وطرق جديدة لتسهيل مهمة المشاهد وإمتاعه، ولم يكن يعيب أداء ذلك الوقت غير الطريقة المسرحية والمناظر المسرحية التي سيتم التخلص منها نهائيا على يد مخرجين نابهين من نوع " د. و. جريفيث "، " ق . و . مورناو" " إيزينشتين". وحتى يظهر المخرجون الروس العظام ( ايزينشتين- بودوفكين- فيرتوف ) بعد الحرب الأولى وانتصار الثورة البلشفية، ستكون السينما في أمريكا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا قد قطعت شوطا بعيدا في تطوير الشريط السينمائي، سواء من ناحية الطول، فيلم كوفاديس الإيطالي الصامت الذي ظهر عام 1912 استغرق عرضه ساعتين، وفيلم "مولد أمة" لجريفيث الذي عرض عام 1915 ، استغرق عرضه ثلاث ساعات وعبر هذا الوقت، من بداية القرن حتى نهاية الحرب الأولى ، ظهرت شرائط مصورة عظيمة تحمل أسماء روايات أدبية وتاريخية ودينية، ففي فرنسا ظهرت أعمـال لساردو وأناتول فرانس وفيكتور هوجو وأدمون روستان وجوته. أعمال، مثل " توسكان" و"فيدرا "و"الرداء الأحمر" وفي إيطاليا "كرفاديس" و"آخر أيام بومباي ".. لقد بدا أن هذا الفن الجديد هو الطريق الحقيقي الذي يمنح أعمال الأدباء خلودها، هكذا قالت " سارة برنار" حينما دعيت لتمثيل فيلم "غادة الكاميليا"، وكان عمرها خمسا وستين سنة. قالت: "هذه هي فرصتي الوحيدة للخلود". وبالطبع فرصة غادة الكاميليا كشخصية روائية.. وكمـا قلت، كان على هذا الفن الجديد أن يطور من إمكاناته ، وهو ما فعله في أمريكا بعبقرية، جريفيث الذي وضع الأسس الأولى لتكنيك الفيلم السينمائي، سواء من ناحية الاستخدام الأمثل للمونتاج، أو لوضع الكاميرا، أو اللقطات المختلفة وما تؤديه من معان مختلفة، وهكذا حدد جريفيث بشكل قاطع أن السينما فن لا يمكن أن يكون " المسرح " ، بل قطع كل صلة به في الأداء أو المناظر، ولا يمكن أن تكون الرواية. لكنه لم يستطع أن يقطع كل الصلات، بل على العكس ساعد السينما على استيعاب فن الرواية، ولكن بطريقتهـا، بلغتها، بالصورة المطلقة .

ولادة السينما التاريخية

بعد الحرب الأولى استقرت السينما كتجارة رابحة، وأصبحت الشركات تراعي أذواق النظارة، وكانت الأفلام المأخوذة عن نصوص أدبية تجد رواجا كبيرا، وحمل لواء التقدم في فن السينما مدرستان هما المدرسة الألمانية، والمدرسة السوفييتية، بشكل خاص. ففي ألمانيا تكتلت الأستوديوهات الألمانية في مؤسسة واحدة تحت اسم "أوفا " أنتجت سلسلة من الأفلام جعلت الفيلم الألماني هو أقوى أفلام العالم.

كان على رأس هذه الأفلام تلك التي تقوم على قصص تاريخية أو شعبية أو أسطورية، ولمع في هذه الأفلام مخرجون مثل أرنست لوبيتش وفريتن لانج. ومن المفارقات الطريفة أن الكثير من هذه الأفلام كان يصدر إلى إنجلترا وفرنسا وأمريكا باعتبارها من إنتاج السويد والدانمارك وكانت تجد صدى طيبا في تلك الدول التي كانت الحرب الأولى قد انتهت بانتصارها على ألمانيا.

