- لا أعتقد أن
الأيديولوجيات قد سقطت، بل إن ثمة إيديولوجية معينة قد سقطت وكانت قائمة على القهر
والوصاية العلوية، التي اتخذت من القيم الاشتراكية شعارا دون أن تعتنقها حتى، ودون
أن تسعى إلى تحقيقها على الإطلاق، هذه الأيديولوجية - النظم التسلطية هي التي سقطت
لتحل محلها أيديولوجية النظام العالمي الجديد، أيديولوجية ما بعد الرأسمالية، ما
بعد الصناعة، ما بعد الحداثة تلك التي وصفتها في سؤالك، وأتفق معك في هذا التوصيف
الذي وصفته منذ بداية السبعينيات في مقالة حظيت من الشهرة حينذاك.
الإجابة عن سؤالك
- مع صعوبة الإجابة، واستحالة أن تكون شاملة بالطبع - هي: نعم، فشل الفكر العربي،
ولعل السبب ببساطة، أنه تخلى - في الأساس وفي الأغلب الأعم - عن المقوم الرئيسي
للفكر، أعني تحكيم العقل والعقل وحده، في النظر إلى كل المسائل دون استثناء،
المقدرة على رؤية وتحديد وجهة النظر الأخرى، أو وجهات النظر الأخرى، تلك القدرة
التي كانت سببا في ازدهار الفكر العربي في أزهى عصوره "الفلسفية" أو الفكرية، ما
زالت هناك مناطق محظورة على الفكر، ولكن الفكر لا قيام له إلا بامتناع كل محظور،
وإمكان النظر بحرية لا تضبطها ضوابط العقل وحده، في كل المسائل دون استثناء. وما لم
نكسر حاجز المحظور في الفكر (وفي الفن) فلا قيام لفكر حقيقي في ثقافتنا العربية،
ولا أقول "فكر عربي " فليس للتوصيفات القديمة أو العرقية مكان في هذا السياق. الفكر
إنساني وكوني، وإسهام المفكرين العرب في هذا السياق لن يكون فاعلا وجادا إلا إذا
كانت العقلانية، والمقدرة على الحوار، وإمكان وضع كل شيء دون استثناء موضع السؤال
هي الحوافز والمعايير.
هل أقول إن
مشروعات "التنوير" قد أخفقت لأنها نكصت عن تحمل عبء الحرية؟
نحن والتراث
الشعبي
- أقصد تلك
المقومات التراثية والشعبية الخاصة التي تندرج في الثقافة المصرية الإسلامية
السائدة، وتغتذي بها، بل تعيش فيها بلا انفصال ولا تجزئة ممكنة، وليس الأمر هنا أمر
عقيدة دينية، إنما أتكلم عن الدين بوصفه مقوما ثقافيا، وليس الأمر هنا أمر عقيدة
دينية بتاتا كما قلت، كما تعرف أن الخبرة الدينية شيء حميم وخاص بين المرء وربه،
ولعل من مقومات هذه الثقافة الفرعية الخاصة مفهوم الاستشهاد في تراث "السنكسار"
مثلا، ولعل فيها مفاهيم ميتافيزيقية من قبل الخطيئة الأولى والخلاص، والفداء التي
ترجع أصولها إلى جذور مصرية قديمة، قد تكون من تراث كل الأديان البدائية، ولا ننسى
أن في الممارسات الطقوسية المصرية سمات مشتركة وأصيلة وعميقة الجذور، في الترانيم
والمدائح، في الموالد والأذكار في السبوع والختان "الطهور" في التبرك بالأولياء،
والشفعاء سواء كان من أسمائهم الست "زينب" الطاهرة أو سيدنا "الحسين" أو السيدة
"نفيسة" أو "مار جرجس" أو "سانتا تيريزا".. وهكذا. لي هوية نعم لكنها أساسا هوية
مصرية وعربية وليست تحديدا أو قصرا "قبطية".
ولا يخفى عليك أن
جسد العمل الفني لا يتكون من "معارف " فقط - إلا إذا كانت المعارف عقلية وإشراقية
في آن، فكرية وروحية معا، ومهما بدا في الظاهر من تناقض في هذه "المعارف" فالمأمول
أن تتسق في وحدة متناغمة داخل جسد العمل الفني، متعددة ولكن متراسلة. أليس الإنسان
آخر الأمر يضم كيانا من التناقضات يوحدها، ويلمها دون أن يستحيل قالبا مصمتا أحادي
النغمة؟
أما من حيث
استطاعتي "توظيفها" فإنني غير قادر على الإجابة. هل يستطيع الكاتب أن يفض سر عمله
الفني؟. إنه يطيل التأمل فيه، في البحث والنظر في غمار حميا الإبداع. كما تعرف فإن
للعملية الإبداعية آليات مازالت مستخفية عني، لحسن الحظ، فلعلها إن تجلت لي تفككت
بين يدي، أو تساقطت في نفسي أشلاء ومزقا.
