أطفالنا .. والعوامل المؤثرة في سلوكياتهم أحمد الشرقاوي

سلوكيات الطفل ، تجابه كثيرا من الكبار بعدم إدراك خصوصيتها ، ومرحليتها ، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة . لذا وجب إلقاء مزيد من الضوء على منابع وتطور هذه السلوكيات .

للأطفال سلوكيات وتصرفات وعادات خاصة بهم ، أي مرتبطة بفترة الطفولة . وعلى مر السنين يتخلص الطفل من هذه التصرفات ، ويقال إنه يكبر ويدرك ويتصرف مثل الكبار . والشخص البالغ الذي يتصرف تصرفات غير ملائمة لسنه ولا تليق بكونه بالغا مدركا ، وكأنها صادرة من طفل ينعته البعض بأن تصرفاته صبيانية ، أي أنه يسلك مسلك الأطفال ، فالتصرفات إذن التي تصدر من الطفل ، والعادات التي يكتسبها في فترة الطفولة لها طابع خاص ، وإن كانت قد تبدو غير مهذبة وملائمة أو مثيرة للإزعاج ، إلا أنها مجرد سلوك مرحلي يفرضه عليه تطوره العقلي والذهني وتفاعله مع الأشخاص والأشياء تأثرا بها وتأثيرا فيها .

ونستطيع أن نقول إن المشاكل المتعلقة بسلوك الطفل وتصرفاته تعتبر نتاجا طبيعيا لتشابك عدة عناصر في مقدمتها تطور شخصية الطفل من ناحية والشخصيات المحيطة به مثل الأهل والمدرسين والإخوة والأطفال المخالطين من ناحية أخرى.

فضلا عن أن السلوكيات تحدد في المقام الأول وفقا لعوامل مؤثرة شتى تلعب دورا فيما قبل الحمل والولادة أو بعدهما .

معاناة الأبوين في الصغر

فالمشاكل السلوكية لدى الأطفال ترجع في الأصل إلى عوامل تأخذ مسارها في فترة ما قبل الولادة ، بل غالبا قبل الحمل ذاته ، فيعود تاريخها إلى طفولة الأهل أنفسهم ونوعية شخصياتهم ، ولأسلوب الحياة العائلية الذي نشأوا عليه ثم إلى ذلك القدر من الحب والحنان الذي نموا في ظلاله . ذلك أن الطفل الذي ينشأ منذ ولادته محروما من العطف والمحبة يصبح حين يكبر عاجزا عن أخذ أو إعطاء أدنى شعور وجداني رفيع . ومن هنا فإن الطفل الذي يعاني الحرمان والإهمال من والديه يكون سبب ذلك غالبا هو معاناة أحد الأبوين من طفولة تعسة مترعة بالحرمان . وإذا كان الأهل قد لاقوا صنوف العقاب والضرب في مراحل طفولتهم فقد يمارسون الأسلوب نفسه مع أطفالهم .

وجدير بالذكر أن الأهل يتأثرون تأثرا بالغا بالوضع الاجتماعي وانطباعات ذويهم أيضا . كما يعتبر مقدار ما يتلقاه الأهل من مشاعر الحب والإحساس بالأمان في مراحل طفولتهم المبكرة من أهم العوامل المؤثرة بعد ذلك في تنشئة أطفالهم . المؤثرة بعد ذلك في تنشئة أطفالهم . ومن العوامل السلوكية المؤثرة العمر التي رزق فيها الأهل بطفلهم ومدى تعلقهم بتحقيق هذه الأمنية ، ورغبتهم الملحة في تفضيل جنس معين ( ولد مثلا ) على الجنس الآخر .

مرض الوهم

وقد ذكر الدكتور إيلنجورث - صاحب الأبحاث العديدة عن تطور سلوكيات الأطفال - أنه تعرض ذات مرة لفحص طفل يشكو من أعراض لا حصر لها ، وعند توقيع الكشف الطبي وإجراء الفحوص اللازمة ، وجد أن الطفل سليم معافي وفي أتم درجات الصحة .

ولكن نظرا لأنه وحيد أبويه ، وقد رزقا به بعد سبعة عشر عاما كاملة من الزواج فقد سيطر عليهم وهم شديد وخوف مبالغ فيه من جميع الأمراض ، ورويدا رويدا تسلل هذا الإحساس بالهلع والتوق إلى الحماية المفرطة إلى نفسية الطفل ، فأصبح هو الآخر مريضا بالوهم . ( وهو ما يعرف في الطب بالهيبوكوندريا أو الخوف الشديد من حدوث المرض ) .

