الجبل والبحر..
إشراقة الخضرة، وصفاء الزرقة، ونثار الأبنية البيضاء بين الزرقة والخضرة.. تلك هي
بيروت كما تراها العين من نافذة الطائرة وهي تحوم قبيل الهبوط. يخفق القلب بذكريات
بيروت، وإلى زمن ما قبل الحرب اللبنانية يعود، لكن العقل يدرك أن الصورة من بعيد قد
لا تنبئ عما يخبئه الاقتراب، لهذا يتمهل القلب وجلا بينما الطائرة تهبط، فيتوارى
البحر ويبقى الجبل ونثار البيوت البعيدة.. تلمحها العين بينما الروح تلفها نسائم
بيروت الشفيفة ونحن نهبط على سلم الطائرة إلى أرض المطار.. والخاطر تزحمه الأسئلة
عما هو كائن وعما سيكون. مطار بيروت ينبئ عن إجابة، بادرة للإجابة، فبعد أن أوقفت
نيران الحرب اللبنانية طائرات الدنيا عن الهبوط في مطار بيروت، بدا واضحا لنا أن
الطائرات تعود.. فعلى المدارج تربض وتتحرك طائرات شركات عالمية عديدة، ثمة ما يقلع
منها وثمة ما يهبط وثمة ما يتزود بالماء أو الوقود. وصوت المذيعة اللبنانية العذب
يصدح في جنبات المطار معلنا عبر إذاعة المطار الداخلية، وباللغات الثلاث العربية
والفرنسية والإنجليزية، عن وصول وقيام رحلات طيران من وإلى أربعة أرجاء المعمورة.
أكثر من عشرين شركة طيران عربية وعالمية، إضافة للشركتين الوطنيتين "الشرق الأوسط"
و"عبر المتوسط"، عادت إلى مدارج مطار بيروت الذي تحول - دون أن يتوقف - إلى ورشة
بناء وتطوير يشغلها مجلس الإنماء والإعمار بغية توسيع المطار وتحديثه لكي يستوعب
حدود الحلم اللبناني وحدود الزيادة المرتقبة والمطموح إليها والتي يتوقع أن تصل إلى
خمسة ملايين راكب سنويا بحدود سنة 2000، أي ما يزيد على عدد سكان لبنان
نفسه.
بعد خروجنا من
المطار أخذنا إحدى سيارات التاكسي ذات اللون الأصفر المميز وكان السائق كعادة سائقي
لبنان النشطين طيبي الحديث والمعشر وفي الطريق المزدحمة بالسيارات والباصات كدنا
ننسى أن هذه البلاد عبرت محرقة قاسية بدا أنها ستأتي على الأخضر واليابس، لكن يبدو
أن حب لبنان للحياة لم يسمح أبدا بإخماد أنفاس الحياة. ويردد سائقنا عبر حديثه الذي
لم ينقطع ورغم شكايته من الغلاء والزمان: "شو.. بدنا نعيش". ولم يكن السائق وحده هو
الذي يتشبث بخيط الحياة، بل لبنان كله وفي أسوأ الظروف بدلالة ما كنا نراه في
طريقنا فالبيوت والقصور وضح أنها كانت تقام تحت النار والدخان، والسيارات الفارهة
لم ينقطع ظهورها رغم المحنة، بينما الظاهر يقول إن الدورة الاقتصادية كانت شبه
معطلة. وهذا واحد من الألغاز اللبنانية، يفسره ما سمعناه عن أن القطاع المصرفي ظل
يعمل وراء الأبواب الحديدية السميكة، تحميه أكياس الرمل من القذائف.. "اتطلع هون..
وهون" كان السائق يشير إلى بعض المداخل التي مكثت تحميها سواتر أكياس
الرمل.
