الواقع أكثر إضحاكاً من الكاريكاتير إلياس البراج

الواقع أكثر إضحاكاً من الكاريكاتير

بهجت عثمان وأربعون عاما من الرسم :
أحيان يكون هو الديكتاتور بهجاتوس العظيم . وأحيانا يكون الفلاح الغلبان الذي ينهزم دائما أما شرطي الحكومة . لقد مكة " الكاريكاتير " من لعب أدوار عديدة . ولكن خطوطه ظلت كما هي .. تستمد خبرتها الأساسية من الرسوم المحفورة على جدران المعابد الفرعونية . وأفكاره أيضا ظلت كما هي : ساخرة من كل قوي ، منحازة لكل ضعيف .

ليس أكثر إيثارًا من أن يقدم الإنسان، والفنان تحديداً ، أعمال شبيه أو زميل له - أو منافسه في اللهجة الطاغية للعالم الجديد.

بهجت عثمان هو هنا الأكثر إيثاراً عندما يجمع رسوم رفاقه ، ويعلق عليها ويصدرها في كتاب بنفس العنوان : " رفاق السلاح " وكأنه عائد من معركة . ويحمل الكتاب معه، وإلى أين ؟ إلى حفل تكريمه من خلال المعرض الذي استضافته " دار الندوة " في بيروت في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر إبريل ( نيسان ) الفائت، حيث عرض لجميع مراحل فنه ووقع كتابه عن الرفاق وكأنه يعرض للكاريكاتير العربي، ولبعض ملامح الديكتاتور العالمي، كأنه يستجمع مختلف إبداعات هؤلاء ليعلن أن الكاريكاتير سيبقى سلاحا وأن انكفأ الآن بغدر من الواقع والواقعيين. كيف ؟ في حوارنا معه لا يتردد في الاعتراف : " الواقع أصبح أكثر إضحاكا من الكاريكاتير نفسه ".

من القاهرة جاء وحل ضيفا خفيفا على بيروت، حيث أحباؤه كثر ، مع أن الجيل الجديد لم يعرف مسلسلاته الرسومية الكاريكاتيرية التي اشتهر بها، وشكلت مساهمته في ازدهار هذا الفن الساخر.

يكثر بهجت من الحديث عن " المقهر" و " المهجر" .. ويختصر كل القضايا بتعبير " الأزمة العربية الواحدة " .

الإفلاس

أربعون عاما من الإبداع والسخرية يحملها معه أينما حل لتشكل رصيدا كان دائما مادة للنقد ، وقناة ينفذ منها الضحك - دون تهريج عبثي - ويعمم بها الأمل عبر الترويج للنقيض وتضخيمه إلى حد لا يطاق.. لكنه الحلم " تهاوى تحت دعاوي كابوس السلام الكاذب مع ألد أعدائنا، انكسرت روحي وقادني الإحباط إلى الشراب، وما أمرها خمر الهزيمة.. ضياع.. غربه.. انسحاب إلى سراديب باردة.. الحوار فيهـا أخرس.. والضحكات فارغة. العويل منها أرحم" .

ومع ذلك ، عاد بهجت الكبير ( 64 عاما ) من حيث لا يفكر أحد ولا يحتسبه رقيب. خرج من حصار الواقع للكاريكاتير ليدخل في أخطر حلقات التوجيه.. قاصداً الأطفال ، وعلى هذه الجبهة يعكف منذ سنوات ينقل إليهم أحلاما ويعبئهم ويحرضهم ببساطة روحهـم.. علهم يحققون ما عجز بهجت وجيله أن يصلوا إليه.

وليس هناك قلب أكبر من قلب ساخر يتوجه بأحلامه وبرصيده الفني الطويل إلى عيون صغيرة وفلذات بريئة دون الاعتداء على عفويتها.

غير قابل للتصنيف

وهكذا جمع بهجت عثمان في معرضه ببيروت أشكالا من إبداعه : رسومات قديمة - جديدة، شغلها في القاهرة وفي الكويت - " العرب " - لوحات للأطفال، و " سجاجيد " عليها رسوم وأبيات شعر استلهمها من كتاب " الأغاني " وأعجب بها بعض الحرفيين ونقلوها في أعمالهم .

برغم انكفائه عن الرسم الكاريكاتيري ، إلا أن رسومات وعطاء هذا الفنان في مرحلته الذهبية، هي الأكثر تلازما وانسجاما معه أيا كانت تداعيات السلبيات التي جعلته يتحول عن هذا الخط.