ومما لا شك فيه أن سلوك الأطفال يتأثر بالفترات الزمنية بين ولادة وأخرى لدى الأم وبعدد الإخوة أيضا ، فكلما قلت الفترة الزمنية بين مرات الولادة زادت بالتالي عوامل الغيرة بين الأطفال .

ومن المؤكد أن أصغر الأطفال في أسرة كثيرة الإنجاب يحظى بطفولة أقل سعادة من ذلك الطفل الوحيد في أسرة أخرى .

كما يلاحظ أن الطفل الذي تأتي ولادته بصورة عفوية غير مرغوب فيها وبالأخص عندما يسبقه إخوة كثيرون ، يكون معرضا للإهمال والاستهانة ليس فقط من أبويه ، ولكن من إخوته الأكبر أيضا . والجدير بالذكر هنا أن الأطفال الأول في الأسرة كثيرة الإنجاب يكون أكثر ذكاء ونبوغا ممن يتلونهم .

تأثير جنس الطفل

وليس عسيرا أن نتصور مدى تأثير جنس الطفل على سلوك أهله . فالطفلة التي تولد بعد أربع إناث مثلا تكون أقل حظا من الرعاية وأكثر تعرضا للإهمال من قبل أهلها . ذلك أن أبويها اللذين طال انتظارهما لمولد طفل ذكر قد فتر حماسهما لمولد الإناث وأصيبا بنوع من خيبة الأمل ينعكس بالقطع على معاملتهم للصغيرة. بينما تكون الصورة مغايرة لذلك تماما عندما يكون المولد الخامس ذكرا على أربع إناث قد سبقنه من قبل . فنلاحظ هنا إفراطا في التدليل وتفضيلا مبالغا فيه واهتماما زائدا وحرصا منقطع النظير مما يؤدي إلى تأثيرات غير مرغوب فيها على شخصية الطفل .

ومن المعروف أن التوتر النفسي في فترة الحمل قد يؤدي إلى تفاعلات غير مرغوب فيها في طريقة تعامل الطفل مع مجتمعه وعناصر بيئته . وقد يؤدي إلى اضطرابات سلوكية تتجلى على وجه الخصوص في مرحلة الشباب في صورة الجموح أو التطرف .

وقد لوحظ أن الأطفال الرضع الذين يتميزون بالنشاط والحركة والحيوية تتكون لدى أمهاتهم مشاعر أكثر ارتباطا وحماية وسيادة في السنوات التالية . بينما نجد أن الأطفال الرضع الذين يتميزون بالصراخ الدائم والمشقة البالغة في رعايتهم ورفض الرضاعة يسببون توترا كبيرا لأمهاتهم ليس فقط في الأشهر الأولى ولكنه يتحولون في السنوات التالية إلى مادة خصبة للامتعاض والكدر .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأطفال المبتسرين يتعرضون أكثر من غيرهم إلى نوع من الاضطرابات السلوكية خلال حياتهم المدرسية ، وربما كان أحد المبررات القوية لذلك هو انفصالهم عن أمهاتهم في الأيام والأسابيع الأولى من أعمارهم في فترة رعايتهم بالمحاضن الخاصة بهم .

الارتباط الشرطي

كما أن الارتباط الشرطي هو أحد العناصر المهمة في دراسة التطور السلوكي في الأطفال . فالطفل الذي يلجأ أهله إلى أساليب القهر والتهديد والإرهاب غالبا ما يصاب فيما بعد بنوع من عدم الارتياح للطعام يتطور بعد ذلك إلى فقدان للشهية حيث يصبح الطعام لديه مرتبطا بشروط التهديد والعقاب مما ينفره من عملية الطعام كلها .

والطفل الذي اعتاد أهله على إجلاسه على ( القصرية ) باستخدام أساليب القهر والإجبار والتهديد يحاول جاهدا التخلص من هذه العادة ، وينمو لديه شعور بالرفض والتحدي فيصارع من أجل الابتعاد عن ( القصرية ) ، وعلى هذا يتكون لديه الارتباط الشرطي بالرفض مصحوبا بالغضب والبكاء ورفض كل ما يتعلق بالعملية كلها .

ومما لا شك فيه أن جزءا من شخصية الطفل موروث أو فطري ، والجزء الآخر يكتسب كنتاج طبيعي لتفاعله مع البيئة المحيطة به ومدى تأثره بها . وهذا الجزء المكتسب يعتمد أساسا على تأثيرات مختلفة مثل الأهل والمدرسين وشخصياتهم وانطباعاتهم جنبا إلى جنب مع مؤثرات أخرى مثل الإخوة والأصدقاء وطبيعة تصرفاتهم .