ومع إيغالنا في
قلب بيروت، في الوسط، بدا أن شيئا يتغير بشدة، وللمفارقة فإنه تغيير يكاد لا يكون
جديدا - من أحد أوجهه - على أولئك الذين تنشقوا روائح البارود على امتداد عشرين
عاما قرب الأسواق في قلب بيروت، فها هم يتنشقون من جديد روائح الديناميت وسحب
الغبار الذي يظلل المنطقة منذ أسابيع. فبعد استراحة قصيرة تلت انقطاع الحرب، استيقظ
الناس في وسط بيروت على انفجارات قوية تتعالى أصواتها في الصباح الباكر أو في
المساء، ويعقبها دخان وغبار يرتفعان في فضاء المنطقة. لقد بدأت عملية إعادة بناء
وسط بيروت. هذا الوسط الذي يتألق في ذاكرة ما قبل الحرب بإيقاع الحياة التي كانت
الزهرة المتفتحة في الحياة العربية كلها.. الوسط التجاري، وساحة البرج (الشهداء)،
وساحة النجمة (حيث البرلمان)، وباب إدريس، وساحة رياض الصلح، وسوق الطويلة.. صور
مكثت قوية في الذاكرة.. حيث الأسواق العامرة بالفاكهة والخضرة وعافية البشر البسطاء
النشطين الذين يحملون سلال الكروم على ظهورهم أو يتنقلون بكومات التفاح والدراق
الطازج على عربات اليد. وهؤلاء المرحبة وجوههم البشوشة أمام أبواب الحوانيت الحافلة
مداخلها بثمار البساتين وعطايا أشجار الجبل والسهل ومهارة اللبنانيين صناعة وتجارة،
وشارع المعرض بقناطره المدلاة منها القناديل والتي ترسم إطارا لمشاهد الشارع
بعمارته العتيقة ذات النوافذ الطويلة الأنيقة والشرفات المسيجة بزخارف الحديد
المشغول والمزينة بأصص الزهر والدوالي، والسراي الكبير الموحي بعبق القرون وألوان
سقيفة القرميد الأحمر وخضرة الشجر الذي يظلل بياض السياج. أما شارع ويغان بأبنية
زواياه المدورة وحناياه الأليفة المغمورة بالشمس وزحام البشر والمركبات واللافتات..
دنيا عامرة وزاهرة تحت سماء رقيقة تفضي إلى البحر القريب. تغيرت الصورة وما زالت
تتغير.. فرغم ضجة إعادة الإعمار إلا أن أصداء الحرب التي كانت ما زالت تبعثر هنا
وهناك آثار الوحشة.. فمداخل كثير من الأبنية فاغرة بلا أبواب، والأعمدة والبواكي
تقف عارية مغبرة، والأعشاب البرية نابتة بكثافة وفوضى في الطرقات. وحشة تبددها
للحظات ضجة إعادة الإعمار. فثمة ما لا يمكن تصوره في ساحة الشهداء والمناطق
الملاصقة، أبنية يتم دكها بالديناميت أو تسحب قوائمها بالجرافات الثقيلة، فتتهاوى
شرفات وسطوح وذكريات.. تهاجمها المثاقب والحفارات ومطارق التفتيت، بينما تصطف مئات
الشاحنات الثقيلة لتتولى تباعا نقل أطلال المدينة المسحوقة إلى البحر. فاللبنانيون
يبلطون البحر فعلا والمساحة المقدرة للردم 608 آلاف متر مربع. وسوف يتم هدم 700
بناء في الساحة، حيث كانت تشكل منطقة محرمة يمكن أن تتحول في المستقبل إلى معقل
للتشرد والبؤس. ولقد تم بالفعل نسف الكثير من هذه الأبنية المحطمة، فلم يعد ثمة أثر
لمبنى سينما الريفولي الشهير ولا فندق الريجنسي ولا مبنى التياترو الكبير فقد أزيلت
من الوجود لتقوم مكانها ناطحات سحاب جديدة، لم تنهض بعد، لتشرئب في سماء القرن
الحادي والعشرين.