أطفال
وأسلاف
- الشائع المأثور
أن "الطفل أب الرجل "، في الطفولة كما يعرف علم النفس. كما تستشرف البصيرة ويدرك
الحدس، تتكون مقومات الرجل التي تلازمه طيلة حياته. لكن الطفولة ليست صنوا للفردوس
المفقود، ليست كما يجري التصور الرومانسي أو المثالي، هي عالم البراءة والنقاء
والطهر والبكارة. لا شك أن فيها عناصر النضارة والتعرف الأولي على الأشياء، لكن
فيها أيضا عناصر القسوة والقهر والخوف والشر. وهو ما يصدق على كل طفولة.
أما طفولتي التي
تبدو الآن بعيدة سحيقة البعد، وماثلة قريبة كأنها تحدث الآن من جديد، في آن معا،
فلقد كانت في ذلك الحي الشعبي في أقصى جنوب - إسكندرية العشرينيات والثلاثينيات،
حيث الحدائق الصغيرة، والبيوت من دورين، وتعريشات العنب، كان الحي يقطنه في الغالب
صغار الحرفيين، وصغار التجار من أهل الصعيد. كان لي أخ ولد قبلي بثلاث سنوات ومات
بعد ولادتي بخمسة عشر يوما.. قالت لي أمي حينها "لقد رضعت لبن الحزن يا بني"، ولذلك
نذر والدي أن تجرى لي طقوس "التنصير" في دير الملاك "ميخائيل" في "أخميم". وعندنا
لا يدخل الطفل الجنة إذا مات قبل العماد. وتحت ظل هذا الوعي المبكر بالرعب
الميتافيزيقي عشت سنوات الطفولة. حتى السابعة لم يكن السفر من الإسكندرية إلى أخميم
أمرا ميسرا وعندما ذهبنا إلى الدير الموحش أعلى الجبل كان الاحتفال بالتعميد بهجة
نادرة.
عرفت مفازع ومباهج
عميقة الوقع في تلك السنوات المكونة، الأولى، وعرفت الحب والإيمان وصداقات لا تنسى.
كنت ألقي لأخواتي البنات اللائي كن يسمعن منى وأنا في العاشرة قصائد الشعر العربي
الجاهلي أو العباسي. حكايات ستي هيلانة، وخالتي نورة وما تيلده.. عرفت كتبا قليلة
كان مقفلا عليها في خزانة صغيرة فتحتها وقرأت "كليلة ودمنة"، ومنتخبات من الأدب
العربي القديم، وكتاب "الأدب والدين عند قدماء المصريين". هل كنت طفلا عندئذ بعد أن
قرأت "ألف ليلة وليلة" وتيقظت حواسي كلها وشطحت خيالات ما أروعها. وبدأت أقرا
منهجيا صفحة بعد صفحة "مختار الصحاح" والتوراة والقرآن الكريم. إلى جانب تلك الكتب
قرأت "الأيام" وأنا في التاسعة، وما لا نهاية له من الروايات والمجلات، ثم عرفت
طريقي إلى مكتبة البلدية بالإسكندرية. تفتحت آفاق الأدب القديم والحديث من "صبح
الأعشى" إلى ترجمات "أحمد حسن الزيات" لروائع "لامارتين". هل كان "جبران خليل
جبران" الذي سحرني في تلك الأيام الأولى عنصرا فاعلا؟. جاء بعده "سلامة موسى"
وعلمني كيف أفكر. أذكر كتابا عن "بودلير" "الشاعر الرجيم " لـ "عبدالرحمن صدقي "
كما أذكر كتابات "إبراهيم عبدالقادر المازني" عثرت بعد ذلك على قصص متفرقة لـ "يحيى
حقي" الذي كان مجهولا تماما حينذاك. في تلك الأيام كنت غارقا في يم الشعر العربي من
"امرئ القيس" و"عمر بن أبي ربيعة" إلى "البحتري"، من "المتنبي" الذي أحبه كثيرا إلى
"المعري" ومن "البارودي" إلى "شوقي" إلى "محمود حسن إسماعيل ". وعندما أجدت
الإنجليزية تفتح لي عالم مزلزل من المعرفة واهتزاز القلب، وجيشان الروح، بدءا من
الروس العظام "جوجول" و"ديستويفسكي" و "تولستوي" لذي ترجمت روايته الهائلة "الحرب
والسلام" "تشيخوف". ومن مكتبة الدكتور "أبو شادي" قرأت "عشيق الليدي تشاترلى" التي
لم يكن مسموحا بها في إنجلترا، و قرأت " شيلي" و"بايرون" و "كيتس" ثم عرفت "فرويد"
و"ماركس" بعد أن ألممت بتاريخ الفلسفة في الوقت الذي كنت أقرأ فيه كتبا مثل الكامل
" للمبرد، أو "العقد الفريد".