ولعله من قبيل الحظ العاثر أن الأهل الذين يتصفون بالتعنت والهلع والتوتر يورثون أطفالهم دائما هذه الصفات ، فلا يمكن أن يتحلى أطفالهم بالهدوء والوداعة . وعادة ما يحتدم الصراع بعد ذلك بين الطرفين ، وذلك لميل كل طرف إلى تصعيد حدة أي نزاع وتفاقم أي مشكلة .

بينما نجد الأهل الذين يتحلون بالبساطة والصبر والمثابرة والوداعة يورثون بالتبعية هذه الصفات إلى أطفالهم . ونادرا ما يعاني هؤلاء من اضطرابات سلوكية لدى أبنائهم .

طفل غير منتظم

وفي رأي من أخصائيي تربية الطفل أن لفظ " طفل غير منتظم " هو لفظ خاطئ ، فالطفل يتفاعل مع الأحداث بالطريقة التي اعتادها من قبل أهله وأورثوها له . ومن هنا كان الاعتراض على عيادات ترشيد سلوك الأطفال لأن الذين يحتاجون لترشيد والعلاج بالفعل هم الأهالي أنفسهم وليس أطفالهم . ومن المؤكد أن الطفل يتأثر تأثرا بالغا بسلوك أهله وانطباعاتهم وأساليب تكيفهم مع أحداث الحياة من حولهم . بل إن سعادتهم أو شقاءهم وتطاحناتهم المنزلية تنعكس بصورة مباشرة على نفسية وسلوك الطفل وتلازمه مدى حياته بعد ذلك.

إن حياة الطفل بوجه عام تشكل تعبا للظروف المحيطة به في سنوات حياته الأولى ، وبالأخص أول ثلاث أو أربع سنوات .

فإذا ما لقي الطفل احتياجاته الأساسية من المأكل والراحة والحب والحنان منذ الأسابيع والشهور الأولى في عمره ، فغالبا ما يتجرع السعادة والهناء عندما يكبر ، لأن دعاماتها راسخة في أعماقه . وهناك اليوم اعتقاد سائد بين علماء النفس مفاده أن المشاكل النفسية في الكبار تستمد جذورها من مراحل الطفولة .

فحالات القلق والتوتر والعدوانية والزواج غير الموفق ترجع في الأصل إلى اسباب تتعلق بمرحلة الطفولة المبكرة .

كما أن الاضطرابات النفسية وتمزق الشخصية والأمراض الاجتماعية والمختلفة مثل التطرف والأنانية والانعزال والطلاق وعدم الأمانة والإرهاب ، كلها بالقطع دلائل واضحة على خلل سلوكي واضح منذ الطفولة وبالأخص في الثلاثة أو الأربعة أعوام الأولى من عمر الإنسان .

تطور السلوكيات

يرجح العلماء أن السلوكيات التي تتحدد صورتها بدءا من العام الثاني نتيجة التطورات التي تطرأ في شخصية الطفل إنما تتكون خلال العام الأول في أثناء التطور العقلي للطفل وتفاعله مع الأشخاص المحيطين به . بالإضافة إلى ان كثيرا من تصرفات الأهل في إطار تربية أطفالهم تعتبر من العوامل المهمة التي تحدد مظاهر السلوكيات .

وليس عسيرا أن نلاحظ أن الرضيع الذي لم يتجاوز يومه الأول يكف عن الصراخ لا لإطعامه أو لتغير أرديته ، ولكن لمجرد حمله واحتضانه . ومن ذلك اليوم فصاعدا يزداد إلحاح الطفل في طلب الحب والأمان . وبدءا من الأسبوع الثالث أو الرابع تبدو للجميع بوضوح مظاهر الابتهاج على الطفل حينما يحادثه أحد أو يحمله ويلاعبه . فتهدأ حركة أنفاسه ، ويفتح فمه ويغلقه ويميل برأسه أماما وخلفا ويتأمل وجه أمه يإمعان ، وبعد ذلك بأسبوعين أو ثلاثة يبدأ في التعبير عن فرحه بالابتسام والمناغاة ، وتزداد حاجة الطفل إلى أن يحلم ويحتضن ، ومع الوقت يأبى أن يغيب عن ناظريه وجه أمه . وحتى يتعلم الجلوس واستعماله يديه في اللهو بالعلب تقل مؤقتا حاجته السابقة ويصبح أكثر تحملا لمشهد رحيل أمه دون صراخ . وعند الشهر التاسع يثير جلبة وصياحا إذا رأي أمه تحمل طفلا آخر حتى وإن كان أخاه الأكبر سنا .