ثوابت.. تحت الأرض،
وفوقها
إن إعادة تعمير
وسط بيروت هي التأكيد الحقيقي على طي صفحة الحرب اللبنانية، على اعتبار أن هذه
المنطقة التي تتوسط المدينة تشكل المكان المثالي لعودة التعاون والانصهار بين
اللبنانيين. وهو انصهار يصنعه النشاط الإنساني للبنانيين المعروفين بالشطارة وروح
الانفتاح. وانصهار تدفع إليه الفكرة التي يصفها المفكر اللبناني منح الصلح - حين
التقيناه أثناء استطلاعنا - بأنها جوهر الخصوصية اللبنانية. وعلى حد تعبير هذا
المفكر العربي المرموق: "هناك الكثير من المناطق في الوطن العربي لها خصوصية ونود
أن نأخذ لبنان كحالة لها خصوصية ديمقراطية. هذه الخصوصية اللبنانية أقدم خصوصية
جربتها المنطقة في العصر الحديث". "ولا بد أن يكون في لبنان حكم متصل بالرغبة
الجدية في العمل وبالليبرالية". وإن "الخير الذي كان في لبنان في فترة ما قبل الحرب
هو في قبول التنوع أو التعدد واستعصائه على نهج الحكم الواحد أو الحزب الواحد أو
الرأي الواحد".
الإعلام في لبنان
اليوم في أزمة مع الحكومة. والمأزق هو قرار الحكومة في 23 مارس 1994 والذي حظرت
بموجبه على وسائل الإعلام المرئي والمسموع باستثناء تلفزيون لبنان والإذاعة
اللبنانية إذاعة أو بث الأخبار والبرامج السياسية، وقد اعتبر الكثيرون قرار "الحظر"
بمثابة صفعة موجهة لأحد أركان وجود لبنان أي الحريات والصحافية منها على وجه
التحديد.
وزير الإعلام
اللبناني ميشال سماحة يرى عكس ذلك فيقول: "إن المتضررين والذين مازالوا يتكهنون بأن
الدولة اللبنانية ستظل دون قانون هم يحلقون خارج السرب، نحن مصرون على تطبيق
القانون، والفوضى لا يمكن أن تستمر، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالحريات. نحن
مستعدون لسماع كل وجهات النظر المعارضة، لكن أن يصبح لكل شخص إذاعة وتلفزيون ويقول
ما يشاء فهذه فوضى وليست حريات."
لكن تجري الرياح
بما لا تشتهي السفن، فقد تصدى مجلس النواب لقرار الإيقاف وأصدر قانونا بدأ تنفيذه
في 19 يوليو 1994 يسمح لوسائل الإعلام المرئي والمسموع باستئناف بثها السياسي لكن
ظل الإصرار الحكومي على المضي في إنجاز قانون عصري لتنظيم الإعلام.
وزير الإعلام
اللبناني يقول: "إن استئناف بث الأخبار والبرامج السياسية بعد أربعة أشهر من التوقف
يؤذن بأن مناعتنا الوطنية بلغت درجة عالية" وقال: "إنه في إطار الشرعية الدستورية
وبعد أن وقع رئيس الجمهورية القانون الذي أصدره المجلس النيابي حول إطار وضوابط
وشروط العودة إلى البث الإذاعي والتلفزيون للأخبار والبرامج السياسية تعود وسائل
الإعلام لبث هذه الأخبار والنشرات وهذا يؤكد قوة وحدتنا الوطنية وفي إطار تلقي
مواطنينا للخبر والتعاطي معه، وأن مسئولية وسائل لإعلام والمسئولين عنها في صياغته
ونقله بدقة وأمانة إلى المواطنين، قد بلغت درجة عالية كانت دائما من شيمنا وميزة في
ثقافتنا السياسية وفي تعاطينا للديمقراطية وممارسة الحرية مع احترام الغير وتقديم
الرأي والخبر والتعليق والمناقشة بمستوى عال من المسئولية".
