مصور تحت الماء سعيد شيمي

مصور تحت الماء

في البداية كان المصور، العصب الأساسي لهذا الفن الوليد. بعد ذلك تطلب الأمر إضافة مهن أخرى دون أن يخل ذلك بأهمية الرجل الذي يحمل الكاميرا أو بالأحرى يحمل روح الفيلم .

يحكي لنا التاريخ القريب لهذا الفن الجميل ، أن الأخوين لوميير في باريس كانا يصوران ويخرجان أعمالهما بأنفسهم، فهما رائدان. تلا ذلك العبقري الفرنسي جورج ميليه (أبو الخدع السينمائية)، حيث كان يصور ويخرج ويضع الحيل التي تكشفه من ذلك الصندوق الأسود الساحر المسمى (كاميرا) وجعل للفيلم السينمائي سحره الخاص بأفلام مثل: (رحلة ألى القمر) عام 1902 وهو فيلم عن ريادة الفضاء والقمر، و(المكتشف) عام 1905 عن رحلة إلى أعماق المحيط المجهول. ونلاحظ منذ البدايات كيف تطرقت السينما. إلى موضوعات صعبة ومسلية وشائقة للغاية، ومع تطور العجلة ونشأة نظام الاستديوهات والاحتكارات كبيرة لهذا الفن، ظهر رجال أوائل وضعوا اللبنة الأولى لمعنى كلمة إخراج وتوجيه الممثل والكاميرا وخلافه، كان إدوين س . بورتر في فيلمه (سرقة القطار الكبرى) عام 1903 في الولايات المتحدة، يضع أسس تسلسل اللقطات ومعنى اللقطة المكبرة والحبكة الفيلمية، وهو بدأ أصلا مصورا قبل ذلك في عدة أفلام ، ثم جاء من بعده د. و. جريفث الذي يطلق عليه أبوالإخراج السينمائي لإضافتة الكثير من مفاهيم الصورة والتشويق والإنقاذ في آخر لحظة ولقد طور أسلوب بورتر بشكل كبير وكان أول أفلامه: (مغامرات وللي عام 1908.

ومن هذه المقدمة، يتضح مدى العلاقة بين المصور المخرج منذ النشأة، وكم هما مرتبطان برباط واحد، في سبيل إخراج العمل الفيلمي في أحسن صورة.

والمصور الواعي: "يرى بعين مختلفة كل شيء"، هذه الجملة تنطبق على مصور السينما الموهوب بشكل ضروري ، فالموهبة ثم الدراسة هما ركيزة عمل المصور - السينمائي الحديث ، والوعي من ثقافته وحسه الفني وميوله الكفرية ، بجانب الصراع الدائم مع نفسه في محاولته المستمرة لإظهار كل ما هو مبتكر وجديد يعبر به عن رؤية العمل الدرامي التي هي رؤية مؤلف الفيلم ومخرجه بالضرورة .

لذا فإن كلمة " واع " تعني كل الاستخدامات " التكنيكية " المتاحة وتحت ظروف تشغيلها ، في الإيحاء بجو الفيلم الدرامي العام ، وهذه هي الوظيفة الأساسية للمصور السينمائي ، لأن الصورة المنطبعة في عقل المشاهد هي المؤثر الأول قبل أي شيء ، وهو لا يعمل في فراغ أو بمفرده ولكن مع مخرج " واع " كذلك ، ولكن هذا المخرج لا يستطيع أن يحول تصوره إلى صور مرئية إلا من خلال المصور .

فرد داخل مجموع

ولقد قمت من خلال عملي في تصوير عشرات الأفلام - سواء تسجيلية أو روائية - بالتأكيد على وضع عدة اعتبارات حاولت أن أجعلها مبدئي ورؤيتي العامة في التصوير ، بعيدا عن فرض منهج خاص بي ، لأن كل همي ينحصر في إنجاح الفيلم دراميا ، لأني ( ترس ) داخل مجموعة ( تروس ) تعمل لصالح الفيلم . وإن كنت قد تأثرت بشكل كبير بأسلوب المدرسة الأوربية في التصوير ( فرنسا - إيطاليا ) وبالذات أفلام الموجة الجديدة الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات .

كان مجمل تفكيري إضاءة تحمل سمات الواقع وجعل الكاميرا الحرة المنطلقة خارج أبواب "البلاتوهات" والاستديوهات المصرية، هي هدفي الشرعي لاكتساب هذه الأفلام مظهر الصدق والواقعية ، وربما ظهور أفلام مثل: بيت بلا حنان - ضربة شمس - سواق الأتوبيس- العار- شارع السد- الحريف - الشيطان يعظ- الحب فوق هضبة الهرم، وغيرها قد جعلت الحارة والشارع والمكان الطبيعي والحقيقي سواء شقة أو دكانا أو مصنعا بطلا آخر بجانب الممثلين ، فحدث نوع من الرواج لهذه النوعية الصادقة من الأفلام ، وكمثال للمعاناة التي يمكن أن تعصف بي أثناء عملي في فيلم ما، أسوق مثالا لمشهد في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم " للزميل المخرج عاطف الطيب.