ولا يمكن أن يذكر بهجت عثمان إلا وتذكر معه مسلسلاته التي اشتهر بها في المجلات وذاع صيته من خلالها مثل "المجمع اللغوي" و"عشة الفراخ" و"السينما المصرية" و"هارون الرشيد" ..

وليس سهلا تصنيف مذهب رسامنا هنا في الكاريكاتير، إذ لسنا أمام نمط واحد، ولا مجال واحد في البحث عن جوانب "فاقعة" تستحق النقد المضحك المبكي دائمات .

فتارة تواجهنا أعمال بهجت وكأننا أمام لوحات تؤرخ لحقبة، أو قصة قصيرة تصلح، برسومها وشخوصها وتعليقاتها، لشريط صور متحركة.. إنما للبالغين فقط. ونعرج هنا على ملحوظة ، إذ يكثر بهجت في بعض " لوحاته " من الكلام، ونخشى أن نتهم أسلوبه ؟ عندما ينحر إلى ذلك، بالعجز في التصوير، أو في الربط بين الرسم والفكرة، دون واسطة، ولكن سرعان ما يتلاشى هذا الاتهام عندما نصل إلى مكانة وموقع "بهجاتوس"، في فن بهجت حيث تندر في هذه السلسلة، الأحرف، فيكتفي بالعنوان في أحيان كثيرة.

في رسم "صحافة والوحش"، على سبيل المثال، تكثيف في العناصر والحوار من طرف واحد، ولعل الأفكار اللاذعة الهازئة بالعاملين لا " مهـنة العبث والاسترزاق والتسالي "، لا تجتمع إلا من خلال التكثف هذا، وكأن بصاحبها يريد " فش خلقه" كله في عمل واحد حتى وإن كان ذلك مضنيا للقارئ الذي يفضل عادة السرعة في الفهم.. مستعجلا البسمة التي من خلالها تترسخ الفكرة في الذهن.

النص عزيز جدا على ريشة بهجت ضمان. ياليته يحاول أيضا، ولن يكون الوقت متأخرا أبدا مهما طغت السلبيات على الواقع والكاريكاتير، ياليته يحاول الكتابة الساخرة بشكل دائم، فبعض أعماله قابلة للتحويل بسرعة - وبتصرف إلى هذا النوع من فنون الأدب. ونجزم دون أن نملك معطيات محددة أن بهجت عثمان أوحى من خلال كثير من رسومه، بأفكار أغنت بعض زوايا الكتاب الساخرين.

وكلمة " ياليت " مردها إلى أن من يعش بعض الوقت مع كاريكاتير بهجت يشعر دون كبير عناء، أن هناك كبتا للحلم الذي ضاع ، وأن الأدب السياسي الراهن،أيا كانت تراجعاته ، يجب ألا يحرم من تاريخ "الكاريكاتيريين" للإحباط الذي حل بمرحلة كاملة ضمت أكثر من جيل.

عندما يرسم بهجت "علموا أطفالكم الديمقراطية" بشراء صناديق الانتخابات المنزلية من إنتاج حكام دول العالم التاسع - الثالث سابقا - ( لماذا التاسع وليس الثامن أو العاشر؟) ، تراه يصور لنا صندوق " النعم، كبيرا في فتحته وصندوق " اللا " معدوم الفتحة. وعندما يعود - غالبا ما يعود - إلى الموضوع نفسه، يبدع لنا بطاقة استفتاء تخيرنا بين "نعم - أو- نعمين - أو - نعمات". وهذا نوع من القدرة على التلاعب الخلاق والدمج بين اللغة والسياسة.. وهي قدرة أكثر تعبيرا من الصورة. وهذه سمة يتميز- أو تميز- بها بهجت.

مجددا نقول إنه غير قابل للتصنيف. فعلى عكس ما تقدم تأتي أعمال أخرى، مبسطه مفاجئة دون أي شرح. الانقلاب لا يعني سوى صورة الزعيم - نفسه - مقلوبة " المستشار الصحفي "، يعني طبالا لقلم يرقص وعلى وسطه شال . "الحوار الوطني" يتمثل في جهاز هاتف مزدوج، بسماعتين. وإنما الخط واحد.