نعم الحرية بحاجة
إلى ضوابط قانونية تنظم حركة التعاطي معها والإفادة منها وهذا ما يفعله
لبنان.
إذن لا مفر من
عودة الانصهار، لكن الصورة القديمة لن تعود بكامل تفاصيلها، فبيروت القديمة التي
عرفناها مضت.. صارت في الذكرى، أو أبعد من الذكرى، فكل شيء يتغير وبسرعة، على الأقل
من حيث الشكل، فطريق بيروت إلى عالية وبحمدون وصوفر، هل تذكرونه؟ إنه يتنحى جانبا،
فالزمن بات من الأوتوستراد العربي الذي سيربط المرفأ بحدود سوريا ومنها إلى تركيا
والأردن.. ثعبان طويل عملاق سيبدأ في الظهور هذا الخريف وبتمويل من الشركة المشرفة
عليه والتي ستتقاضى رسوم مرور لاسترجاع أموالها. إنه أول مشروع من نوعه في المنطقة.
وهناك من يصرخ من الأهالي في بعبدا والكحالة وبحمدون المحطة قائلين إن الحرب لم
تجرف بيوتهم والأوتوستراد العربي سيجرفها.هي صرخات تشبث بالماضي الذي عملت الحرب
على تغيير بعض صوره، ويعمل الإعمار على تغيير بعضها الآخر. لكن هناك ثوابت تستعصي
على الانجراف، بل إن هناك ثوابت يكشف عنها الانجراف. فهناك مدينة فينيقية تنبعث
حاليا من تحت التراب في قلب بيروت. فلقد أدت الحفريات الجارية حاليا في وسط بيروت
التجاري إلى اكتشاف أول آثار لبيروت الفينيقية تعود إلى القرنين التاسع والسابع قبل
الميلاد، وأظهرت الحفريات التي تجري خلف ساحة الشهداء سور المدينة الفينيقية
المزدوج في موقع طوله 25 مترا وعرضه 20 مترا وارتفاعه خمسة أمتار ويعتقد، كما أعلن
فريق آثار من الجامعة الأمريكية ببيروت، أن هذا هو أحد تلال المدينة الفينيقية
القديمة.
وإذا كانت ثوابت
بيروت العتيقة هذه ماكثة في الأرض، فهناك ثوابت لم تنمح من فوق الأرض، رغم كل
النيران والرياح التي عصفت بها في أيام الحرب.. ثوابت الانفتاح والشطارة
اللبنانية.. ثوابت الصحافة والثقافة والديمقراطية والسهر...
ما زال شارع
"الحمرا" الشهير يتنفس، وينبض بالحياة، ربما ليس ذلك النبض الذي كان قبل الأزمة،
نبض شارع كبريات الصحف والمجلات اللبنانية كالنهار والسفير وغيرهما.. نبض شارع أفخم
المحلات التجارية، ومقار أكبر الشركات والمؤسسات، وأرقى المقاهي والنادي الثقافي
العربي الذي ينظم أشهر معارض الكتاب العربي منذ 36 عاما.. كل هذا النبض ما زال
يتواتر وإن لم يكن - بالطبع - بكامل زخم الحياة، إلا أنه لم يهجر الحياة ولم تهجره
الحياة. فما زالت الحياة تدب في مقاهي " الكونكورد "و" ستراند" و"الهورس شو" الذي
دخلناه وقضينا فيه وقتا فاستروحنا لنسائم ثلاثة عقود من الزمان ظل فيها هذا المكان
ملتقى كبار رجال السياسة والفكر والأدب والإعلام. وكان يقال آنذاك: "إذا أردت أن
تعرف ماذا يحدث في العالم فيمكنك أن تعرف ذلك في الهورس شو لأنه ملتقى كبار رجال
السياسة والإعلام وصانعي القرار اللبنانيين والعرب والأجانب". صحيح أن ذلك كان عهدا
مضى، ولن يعود، لكن شيئا من ملامحه ما زال منطبعا في رحاب المكان، كما في
غيره..