في نفس الوقت، العشرينيات، كانت السينما السوفيتية تقدم إسهاماتها الفنية على يد ايزنشتين وبودوفكين وفيرتوف وكوليشوف، وتستوعب روايات مثل " الأم " لجوركي، وقصص " جاك لندن" و" عشرة أيام هزت العالم " عن استيلاء البلاشفة على الحكم، وقصص الثورة في كل مكان وأبرزها حكاية "المدرعة بوتمكين " إبان ثورة 1905 في بطرسبرج، التي قدم فيها ايزنشتين إسهامه الفني الكبير في التصوير والمونتاج بأساليبه الجديدة المبتكرة، ليخلص الفن السينمائي إلى الصورة كلغة وحيدة، في نفس الوقت الذي يقدم فيه ملحمة حقيقية. ومنذ هذا الوقت تأكد أن الفن السينمائي فن قائم بذاته حتى وهو يستمد موضوعه من فن آخر. لكن ذلك لم يعن تخليه عن هذا الفن الآخر. لقد ظلت حاجته إليه شديدة ، وعندما نطقت السينما على استحياء في فيلم" مغني الجاز"عام 1927، ثم نطقت بتمكن في فيلم "أضواء المدينة"عام 1938 انطلقت السينما أكثر لتستوعب مئات من الروايات العالمية. وبدا من الصعب أن توجد رواية جيدة ولا تتحول إلى شريط سينمائي..

وإذا انتقلنا في الوجه الثاني، للمقال في الحقيقة، لأن مسألة الفيلم والرواية، من الناحية الفنية، واحدة، فسنجد أن أول فيلم عربي قام على رواية عربية كان فيلم " زينب " الصامت الذي أخرجه محمد كريم عام 1930، عن رواية " زينب " الشهيرة لمحمد حسين هيكل. كان كريم نفسه هو الذي أعد السيناريو السينمائي، وكان ممثلوه سراج منير وبهيجة حافظ وزكي رستم ودولت أبيض. والطريف أن محمد كريم أعاد إخراج الفيلم مرة ثانية عام 1952 بتمثيل راقية إبراهيم ويحيى شاهين. وهذا الفيلم الأخير هو المعروف عند الجمهور، فالتلفزيون المصري يتذكره بين حين وآخر ومن الطريف مرة ثانية أن محمد كريم فكر في أن يعيد إخراج الفيلم نفسه لكن ملونا، ولم يفعل. وحسنا فعل!! . على أي حال كان الفيلم الثاني المأخوذ عن أصل روائي، بعد الفيلم الأولي بعشرين سنة، أقصد فيلم " ليلة غرام " الذي أخرجه أحمد بدرخان، عن رواية " لقيطة" لمحمد عبدالحليم عبدالله، وقامت بالتمثيل فيه مريم فخر الدين مع عباس فارس وحسين رياض ومحمود المليجي. بين هذين الفيلمين كان هناك " ظهـور الإسلام " عن قصص " الوعد الحق " لطه حسين، و"سلامة" لأم كلثوم عن إحدى قصص باكثير. لم تكن هناك أفلام عن روايات مشهورة ، وكانت هـناك قصص كثيرة يكتبها محمود كامل المحامي للسينما وكان الاقتباس هو المسيطر على القصص السينمائية ، ويشكل أغلب الإنتاج. لقد كان الاقتباس يتم من القصص العالمي، وأحيانا من السينما العالمية مباشرة . وهذه ظاهرة استمرت مع السينما المصرية ، بل وعادت إليها بقوة هذه الأيام.

والاقتباس في حد ذاته ليس جريمة، ولكن مشكلته تبدأ حين يفشل المقتبس في إضفاء الجو المحلى على السيناريو أو القصة الأجنبية، وهو هنا الجو المصري ، أي حين يفشل المقتبس في تمصير النص الأجنبي المكتوب أو المصور. ولقد كان هذا مع الأسف مصير معظم الأفلام المقتبسة. المشكلة الثانية حين يغفل المقتبس ذكر اسم صاحب القصة أو الفيلم الأصلي. ولقد كان هذا يحدث غالبا والآن يعود ليحدث بقوة وإصرار!!. الاقتباس في الفترة ما بين فيلم "زينب "، وفيلم " ليلة غرام " كان له مشروعيته. فالفن السينمائي فن أجنبي وافد وجديد وفن القصة والرواية أيضا أجنبي وافد وجديد. وفي الوقت الذي كان يمكن فيه صنع أفلام كثيرة وبسهولة ، لم يكن ممكنا صنع كتاب قصة ورواية كثيرين وبسهولة!. الأدباء. عادة لا يتم صنعهـم أذن كان الاقتباس حلا سليما لندرة النصوص الروائية، لكنه تم في الأغلب بنفس الطريقة التي تم بها اقتباس الآلات والحيل السينمائية.