كيف يمكن للمرء أن
يتعرف في هذا الخضم من القراءات على هؤلاء الذين شكلوا عناصر روحي؟ لم تكن قراءة بل
كانت حياة أكمل وأملا وأعتى أرق ما تكون الحياة في وقت واحد. وفي معتقلات الملك
"فاروق " علمت نفسي الفرنسية ومن ثم عرفت السيريالية والوجودية ومغامرات الرواية
الحداثية في الخمسينيات المبكرة.
هل نسمي تلك
طفولة؟. وهل نسمي هؤلاء آباء؟. كانت يقظتي مبكرة وحارة ومحتشدة، ومضطربة المياه.
ليس للرغبة في المعرفة نضوب، ولا أظنني جمدت عند شيء، أو عند حد، مازلت في هذا
العمر كأنني الطفل الذي يضرب بقدميه على شاطئ البحر.
السعي
للمستحيل
- أطمح فيما أكتبه
إلى إسقاط مقولة "الزمنية".
- ينبغي أن أخبرك.
أنا أطمح ألا يندثر الماضي قط، وأن المستقبل يمثل الآن، هذه "الراهنية" هي مطمحي
لا.. ليس الماضي عندي مرادفا للمصير الإنساني، ليس عندي ثم حنين إلى الماضي، لا أجد
في الماضي- مثلك - جنة مفقودة، ليس عندي أدنى تصور أن المجد كان في الماضي فقط.
المسألة أشمل وأدق من ذلك بكثير، في صلب العمل الفني نفسه. أطمح إلى نوع من تحدي
الزمنية، ومن ثم على الرغم من أنني أضع شخصياتي جميعا في زمن محدد وتاريخي أي
أكسبهم معطيات واقعية، وتدور مساراتهم في سياقات محددة، وحول بؤر تاريخية معروفة
بالتالي تكتسي هذه الشخصيات بعدالة مصداقية واقعية، أقول على الرغم من ذلك فإنني
أطمح، وأظن أن ذلك قد تحقق، إلا أن هذه الشخصيات وخاصة "رامة"، وشخصيات رواية "
حجارة بوبيللو" أو "رقرقة الأحلام الملحية" تتجاوز تلك المصداقية التاريخية إلى
مصداقية أشمل ولعلها تأخذ بعدا أسطوريا، لا يتأتى فقط من انصهار مقومات أسطورية
وحديثة معا، ولا يتأتى من إيحاءات رمزية مضمرة، أو سافرة، بل يكون إجماع ما أسميته
إسقاط مقولة "الزمنية" نفسها، بحيث توجد أزمان بدائية ومصرية قديمة قبطية وهيلينية
وإسلامية ومعاصرة، بل توجد أزمان متخيلة لم تحدث قط تتمازج في مركب متضافر، مقوماته
على الرغم من تنوعها تظل متسقة فيما أسميه "بولوفونيه"، أي تعدد نغمات الأزمان مع
هرمونيتها أي انسجام لحنها الأساسي في وقت معا.
مجمع الألفة
لإنسانية
- المكان يتجلى
عندي في تضاعيف العمل الفني، إنه حالة روحية. يتجسد في رقيق التفاصيل، يعج بالحياة
وذوق وبصر ورائحة وصوت، حالة روحية توشك أن تكون ميتافيزيقية، لأنه محط السؤال الذي
لا ينتهي أبدا إلى إجابة. جمالية المكان عندي ليست حسية فقط - هي كذلك بامتياز -
لكنها أيضا "ما وراء واقعية".
لقد لاحظ أحد
النقاد أن المكان عندي بتفصيلاته المحددة هو مكان كلي شامل وأن هذا " الكل " في
الوقت نفسه أحد تفاصيل واقع ما أتصور أنه يشمل الواقعي ويتجاوزه فإذا أخذنا مثلا
تلك الصخرة التي تجنح عليها النوارس البيضاء في شاطئ "جليم" في الإسكندرية أو ذلك
الشارع بالليل في "غيط العنب" الذي اجتمعت على شجره غربان سود، هذه تفصيلات قد تبدو
صغيرة ودقيقة ولكني لا أظن أنني بحاجة إلى بيان إيحاءاتها المتعددة من حيث اللون،
أو الكتلة أو غير ذلك مع أبعاد جمالية، وقد تكون ميتافيزيقية كذلك، والمسألة نفسها
تصدق على قرية "الطرانة" في محافظة "البحيرة" وهي موقع حجارة "بوبيللو" التي هي في
الوقت نفسه هيكل لـ "أبوللو" و"ديونيزوس" معا. أما الإسكندرية بحواريها، ومراتعها
وموقعها، بشواطئها اللا نهائية، ووقائعها اليومية فهي مناط العشق، وسؤال الأبد،
ومواجهة المستحيل، وفي الوقت نفسه التي هي فيه حقيقة يومية معيشة يكد فيها الناس
ويموتون، يحبون ويتحايلون على المعاش، ويكافحون منتصرين حينا ومنهزمين كثيرا لكن
دائما بكبرياء، فالمكان هنا على كل خصوصيته وما يحمل من طاقة ملموسة ومجسمة هو كذلك
"اللا مكان".