الكتاب..الكتاب
ليس أدعى للدهشة
من بقاء عجلة الحركة الثقافية في بيروت دائرة رغم كل ما أصابها. فرغم القصف والدمار
وانقطاع الكهرباء وإغلاق كثير من الشوارع إلا أن دور النشر اللبنانية لم تعلن
إفلاسها ولا موتها، بل إن كثيرا منها تطور، ونشأت دور جديدة حتى أن عدد دور النشر
وصل إلى 600 دار، يخرج منها ألف كتاب جديد كل سنة، هذا غير الكتب المدرسية والمجلات
والصحف. وعن تفسير لهذه الظاهرة المحيرة ضمن صخب المتغيرات والثوابت في الحياة
اللبنانية يقول نقيب الناشرين اللبنانيين: "الكلمة تجمع ولا تفرق. الكتاب يوحد ولا
يجزئ. إن بيروت هي عاصمة الكتاب. ولبنان هي مطبعة الشرق الأوسط" بالطبع يبدو الكلام
حماسيا وقابلا للتحاور، لكنه متسق مع الخصوصية اللبنانية التي حدثنا عنها المفكر
اللبناني "منح الصلح"، حيث من ثوابت هذه الخصوصية الديمقراطية التي تعني في حدها
الأدنى حق كل الفرقاء في التعبير عن آرائهم دون أن يفسد ذلك للود قضية. في كون
الكتاب بهذا المعنى فرحا يجمع بين اللبنانيين الذين يتصدرون في كثير من الأحيان
صناعة الكتاب العربي وتسويقه.
لقد أدهشنا ونحن
نتجول في شوارع بيروت، رغم وحشة الخرائب وغبار الإعمار، خاصة في شارع الحمرا وساحة
البرج ووسط المدينة عموما، في الشوارع العريضة والضيقة، وحيث الفقر أو الغنى، كان
الكتاب.. في مداخل المباني وعلى الأرصفة.. كتب قديمة وحديثة.. وليمة ساحرة للمثقف
العربي، وكثيرا ما تكون بنصف الثمن. ولعل هذا يذكرنا بمبادرة "إدمون صعب" في زمن لم
يكن بعد إلا صعبا، تجاه ترويج الكتاب اللبناني. ففي عام 1987 أقام ما أسماه "شهر
الكتاب العربي"، ولهذا الغرض نشأت مراكز لعرض الكتب بخصم يصل من 40 إلى 60% من ثمن
الكتاب الأصلي. وتعليقا على نجاح تلك التجربة التي مازالت تسري في حنايا بيروت نسمع
صوت الشطارة اللبنانية على لسان أحد الناشرين الذين التقيناهم أثناء جولتنا.. يردد:
"صحيح.. الكتاب الذي يباع بنصف الثمن أفضل من الكتاب المخزون بكل ثمنه".
ويكون
السهر
قبل الغروب، وفي
اتجاه الغرب - على شاطئ بيروت - مضينا. لقد استبد الحنين بالنفس التي عرفت أياما
هنيئة في أيام ما قبل الأزمة وكان المقام أيامها فندق "السمرلند". وأدهشني أن أرى
في الفندق وما حوله تطورا وتوسعا يكاد يقول إن الحرب لم تمر من هنا، رغم أن الحرب
لم تترك شبرا لبنانيا إلا ولفحته - على الأقل - بصهد نارها.