لقد تم الاقتباس من كل أدب ممكن وكل سينما ممكنة، وخاصة السينما والأدب الأمريكيين، والسينما والأدب الفرنسيين، ثم الأدب الروسي، دوستويفسكي وتولستوي فقط - وهناك قصص وأفلام تم اقتباسها أكثر من مرة من قبل أكثر من مخرج، ويمكن القول إن كل مخرجينا الكبار أخرجوا بشكل أو بآخر قصصا مقتبسة، والخلاف فقط في التفاوت في عدد الأفلام.

لكن يخيل لي أيضا أن ندرة النصوص المصرية، لم تكن السبب في إهمالها، فتلك النصوص النادرة، أو القليلة، كانت تصلح سينمائيا بشكل كبير، وهو نفسها النصوص التي التفتت إليهـا السينما في الخمسينيات والستينيات.يخيل إليّ أن الرقابة على الأفلام قد لعبت دورا في استبعاد الرواية المصرية الواقعية بصفة خاصة، لم يكن ممكنا أن توافق الرقابة على روايات مثل " عودة الروح " أو " يوميات نائب في الأرياف " للحكيم، ولا على روايات طه حسين وموضوعاتها الاجتماعية المثيرة، وبالطبع لم يكن ممكنا الموافقة على روايات نجيب محفوظ، مآسيه الاجتماعية في ذلك الوقت، ولا قصص يحيي حقي، هذه كلها أعمال شديدة الالتصاق بالطبقات التحتية من الشعب. تخلو من الباشا خفيف الدم، والمليونير الذي يهوى البنت الفقيرة، إلى آخر خرافات السينما المصرية في ذلك الوقت.

جذب الأدباء للسينما

قفزت الرواية بعد الفيلم الثاني " ليلة غرام" إلى السينما بقوة وكثافة، ولم يكن السبب طبعا نجاح فيلم " لقيطة " فلا أظن أنه صادف نجاحا من أي نوع ولا أن الأدباء في مصر قد ازدادوا إلى الدرجة التي لم يعد ممكنا فيها إغفالهم، لكن حدث التحول السياسي الكبير بقيام ثورة يوليو، وظهر نوع جديد من المخرجين وجد في المناخ الجديد فرصة مناسبة لمواهبه، وتطابقا مع أفكاره عن العدل والحرية والمساواة، يوسف شاهين وعاطف سالم وتوفيق صالح، وعز الدين ذو الفقار، كما وجد مخرج أسبق قليلا مثل صلاح أبو سيف الأرض مهيأة أكثر لأفلامه. وحكومة الثورة نفسها عملت على تشجيع هذا الفن فقدمت وزارة الثقافة لأول مرة جوائز لأحسن الأفلام عام 1955، وتكرر الأمر أكثر من مرة بعد ذلك حتى أنشئت، مؤسسة السينما - بدءا من عام 1963.

وجدير بنا هنا أن نعزو الفضل لأصحابه ، ونشيد من إخراج صلاح، أبوسيف. بدور صلاح أبوسيف على وجه الخصوص في الالتفات إلى الأعمال الأدبية. فمنذ وقت مبكر سعى للتعاون مع نجيب محفوظ، الذي أتقن حرفة السيناريو على يديه وكتب له عدة سيناريوهات أفلام مثل " المنتقم " و" ريا وسكينة " و" الفتوة" قبل أن يكتب له سيناريوهات لعدد من روايات إحسان عبدالقدوس، كذلك كان صلاح أبوسيف وراء جذب أمين يوسف غراب للكتابة للسينما "شباب امرأة"، عام 1956. وعلى منوال صلاح أبوسيف سار توفيق صالح فاستعان بنجيب محفوظ ليكتب له سيناريو "درب المهابيل " واستعان عز الدين ذو الفقار بأمين يوسف غراب "رنة الخلخال" سنة 1955 وهكذا إلى جانب الظروف الجديدة التي تحدثنا عنها، وذيوع شهرة عدد من الأدباء على رأسهم يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وجدت السينما نفسها مدفوعة للأعمال الأدبية المصرية فشهد عام 1957 أفلاما عن روايات " لا أنام " و" الوسادة الحالية "، و" رد قلبي " الأولى والثاني لصلاح أبو سيف والثالث لعز الدين ذو الفقار. ونلاحظ هنا أن عز الدين ذو الفقار استعان أيضا بنجيب محفوظ في كتابة السيناريو مع على الزرقاني ، وفي عام 1958 أخرج صلاح أبوسيف " الطريق المسدود " عن رواية إحسان عبدالقدوس وانفرد نجيب محفوظ بكتابة السيناريو، وعام 1959 ظهرت روايات " بين الأطلال " للسباعي و" أنا حرة "لإحسان "و"دعاء الكروان" لطه حسين في أفلام لعز الدين ذو الفقار وصلاح أبوسيف وبركات على التوالي ويظهـر اسم نجيب محفوظ في سيناريو " أنا حرة " مع المخرج ، أما سيناريو " دعاء الكروان " فيقوم به أديب يعد من ألمع من عملوا بالسينما، ألا وهو يوسف جوهر.