خبرة
اللغة
- فلنقل أولا إن
اللغة عندي - وعند كل أحد - لا تنفصل ولا يمكن أن تنفصل عما تحمله من خبرة أيا كان
نوعها "جسدية أو فكرية أو انفعالية وغير ذلك.. "اللغة لا تنفصل إذن عن مادتها بحال.
المشكلة هي في أن القراء عودوا على نوع من لغة مسطحة تتكون من قوالب ممسوحة، وسهلة
التوصيل، وبالتالي فخبرتها الحياتية ساذجة ونمطية أي مكررة ومستنسخة. لغة الكتابة
عندي هي لغة الإبداع لا الاتباع، لغة الضرب في دروب غير مطروقة لا السير في دروب
مهدت حتى ابتذلت. لغتي هي لغة جسدي وأشواقي الروحية معا، لغة أطمح أن تكتسب حياة
عضوية مرنة تنبع من قلب الواقع اليومي، وخبرته المعيشة دون تنافر بين هذين
الجانبين. لغة تسري فيها أنفاس الشعر كما تبرز فيها كتل صماء من التقريرية
والوثائقية جنبا إلى جنب.
أظن اللغة عندي
حسية في المقام الأول سواء كانت بصرية أم لغة اللمس والذوق ونغمات العالم، متعددة
الموسيقى. لعلك تشير إلى تلك الفقرات والمقاطع التي قد تطول وقد تقصر إذ يتسيد فيها
صوت موسيقي واحد أو أكثر ليسيطر على اللغة سيطرة تبدو صارمة وإن كنت أرجو أن تكون
حانية.
إلى جانب الضرورة
الانفعالية أو الفكرية في هذه المقاطع، أظن أنني أسعى هنا إلى نوع من المستحيل، هو
الجمع بين المعنى المحدد للكلمات وتتحمله من دلالة قاطعة من ناحية، وبين الإيماء
الموسيقي من حيث الجرس والصوت من ناحية أخرى.
- أولا فلننته من
مسألة الغموض أو الاستعصاء على الفهم فهي مسألة نسبية تماما من ناحية، ثم إن قراءة
العمل الفني شأنها في ذلك شأن قراءة الموسيقى الكلاسيكية أي سماعها بفهم وتذوق، أو
قراءة اللوحات التشكيلية الحديثة، تحتاج كلها إلى نوع من الدربة والمرانة واللقانة،
وهي ليست بأي حال معطاة مبذولة وتأتي عفو الخاطر، بل هي ثمرة تحصيل وتذوق وألفة، من
ناحية أخرى فلنسقط جميعا وهم السهولة التي هي من التسطيح والابتذال. لقد آن الأوان
لكي نأخذ العملية الفنية بمسئولية أكبر مما عودنا عليه الرواد الأوائل مع كل
الاعتراف بفضلهم. قلت أكثر من مرة، منذ زمن طويل إنه يكفيني قارئ واحد متفهم وعارف،
أدهشني أنني قرأت هذه العبارة نفسها عند "أوكتافيوباث"، من غير أن أقيم أية مقارنة
بطبيعة الحال، ولكن التطور في ذوق القراء العرب يوحي بأن الكتابة الحداثية أصبح لها
بالفعل جمهور واسع، أسعدني أن كتبي هي الأكثر مبيعا في إحدى دور النشر. هذا كله ليس
في اعتباري عندما أكتب، لأنني عند الكتابة لا أتمثل إلا قارئا واحدا هو الكاتب
بعينه. كما تعرف فأنا أطمح لقارئ مبدع لا يتلقى الكتابة سلبا بل يشارك في إنتاجها
كل مرة وفي كل حالة. من قال إنه ليس ثم قراء يسعون إلى كتبي؟ أتصور أن قارئي هو
الذي تزدحم به قاعة الأوبرا الفسيحة فلا تجد موطئا لقدم وتحجز كل التذاكر مقدما
لأسابيع عند أداء فرق الباليه أو الأوركسترا أعمالها الرفيعة.