ومن شرفة عالية
في هذا المكان الأليف، طاب للنفس أن تتابع العين مشهد الغروب في بيروت. وراحت الشمس
الكبيرة البرتقالية تغطس رويدا رويدا في مياه البحر المتوسط الهادئة، بينما نسائم
البحر الطرية تملأ الصدر بهدوء وراحة، فكأن جنون الحرب الأهلية اللبنانية كله، لم
يكن إلا نشازا عابرا كلمح البصر خارج دورة الحياة على هذا الشاطئ الجميل. وحل
المساء، فلم يتهيأ شاطئ بيروت للنوم بل تجهز للسهر فكأن بيروت الساحرة التي لم تكن
تنام الليل قبل اشتعال الحرب تعود إلى سابق عهدها وإن بدرجة مختلفة وذوق مختلف.
وكانت السيارة تنطلق بنا على "الكورنيش" باتجاه "الروشة" الضاربة صخرتها في هدأة
مياه المتوسط الخافقة في الليل والمتألقة بانعكاسات أضواء الساهرين. الروشة صخرة
المنتحرين لم تعد كذلك، بل صارت مركز الملايين ففي جوارها يبلغ ثمن الشقة الواحدة
الملايين. وفي محيطها تتألق لافتات المطاعم المضيئة وأماكن السهر وتمزج ألوان
أضوائها بمياه البحر فتنجاب عنه ظلمة الليل ليبدو نهارا من نوع خاص قرينا ببيروت..
ليل بيروت الذي يتحينه الآلاف من سكانها وزائريها لينسوا فيه تعب النهار أو يكملوا
به بهجته. ويضج الكورنيش بالحركة والحياة.. باعة متجولون يشقون طريقهم بين زحمة
الساهرين لبيع الترمس والفول السوداني والفستق والعنب والتين والبطيخ المثلج. ساحة
لغسل التعب واسترواح النسائم يجد كل فيها ضالته تبعا لإمكاناته وظروفه، فليل بيروت
يتسع للجميع.
أفق
الإعمار
حين التقينا
المفكر اللبناني منح الصلح قال: "إن لبنان هو البلد الذي عرف في تاريخه أجمل سلام
وعرف أيضا أبشع حرب، وهو يعاني الآن وضعا لم يصل فيه بعد إلى سلام مطلوب ولكنه خرج
من التقاتل المدمر".. هذا الخروج من دائرة التدمير، يعني بالطبع دخولا إلى أفق
التعمير.. هو أفق طموح بكل ما تضج به بيروت من أصوات الهدم والبناء. وكان لزاما
علينا أن نقف على حدود الصورة عند مصادرها. قال المهندس "إبراهيم محمد شمس الدين "
نائب رئيس مجلس الإنماء والإعمار وابن رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان إن هناك
أولويات لخطة عاجلة تشمل البنى التحتية.. ماء نظيف، كهرباء، خدمات عامة.. الطرق،
المطار، الصرف الصحي، نظام حديث للاتصالات. ونصيب بيروت في هذا كثير لأن 45% من
سكان لبنان في بيروت الكبرى. وهناك حزام من البؤس حول بيروت. وإذا كان سوء توزيع
التنمية من أسباب اشتعال الحرب فلا بد من تنمية متوازنة تبعا لمتطلبات السكان. هناك
مشاريع لمستشفيات في المناطق المتخلفة (مستشفى النبطية قدمت له الكويت ضمن القطاع
الصحي هبة قدرها 25 مليون دولار). الصرف الصحي مشكلة خطيرة ومرافق الصرف متخلفة
وهناك خطة لتعميم شبكات صرف صحي حديثة على مدى 10 سنوات. وإذا كانت هذه بعض ملامح
أولويات الخطة العاجلة في إعادة البناء والإعمار، فهناك ملامح مستقبلية لمشروع كبير
تقوم به الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت، وهو مشروع إعمار
طموح يحول 106 ملايين متر مربع من الخراب إلى ورشة إعمار وتطوير عمراني، تعتبر
الأهم في التسعينيات من هذا القرن. والمساحة التي سيتيح المشروع بناءها تشمل 4
ملايين و400 ألف متر مربع تتوزعها أنشطة مختلفة كالسكن والمكاتب والدوائر الحكومية
والتجارة والفنادق وغيرها. ويشمل المشروع - بالطبع - تمويل إقامة بنية تحتية جديدة،
وترميم الأبنية القديمة ذات الطابع المعماري المميز. إنه طموح باتجاه "مدينة عريقة
للمستقبل " توائم بين قديمها والجديد. وينتظر أن يتم هذا المشروع الطموح الذي
ستتوسع فيه بيروت على حساب البحر بحدود عام 2018.