وشهد عام 1960 أول فيلم روائي عن رواية لنجيب محفوظ، الذي عمل في السينما كثيرا من قبل كما رأينا، إما مقدما الفكرة أو السيناريو، كان الفيلم الأول من رواياته هو " بداية ونهاية "لصلاح أبو سيف وفي نفس هذا العام ظهر " في بيتنا رجل "لبركات عن رواية إحسان الشهيرة و"لا تطفئ الشمس "لصلاح أبو سيف عن رواية لإحسان أيضا. وجاءت السنوات التالية بانطلاق القطاع العام في السينما واندفعت السينما أكثر وراء روايات كبار الأدباء، وأضيفت لإحسان والسباعي ومحفوظ وطه حسين أسماء لطيفة الزيات " الباب المفتوح " وعبدالحميد جودة السحار، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس ، ومصطفى محمود " المستحيل " وعبدالحليم عبدالله، وثروت أباظة، وفتحي غانم، وصلاح حافظ " المتمردون " ويحيي حقي ، وصالح مرسي " زقاق السيد البلطي " وعبدالرحمن الشرقاوي - لاحظ أنني لا أذكر أسماء الأفلام المأخوذة من الروايات لجميع الكتاب، إنما أذكر فقط ما أتصور أنه قد تعرض للنسيان لقلة أعمال أصحابها الروائية أو قلة ما تم تحويله منها سينمائيا - وأضيف لهذه الأسماء في السبعينيات أسماء محمود دياب " الظلال في الجانب الآخر " وإسماعيل ولي الدين، ونجيب الكيلاني، " ليل وقضبان "ومجيد طوبيا وصـبري موسى وسعد مكاوي "شهيرة".. وهكذا

ونعود لنذكر أن ذلك لا يعني أن السينما استغنت بالرواية عن التأليف مباشرة للسينما أو عن التمصير. ولم يحدث أن تجاوز الإنتاج المأخوذ عن أصل روائي عشرة أفلام أو حتى وصل إليها في أي عام من الأعوام، من أصل خمسين أو ستين فيلما تنتجها السينما المصرية - كانت - كل عام.

الحصاد

على المستوى العالمي ، استوعبت السينما أشهر الأعمال الروائية العالمية، وقدمت للرواية خدمة جليلة إذ أوصلتها في الإنسان العادي في كل الدنيا برغم اختلاف اللغات وهكذا مثلا دخل الأدب الروسي في ثقافة الرجل العادي في بلاد كبلادنا، ولقد دخل أولا عن طريق الأفلام الأمريكية ( أنا كارنينا - الأخوة كرامازوف - تاراس بولبا.. الخ) وأعطت الرواية للممثلين فرصه عظيمة لأداء أدوار تاريخية (القياصرة والأباطرة والقادة العسكريين.. الخ) وهكذا اختصرت السينما للمشاهد الزمان والمكان، ووفرت كل شيء في الزمن الحاضر، ولم يخل الأمر من متعة كبيرة للمؤلفين المعاصرين للروايات الأدبية وهم يرون أبطالهم يتحركون أمامهم على الشاشة. قليلون هم من على شاكلة جابرييل جارثيا ماركيز الذي رفض تحويل رواية " مائة عام من العزلة" إلى فيلم سينمائي حتى لا تكون هناك صورة نهائية لأبطالها... ولقد امتد عمل السينما العالمية ليشمل أنواعا أخرى من الروايات، نظرا للتقدم التقني الذي يساعد على ذلك واقصد به الروايات البوليسية، وروايات الاستخبارات والمغامرات، وروايات الخيال العلمي التي حققت فيها السينما نجاحات مذهلة.