تطلبت المعالجة الدرامية لبطلي الفيلم أن يوجدا ليلا في سفح أهرام الجيزة ليمارسا الحب، وهما زوجان يفتقدان منزل الزوجية، فقصة نجيب محفوظ تظهر هذا الخلل الاجتماعي في بناء الأسرة الحديثة المصرية وأزمة المساكن بشكل عبقري، والمكان في سفح الهرم مظلم، فهذه حقيقة واقعية، والفيلم تم تصويره بالكامل بأسلوب إضاءة واقعي.

فكان صراعي مع نفسي.. كيف أنير مثل هذا المشهد ، دون الإخلال بجو الفيلم خاصة أن هذا المشهد مبني عليه قمة الدراما والذروة للأحداث - الفيلم تم تصويره عام 1983- وأمضيت وقتا كبيرا في التفكير في جميع الحلول الفنية المتوافرة ، ولكنهـا لم ترضني فنيا، فكان الجو العام لإضاءة الفيلم لا يمكن الخروج عنه بشكل فيه صنعة ما، حتى هداني الله إلى فكرة مبتكرة وهي استغلال أضواء السيارات التي تصعد إلى السفح، الواحدة تلو الأخرى، فانتقيت مكانا مناسبا على السفح بحيث بنار جيدا أثناء صعود السيارات ، وعند انحرافها حول الأهرام يتلاشى نورهما بالتدريج، فنشاهد من خلال إضاءة السيارات جزءا من الحدث، وبعد انحرافها يظلم المكان لنسمع باقي الأحداث في الظلام حتى تحضر سيارة أخرى وتنير المكان.. وهكذا أوقفت إحدى عشرة سيارة بالتتابع بحيث تتحرك بنورها عند إشارة معينة، وبالفعل تم تصوير المشهد بهذا الأسلوب ليكون له تأثير فعال على الشاشة مثل انفجار قنبلة منيرة في ساحة القتال ، وزاد من واقعية الحدث الظلام الشديد الذى تخلله حوار أحمد زكي وآثار الحكيم. هذا المثال أسوقه لفهم طبيعة إصرار المصور على الحفاظ على الجو العام للحدث، فلا أسهل أن أنير المشهد بشكل تقليدي ، ولكنني سأفقد المصداقية، وكلما كان الفن صادقا دخل في القلب سريعا وأصبح مؤثرا.

الفهم الدرامي للكاميرا

وفي فيلم المخرج على عبدالخالق (إعدام ميت) عام 1984، كان للدور الحر للكاميرا المحمولة على اليد، فهم درامي مميز في عدة مشاهد من الفيلم ، لطبيعته في الصراع بين المخابرات المصرية والإسرائيلية، وفي أحد المشاهد طلب مني على عبدالخالق أن تكون الكاميرا حرة دائرية لتحمل سمات دوامة الأحداث التي كانت تدور بين عمود عبدالعزيز- ضابط المخابرات والأخ المزيف - وأخته ليلى علوي ، كان حوار المشهد الدرامي سجلا بين الحقيقة والزيف، ويتطلب ذلك خلق حركة عنيفة مستمرة للكاميرا في الديكور كرؤية المخرج لهذا المشهد؟ مع عثرات يسقط فيها الممثل وينهـض وتتبعه الكاميرا في كل ذلك، ولعمل ذلك تطلب مني أن أنهي شر ظلي مع الكاميرا، فهو أكبر أعدائي يطاردني في حركتي في أي مكان، أثناء حركتي الحرة مع الممثلين، وهذا يتطلب إضاءة معينة ذات مسحة منتشرة وإن كانت غير ملائمة لطبيعة الحدث، ويتطلب أيضا اتزانا معقولا للكاميرا المحمولة بيدي في حالات الحركة واللف والانخفاض والصعود، ولقد وهبني الله هذه الموهبة، وأيضا المحافظة على التناسق التكويني داخل إطار الصورة بحيث يبقى إقحام الصراع بين الشخصيات ظاهرا في تشكيل الحركة والكتل، كل ذلك مع المحافظة على الزمن وبالتالي إيقاع المشهد بحيث لا يسقط في ملل التطويل، مثل هذا المشهد وما يتطلب من معاناة وحرفية جيدة لحركة الكاميرا والإضاءة، يجعل منه إسهاما مؤثرا ولغة رفيعة، لمزج الدراما والمعنى بحركة الصورة. ولقد برع المخرج علي عبدالخالق كثيرا في ذلك الأسلوب في عدة أفلام ناجحة له.