هذا الطموح إلى
البناء يواكبه بالطبع طموح إلى الفعاليات التي ستعمر هذا البناء، ونستطيع إجمال هذه
الفعاليات في كونها قسمين أحدهما مقيم والآخر متنقل. حيث الفعاليات المقيمة هي ما
يختص بنشاط اللبنانيين في وطنهم، والفعاليات المتنقلة تشمل السياحة وعودة
المغتربين. ولعلنا نتوقف أمام السياحة وقفة خاصة لكونها ملمحا لبنانيا لا تخطئه
عين، سواء من رأى لبنان الماضي - ما قبل الحرب - أو من يرى لبنان المستقبل. وعن
لبنان السياحة ومستقبلها يتحدث نقولا فتوش وزير السياحة اللبناني فيقول إن هناك خطة
لإعادة بناء السياحة في لبنان أهم عناصرها: وضع مخطط عام للسياحة بالتعاون مع
المنظمة العالمية للسياحة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والتوصل لسياسة سياحية
مستقبلية، وتحديث جميع التشريعات السياحية، وتشجيع الاستثمارات السياحية وتأمين
حوافزها، وإعادة فتح وتجهيز مكاتب الاستعلامات اللبنانية التي تكون شبكة نأمل أن
تضم لندن، وباريس، وفرانكفورت، وجدة، والقاهرة. هذا إضافة إلى المشاركة في أهم
المناسبات والنشاطات السياحية العالمية كبورصة السياحة في ميلانو وبرلين، ومعرض
السياحة الهادفة في جنيف، والسوق السياحية العالمية في لندن، وتنظيم عدد من الندوات
والمؤتمرات الإقليمية في لبنان كندوة الشرق الأوسط للسياحة والسفر التي عقدت في
أبريل 1994، ولجنة الترويج السياحي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هذا النشاط المكثف
لإعادة البناء سياحيا في لبنان يستند بالطبع إلى كثير من العوامل الإيجابية كموقع
لبنان الجغرافي والاعتدال المناخي الذي يتميز به، والثروة الطبيعية والتاريخية التي
يتمتع بها هذا البلد، والمؤسسات الثقافية العريقة ودور الاستشفاء والاستجمام ،
والنظام السياسي والاقتصادي الحر. إضافة للعنصر الأهم الذي ينهض بتبعات كل ذلك، أي
الفرد اللبناني النشط والمنفتح والدءوب والذي ذاق مرارة الحرب ويتلهف إلى تذوق ثمار
السلام الطيبة في مناخ جديد. لأن شيئا لم يبق على حاله فثمة تغيرات لم يعد ممكنا
معها إعادة عقرب الساعة إلى الوراء.. لكن هذا لا يدعو إلى التشاؤم بل لعله يقود إلى
تفاؤل من نوع جديد.. مختلف.
تأملات نهاية
الرحلة
مرة أخرى عدنا
إلى مطار بيروت. مرة أخرى رجعنا لنحلق فوق المشهد الخلاب لتزاوج الجبل والبحر..
لتناغم خضرة الأرز والصنوبر وبياض البيوت. وفي فضاء المشهد البديع راح الخاطر يراجع
ما ازدحم به بعد المشاهدة، فلا شك أن لبنان مجتمع يتغير كليا وهو يولد من جديد.