إذن، هناك أسلوبان. وهناك بالألوان، إضافة إلى الأسود على الأبيض. إنما لا بد من الإشارة إلى أن "هوى " بهجت في النزوح أحيانا إلى النص، عائد بشكل أساسي، إلى التزامه الذي يصل إلى حد أن يكون على حسابه وعلى حساب فنه .

التزام بماذا ؟ هو يقول: بحقوق الإنسان. التي تثير لدى رسامي الكاريكاتير ما يشبه " جنازة يشبعون فيها لطما على خدودهم ". إرهاص الحرية ماثل غالبا في أعمال بهجت، وحتى الآن في رسومه للأطفال يحاول أن يلقنهم إياها بطريقة جديدة. فالحرية متلازمة مع الإبداع. وهو يريد أن يدلهم إلى هذا الأخير.

والحرية ماثلة أيضا في الأحلام التي مضت، كمحور أساسي في حركته ورسمه. فلها ولأجلها، اختار الكويت، في السبعينيات، الكويت " الوطن الصغير الكبير،.. الزاخر بالآراء الحرة حيث تلاقي إعداد ممن يستطيعون أن يخدموا وطنا عربيا متطلعا إلى التقدم " كما يقول د. علي الراعي مستذكرا بهجت - وهو - في ذلك الحين.. وشارحا كيف أن بهجت استوحى سلسلته " بهجاتوس - رئيس بهجاتيا العظمى - الديكتاتورية للمبتدئين" مما كتبه الراعي في مجلة " العربي" عن الدراما الأمريكية " الإمبراطور جونز". لم يكن ثمة مجال أمام بهجت إلا الالتزام المبني على تصور كلي. وهذا ما ترسخ في أعماله لاحقا عندما ترك النقد الفردي العابر لظواهر متفرقة ليختار المسلسلات. كان هناك حتمية الصراع التي كانت تشد الخناق على الحلم، فكان هذا الأخير يطلق كل أسلحته قبل أن يقبض عليه.

الأصل.. فرعوني

عندما يشهد الفنان "هزيمة" التزامه، فإنه يطلق أخطر شهادة "ولطمة" للمجتمع ككل.

على هامش معرضه في بيروت سألت "العربي" بهجت عن أحوال كاريكاتيره اليوم فأجاب :

- يأتي وقت يشعر فيه الفنان أنه عاجز عن التعبير عن نفسه، لأن الكاريكاتير أساسا، ساخر. وغاضب ومحرض ضد السلبيات الموجودة. ولكن حين تصبح السلبيات إيجابيات العصر، يجد المرء نفسه عاجزا عن مواكبتها، وحين تصبح أوضاعنا أكثر إضحاكا من قدرتنا على التعبير عنها، يجب عليه حينها أن ينقل عطاءه إلى لون آخر يمكن أن يكون أحسن.

يعني واقعنا أكثر سخرية من " كاريكاتيرك "؟

- نعم.

حتى بهجاتوس وديكتاتوريته وشخصيته العزيزة عليه؟

- صدقني، لقد وجدت في النهاية أن " بهجاتوس " أكثر رحمه من الواقع..

ألهذا ترسم للأطفال؟

- اللوحات المعروضة عند مدخل المعرض هي جزء من كتب الأطفال التي كتبتها ورسمتها بنفسي أحيانا أو رسمتها وكتبها كتاب آخرون. وفيها أحاول استخدام أساليب قريبة إلى قلب الطفل ، أدعوه فيها إلى أن يبدع بنفسه.

والرسوم على السجاد ؟

- إنها محاولة لمعمل من نوع آخر، في وقت من الأوقات استلهمت من كتاب الأغاني رسوما وأبيات شعر وعملت مزيجا منها، أحيانا طبعت على بطاقات بريدية (كارت بوستال). وقد رأى فيها الشباب الذين يشتغلون في السجاجيد لوحة لترجمتها عليهـا.

بين المجموعات الكاريكاتيرية التي رسمت أيها أقرب إليك؟

- ليس هناك واحدة أفضل من أخرى بنظري.

ما رأيك بالكاريكاتير في التلفزيون ؟ وهل الكاريكاتير في الصحف يواجه مشكلة؟

- محاولة ، تتبعها الآن كثير من التلفزيونات في لبنان، إلا إنها لم تنجح كما يجب، لأن التلفزيون يعتمد على قوة الصورة وحركتها.. إجمالا، المهم لكل وسيلة إعلامية الأسلوب.

الكاريكاتير بحاجة إلى كتاب وسينما ومجلات وتلفزيون، المهم مدى تلاؤم أسلوبه مع مقتضيات هذه الوسائل.