تحت الماء

ولكثرة ما صورت من أفلام في الواقع المصري والأماكن الحقيقية أطلق علي " مصور الشوارع، وإن كان هذا اللقب أسعدني أيامها، إلا أنه أصابني بالملل بعد فترة، لأن الحكاية انقلبت رخصا في التكلفة وهروبا من البلاتوه، وليس لغرض فني ضروري، فالعمل داخل البلاتوه تتطلبه موضوعات معينة... وبالتالي حاولت أن أحقق حلما من أحلام طفولتي... وخطوت فيه خطوات واسعة حتى استطعت أن أصور سينمائيا تحت الماء، عدة موضوعات، واكتسبت السينما العربية أرضا جديدة تدور فيهـا الأحداث والصراعات إلى حد أن أوائل التسعينيات شهدت هوجة في السينما المصرية تسمى هوجة أفلام تحت الماء، ولكني كنت أحلم بتتويج هذه الأفلام التي هي بالضرورة محدودة المواضيع، بعمل كبير في ذهني من زمن ربما هو الذي دفعني وشجعني على ريادة الماء. والغوص. وهو بطولة أبطال البحرية من رجال الضفادع البشرية، الذين هاجموا أكثر من مرة ميناء العدو الإسرائيلي (إيلات) ودمروه ، وكانوا يعدون لتدمير ميناء (حيفا) كذلك، ورفعوا هاماتنا في وقت كانت نفوسنا فيه منكسرة، وأرواحنا.

هائمة ضائعة بعد نكسة 1967، وكان تصوير الفيلم نفسه تحت الماء مشكلة وتحديا كبيرا، لأن أغلب الأفلام التي صورتها من قبل تحت الماء كانت تدور أحداثها نهارا، أما "الطريق إلى إيلات" فإن العملية الحربية بالكامل فوق وتحت الماء ليلا، وواقع الليل تحت الماء ظلام دامس، فلقد صورت مشهدا واحدا في فيلم (جحيم تحت الماء) للمخرج نادر جلال ليلا واستعنت فيه بالإضاءة الصناعية، وأعلم استحالة تنفيذ فيلم كامل تدور أغلب أحداثه تحت الماء في هذا الظلام الشديد الحقيقي.

فكان أن أتصرف بأسلوب علمي فني ، حتى أقنع المشاهد أن ما يراه هو تحت الماء ليلا، ولقد أتبعت حرفة تكنيكية، هو زيادة المسحة الزرقاء للصورة التي أسجل على الفيلم أثناء التصوير، ونقص في تعريض سالبية الفيلم (النيجاتيف) مع زيادة في تعريض إيجابية الفيلم (البوزتيف) للحصول على صورة داكنة شديدة الزرقة بحيث لا أفقد رؤية تفاصيلها، ولذلك قمت قبل تصوير ذلك بعدة تجارب عن أنسب الأوقات للتصوير في البر، وميل زاوية سقوط الشمس على الماء، بحيث أحصل على قدر قليل من النصوع الضوئي ، ومعرفة طبيعة أديم زرقة الماء، حتى توصلت إلى حقائق طبقتها، وقمت بتسجيلها في كتابي عن التصوير تحت الماء.

إن المصور السينمائي الجيد يضيف من عنده الكثير للفيلم، صحيح أن عمله المشترك مع المخرج يقربه كثيرا من فكره وبالتالي رؤيته، ولكن في نفس الوقت فإن المصور يضع الكثير من خبرته ورؤيته مما يثري فكر المخرج والفيلم معا.

وليس تجاوزا أن أقبل أن (المصور عين السينما) فهو أول من يرى الفيلم بخياله ثم أثناء تصويره، وأول من يرى الفيلم أثناء عرضه وهو خارج من معامل التحميض وقبل عرضه على الجماهير.

والمصور السينمائي هو (الدينامو) المحرك الذى لا يهدأ أثناء تصوير الفيلم، فهو عمل مستمر من لقطة إلى أخرى حتى ينتهي مشهد، ليبدأ في مشهد ثان وهكذا فالراحة لا تعرف سبيلهـا في عمله، هو ومجموعته المكونة من المساعدين والفنيين من عمال الإضاءة والكاميرا ونجاري الأخشاب الذين يمهدون أرضية المكان لتحريك عربة الكاميرا... التي يسجل من خلالها ذلك العالم الساحر الذي غزا العالم منذ قرن من الزمان.

 

سعيد شيمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مدير التصوير سعيد شيمي تحت الماء تحيط به مجموعة مساعديه