فاللبنانيون كانوا شيئا وفي الحرب صاروا شيئا آخر يراوح بين القاتل والقتيل. أما
الآن فهم يبحثون عن صيغة معقولة لحياة معقولة توازن بين متطلبات العقل والمشاعر
والضرورات. ولا شك أن ما تم هدمه في عشرين عاما لا يمكن إعادة بنائه في خمسة أعوام.
ولم يعد إيقاع الحياة في لبنان هادئا وبطيئا بل أصبح عصبيا ومتسارعا تسارع الرغبة
في اللحاق بما فات. ولم يكن الحساب موجودا في حياة اللبنانيين وها هو ينبض في تسارع
خطوهم الجديد. فلقد كان اللبنانيون يمرحون بلا حساب ويفرحون بلا حساب ويبذخون بلا
حساب، وكانوا يحسون "ببركة" في بيوتهم وجيوبهم - كما يقولون - والآن دخلت مرحلة
الحسابات كل مرافق الحياة، ويعكف البعض من الموظفين المرموقين حتى على إجراء حساب
دقيق لمواقيت تحركهم في سياراتهم توفيرا للوقود.
المجتمع اللبناني
عالم يتغير ويتغير بسرعة متجها نحو ذوبان الطبقة المتوسطة التي تضم الموظفين
والمثقفين والجامعيين، وهذا يخلق اختلالا اجتماعيا خطيرا في لبنان، حيث لا يبقى إلا
الإفراط في الفقر أو الإفراط في اليسر. وعن ذلك يقول الصديق الصحفي الدكتور إلياس
البراج: إن الأزمة الاقتصادية المعيشية الخانقة التي هي أهم النتائج الطبيعية للحرب
يمكن أن تصبح أقل وطأة على الناس لو طبقت الحكومة خطة سريعة وذكية للإنفاق المجدي
ذي النتائج السريعة. ولكن انهماك السلطة في إعادة بناء المدن والطرقات لا يقابله
حماس ملموس على الصعيد الشعبي، بسبب غياب برنامج ذكي للتوعية العامة وعدم الاهتمام،
ولو جزئيا، بإعادة بناء المفاهيم والقيم والروابط التي يقوم عليها المجتمع اللبناني
الموحد في التعددية. لم يعد إيقاع الحياة - إذن - هادئا ولا بطيئا في لبنان، ربما
لأن كل لبنان يملك في أعماقه إحساسا دفينا بأن لبنان الماضي حالة منقرضة فهي كانت
الحرية المطلقة مع البحبوحة المطلقة. أما الآن فقد اختلفت الأمور ولعلها أخذت
أشكالا معاكسة. فقد كان الدولار الأمريكي يساوي ليرتين ونصف ليرة وصار الآن يساوي
1750 ليرة. وكان الحد الأدنى للأجور يساوي قبل عشرين عاما 455 دولارا فصار اليوم
190 دولارا.
هذا التغير
العاصف لإيقاع الحياة لعله يكون الأساس لدفن الحرب نهائيا في لبنان، ليس لأن السلام
مشيئة أهل السياسة القدامى الذين لسعت الحرب أطراف أصابعهم، بل لأنه شوق الجيل
الجديد الذي ولد في الحرب واحترق بنيرانها فعرف حقائقها وأبعادها ونتائجها كما لم
يعرفها أحد. وها هو - هذا الجيل الجديد من اللبنانيين يعبر من نار الحرب إلى سعير
غلاء السلام وهو مصر على مواصلة الحياة، إصرارا يفتح ألف نافذة ونافذة للتفاؤل
والدهشة..
تفاؤل بالميلاد
اللبناني الجديد.. ودهشة للقدرة على إنجاز هذا الميلاد الصعب. وبين التفاؤل والدهشة
تنهض بيروت التي غادرناها بينما صوت معجزة الغناء العربي فيروز يصدح في ساحة
الشهداء.." من قلبي سلام لبيروت ". ولبيروت، من قلوب كل الذين أحبوها،.. سلام وألف
سلام.