لقد استقر منذ وقت مبكر في الغرب أن السينما فن قائم بذاته لا يخضع لمقتضيات العمل الأدبي إلا إذا رأى كاتب السيناريو ضرورة لذلك "إن عمل سيناريو عن كتاب يعني تغيير الثاني - الكتاب - إلى الأولى - السيناريو - وليس مطابقة أحدهما للآخر. أنهما شكلان مختلفان تفاحة وبرتقالة". لذلك تقدمت السينما في تقنياتها كما تقدمت الرواية بدورها في تقنياتها ، ولم يخل الأمر من تبادل المنفعة. لا يمكن فصل أفلام لوي بونويل السيريالية عن السيريالية كحركة تجديد فني وأدبي وجدت لها مجالا كبيرا في التصوير و الشعر، ولقد كان بونويل أحد عناصر الحركة السيريالية النشطين ، وربما كانت أفلامه هي الرواية السيريالية التي لم يكتبها السيرياليون. كما لا يمكن فصل أفلام الموجة الجديدة الفرنسية في الستينيات عن حركة الواقعية الجديدة في الرواية، وكما وجدت أفلام الشوارع الألمانية نقاط التقاء مع حركة الكتابة التعبيرية بين الحربين، وجدت الواقعية الإيطالية نقاط التقاء بعد الحرب الثانية مع كتاب مثل البرتومورافيا.. وفي كل الأحوال ظل مستقرا أن السينما فن آخر غير الرواية. لذلك حينما انفجر في العالم كله تقريبا منذ الستينيات سينما المخرج كنجم وحيد، لم يثر ذلك غضب الأدباء ولا الكتاب، ولم تقطع السينما علاقتها بالأعمال الأدبية القديمة والمعاصرة .

اختلف الأمر قليلا في حالتنا. ويمكن على الجملة أن نقول إن مخرجينا ، منذ حركة الالتفات الواسعة للرواية ، وهم يحاولون بقدر الإمكان الإحاطة بالنص الأدبي مدركين أن السينما لا يمكن أن تحقق، لهم ذلك في كل وقت إلا في نصوص معينة مثل "بداية ونهاية" لمحفوظ. بالنسبة لنصوص إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي لم يكن الحذف منهـا مشكلة، فهـي نصوص قابلة للاختصار باستثناءات قليلة ( في بيتنا رجل مثلا لإحسان، والسقا مات للسباعي وكلاهما تحول إلى فيلم رائع لم يبتعد عن الرواية كثيرا) كذلك عبدالحليم عبدالله، لكن الأمر اختلف مع قصص محفوظ وفتحي غانم ويوسف إدريس.

ولم يكن ممكنا الوصول إلى روح العمل الأدبي وأبعاده دائما ، ووفق بعض المخرجين في التعامل معه هذه النصوص الصعبة لتعدد أبعادها وطبقاتها الإنسانية، ولم يرفق أكثرهم.

وجاء عدم التوفيق بسبب إمكانات المخرج نفسه، وخبرته السينمائية، أو رؤيته للفن السينمائي بوجه عام.

على أن هذه النصوص بدورها أفادت هذا النوع من المخرجين ، وربمـا دون إرادته أو رغما عنه. من يستطيع أن يقول إن حسام الدين مصطفى الذي أخرج " السمان والخريف " و" الطريق " و" الشحاذ" - لنجيب محفوظ هو نفسه مخرج " الشياطين الثلاثة " ؟.

وكما أتاحت السينما العالمية للممثلين القيام بأدوار تاريخية غير عادية ، أو أدوار إنسانية خالدة مثل " أنا كارنينا " و" المواطن كين " و" سكارليت أوهارا" في ذهب مع الريح " وعشرات غيرها، أتاحت السينما المصرية بتحولها إلى فن الرواية، للممثلين المصريين القيام بأدوار راقية وباهرة من الناحية الإنسانية والفنية أيضا. والمتفرج العادي لا ينسى شخصيات مثل " سعيد مهران "- اللص والكلاب، و" زهرة "- ميرامار و" حميدة "- زقاق المدق، و" إبراهيم حمدي "- في بيتنا رجل، و"عزيزة" - الحرام و" عتريس "- شيء من الخوف" و" السيد أحمد عبدالجواد "- بين القصرين و" هنادي "- دعاء الكروان وعشرات من الشخصيات الروائية صارت مثلا - ومثلا أيضا - بين الناس على الأقل لبعض الوقت،. بل لقد بلغ بعض الممثلين عن التفوق إلى الدرجة التي قطع بها الطريق على أي ممثل فيما بعد أن يقوم بالدور بنفس الاتفاق.