كيف ترى أصل الكاريكاتير وانتشاره في الوطن العربي وما يقال أنه نقل من أوربا؟

- البداية قديمة جدا.. بدأت من أيام الفراعنة.. هناك برديات كثيرة وجدت عليها رسوم كاريكاتيرية، تتحدث أيضا عن انقلاب الأوضاع، عليها مثلا، فرس النهر واقف بحجمه الهائل الكبير على شجرة، أو طائر يضع سلما على جذع شجرة ويحاول أن يصعد على درجاته، أو الذئب في صورة راعي الغنم.. وهذا نوع من السخرية الراقية جدا.. والظاهر أن انقلاب الأوضاع موجود من أيام الفراعنة.

هل تقول إن أصل الكاريكاتير فرعوني؟

- على مدى معرفتي.. أنا شاهدت برديات فيهـا كاريكاتير راق جدا وفيهـا معنى الكاريكاتير.

لكن عودة الكاريكاتير إلى مصر، مع الصحافة.. حديثا؟

- الكاريكاتير جاء من الشام مع "أبونظارة" ومجلته، التي تحمل نفس الاسم في أواخر القرن الماضي، الفكاهية رسما وكتابة.

من يلفت نظرك من الكاريكاتيريين الحاليين؟

- الوطن العربي غني جدا برسامي الكاريكاتير. العربي الصبان في المغرب. رشيد آيت في الجزائر ، ورسام عظيم يكاد يكون عالميا ولكنه لا يرسم حاليا، هو الزواوي في ليبيا. وفي الشام علي فرزات، ياسين خليل أيضا، في لبنان جان مشعلاني وبيار صادق وعدد كبير آخر.

في الصحافة المصرية؟

- مصطفى حسين، وفي الأهرام ناجي..

وأنا لا أحب شغل مصطفى حسين ولو أنه من أشهر رسامي الكاريكاتير، وهو يرسم في الحياة أيضا.. ولكن لا يرسم فكرته. برأيي أن رسام الكاريكاتير أساسا عنده هموم، ويقوم بالبحث عن وسيلة أو أسلوب للتعبير عن هذه الهموم.

وكتاب "رفاق سلاح " آخر إصداراتك ؟.

- هو تسجيل للحياة التي عشتها والحلم الذي عشته.

لم أعشه لوحدي، بل وسط رفاق تعلمت منهم وزاملتهم، وكنا نحمل الهموم الواحدة ورغبة قي التغيير إلى الأفضل.. والرفاق هؤلاء ، منهـم أصدقاء.. ومنهم رفاق عرفتهم على الورق فقط..

هو ..

تعرف الصحافة العربية ، والمصرية خاصة أعماله فنان الكاريكاتير بهجت منذ أربعين عاما ، الذي شارك في تأسيس مدرسة الكاريكاتير المصري / العربي التي ولدت على صفحات مجلتي " روز اليوسف " و " صباح الخير " في منتصف الخمسينيات ، وذاعت شهرة عدد من مسلسلاته الكاريكاتيرية : " المجمع اللغوي " و " عشة الفراخ " و السينما المصرية " و " هارون الرشيد " وغيرها .

في منتصف الستينيات انتقل كاريكاتير " بهجت " إلى صفحات مجلة " المصور" في فترة رئاسة أحمد بهاء الدين لتحريرها حيث استقر لزمن رسم كبير - لوحة - مزدحم بالبشر يشغل صفحتين كاملتين عن هموم المجتمع المصري . ثم قدم بهجت على صفحات جريدة " الأهالي " مسلسلات جديدة منها " حكومة وأهالي "، " الرئيس بهاجتوس رئيس بهجاتيا العظمى " ، و " شيخ الغفر " و " الموكب الرسمي " وغيرها .

وساهم بهجت ، كتابة ورسما في مجلتي الأطفال مثل " سندباد " و " سمير " و " ميكي " و " ماجد " .. إضافة إلى عدد من الكتب مثل " صداقة بلا حدود " .

بعض المجموعات صدرت في كتب ، آخرها كان " رفاق سلاح " الذي يقدم فيه العديد من رفاقه في المهنة .

 

إلياس البراج

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بهجت عثمان





الرسم للأطفال ودعوة للإبداع





بهجت بريشته





غزلان.. من رسومه للطفل





رسوم بهجت على السجاد





غلاف كتاب رفاق سلاح