السينما والرواية والزمن

ربما كان ما مضى هو أبرز آثار السينما حينما اتجهـت للأعمال الأدبية، وأحب أن أضيف أن هناك فكرة شائعة تقول إنه كان من آثار السينما في الرواية تهشيم الزمن الذي يظهر في السينما فيما يسمى بالفلاش باك، أو الاسترجاع في لغة الأدب. والحاصل هو العكس فتهشيم الزمن هو بالأساس إنجاز أدبي أخذ شكله العظيم في رواية "عوليس " لجيمس جويس، وتحقق في روايات فوكنر وفيرجينيا وولف، كما إن المونتاج السينمائي سبقه في التاريخ المونتاج الأدبي- إذا جاز التعبير- ورواية مثل " الحرب والسلام " لتولستوي، وهي من روايات القرن التاسع عشر، شهدت أكبر عملية مونتاج - قبل ظهور المصطلح السينمائي طبعا - حيث لا يتوقف فيها القطع والانتقال من أسرة إلى أسرة ومن شخصية إلى شخصية ومن مكان إلى مكان، كل ذلك في إطار من الوحدة، وحدة الصراع بين الأمتين الفرنسية والسلافية، بين جيوش نابليون وجيوش الروس. يقول الناقد الأمريكي " اندروساريس" : " لو كان أرسطو حيا لكتب (فن الشعر) الجديد عن السينما بادئا بفيلم جريفيث (مولد أمة) وقال عنه إنه يحدد بدقة ماهـية الفيلم السينمائي كعمل عن العديد ومن القطع التي توجد بينهـا فكرة مركزية" .

لكن السينما أيضا أعطت الرواية بعض الملامح وهناك روايات تكتب الآن كمشاهد مستقلة، كما أن السينما أعطت الأدب الروائي قيمة الاقتصاد، وقيمة الحذف قبل الإضافة، وأعطته أيضا جمهورا جديدا.

وفي النهاية أقول ما قاله غيري من نقاد السينما إن السينما المصرية لم تستطع أن تستمر في هذا الطريق الجديد، طريق الرواية الأدبية، لأنها حتى وهي تفعل ذلك، كانت تنتج الغالبية العظمى من أفلامهـا أفلاما ساذجة تجارية، لذلك جاءت جماعة السينما الجديدة عام 1968، وهذه الجماعة هي التي قدمت مخرجين مثل أشرف فهمي وسعيد مرزوق وعلى عبدالخالق وعلى بدرخان، ويمكن أيضا أن نعتبر من جاء بعدهم مثل محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة وداود عبدالسيد ومحمد القليوبي ورضوان الكاشف امتدادا لهذه الجماعة بشكل أو بآخر.. لكن بعض هؤلاء سعوا إلى خلق سينما مستقلة - وجديدة - ومن سعيهم ركنوا إلى فكرة سينما المخرج، فنجحوا في أفلامهم سينمائيا بلا جدال، ولكنهم أهملوا الرواية الأدبية كجنس أدبي يمكن أن يؤدي إلى فيلم ناجح، هذا في الوقت الذي تقدمت فيه الرواية وتسيدت المشهد الأدبي في مصر والعالم العربي وأصبح لا يمر العام إلا وقد صدرت على الأقل عشرون رواية مصرية وعربية ، لكن مجمل ما قدمه هؤلاء المخرجون الممتازون من أفلام قائمة على روايات أدبية لا يكاد يصل إلى خمسة أفلام. أقف عند هذا الحد ولا أتطرق إلى الرواية العربية والسينما في البلدان العربية، فالإنتاج منها قليل جدا بينما يتوافر الإنتاج الروائي بكثرة.

أن السينما العربية، والمصرية في قلبها، لم تكن أحوج إلى النصوص الروائية كما هي اليوم، فهـذه النصوص وحدها هي القادرة على رفدها بموضوعات وشخوص جديدة ومعالجات فنية جديدة أيضا.

لكن السينما العربية بوجه عام تتعرض للاغتيال ، والسينما المصرية بوجه خاص، ومن جهـات غير أدبية،، والرواية وحدها لا تكفي للإنقاذ...

 

إبراهيم عبدالمجيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




المواطن مصري إخراج صلاح أبوسيف





مشهد من السقا مات عن رواية ليوسف السباعي إخراج صلاح أبوسيف





الحرام رواية ليوسف إدريس والإخراج لبركات والبطولة لفاتن حمامة





روبرت تايلور وديبوا كير أتاحت لهما السينما القيام بأدوار تاريخية غير عادية