صقلية من عصور الفروسية حتى زمن المافيا محمد المنسي قنديل تصوير : حسين لاري

صقلية من عصور الفروسية حتى زمن المافيا

كان "سبارتاكوس" يحلم بالوصول إلى شواطئهـا ليجعلها وطنا للعبيد الأحرار، ولكن سيوف السادة الرومان لم تدع له طريقا إليها. كانت هذه الجزيرة مأوى للمضطهدين، ومعبرا للفرسان. فرسان الإسلام والصليب. وبرغم أنها تبدو ضائعة وسط أمواج المتوسط الزرقاء فإن هناك خيطا يربطها بالعالم السفلي لأشهر وأقوى مدينة في العالم "نيويورك".

تملكنا خوف حقيقي ونحن محاصرون وسط طرقات الجبل الضيقة. كان السائق الصقلي يحاول أن يبدو متماسكا إلا أنه كف عن الثرثرة والغناء والتلويح بيديه كأنما يؤكد كل كلمة، وأخذ يحدق أمامه عبثا ليجد لنا مخرجا. كان الضباب الكثيف المتماسك الذرات يحيط بنا من كل ناحية. لم تعد هناك معالم ولا اتجاهات ولا إحساس بالمسافة. والسيارة تبدو كأنها تنزلق إلى هوة بلا قرار. حتى الياباني - رفيقنا في الجولة - سقط القناع من على وجهه وبدت على وجهه - الخالي من التعبير- تعبيرات الفزع . لم نكن نحلم بالتوقف واللجوء إلى أي قرية جبلية. فسمعة القرى الجبلية ليست جيدة.. ولا أعتقد أنها تؤهلها للاحتفاء بأي غريب.. لقد عاشوا وسط جبالهم المنعزلة وسط ظروف صعبة وقاسية خارج كل الأنظمة التي فرضت عليهم ووفق تقاليد متوارثة تنزع إلى الشك والريبة من كل غريب.. فالغريب القادم هو شر آت كما يقول مثلى صقلي قديم.

لم تنته لحظات الرعب إلا عندما بدأ المطر في التساقط.. عاصفة مائية غزيرة بللت كل شيء وأزاحت الضباب من أمامنا.. استطعنا أن نرى الأضواء المنكسرة للسيارات والقرى الجبلية البعيدة. بدأنا ننزلق على ممرات الجبل ونحن على الأقل نعرف إلى أين الاتجاه. كان هذا الجو هو جزءا من طبيعة الجزيرة ومن البشر الذين يعيشون عليها. على حد قول أحد المؤرخين.. "لحظات الصفاء في تاريخنا قليلة جدا.. " أفاق صديقنا الياباني فجأة من صمته. وقال: "سوف أرحل الليلة. لا أريد أن أعود إلى الفندق. أمتعتي معي وسوف آخذ القطار إلى روما..قلت له مدهوشا: هل نسيت أننا في جزيرة وسط الماء.. كيف ستذهب إلى روما بالقطار.. نظر إلي مشفقا من جهـلي وقلة معلوماتي وأخرج خريطة وبدأ يشرح لي عليها خط سيره. سوف يأخذ القطار من " باليرمو" عاصمة الجزيرة ويمضي على طول الساحل شمالا حتى مدينة "ميسنيا" أقرب المدن إلى ساحل شبه الجزيرة الإيطالية. وهـناك ينقسم القطار تلقائيا إلى عدة عربات تتحول كل واحدة منها إلى عبارة مائية تعبر الارخبيل الضيق في مدينة " روجيرو دي كالبيرا" ثم تعاود العربات التجمع لتواصل رحلتها إلى روما في رحلة لا تزيد على 12 ساعة.

لا أدري لماذا تذكرت في هذه اللحظة حلم سبارتاكوس العظيم.. كان عبدا ومقاتلا يجيد مصارعة الآخرين وسط الساحة حتى يرضى رغبات سادته الرومان. ولكنه قادر على النظر أبعد من هذا السيف الذي يحمله.. لم يعد يحلم بقتال الآخرين ولكنه كان يريد أن يكون له أرض يزرعها وزوجة يأوي إليها. وايقظ حلمه كل العبيد المقهورين في روما القديمة وتجمعوا خلفه ورحلوا جنوبا لعلهم يصلون إلى جزيرة صقلية. كانت هناك حكايات وأساطير عن عبيد الإغريق الذين فروا إليها وأقاموا أولى المستوطنات وامتزجوا مع سلالة بحارة الفينيقيين الذين كانوا قد سبقوهم وكونوا معا وطنا لا يعرف الذل.

ولكن أمواج هذا الارخبيل تحولت إلى حاجز قوي أمام سبارتاكوس ورجاله وظلوا واقفين حتى أقبلت جيوش روما وهزمتهم وساقوا سبارتاكوس أسيرا ووضعوه على الصليب - الطريقة الرومانية الأثيرة للتعذيب - حتى لفظ أنفاسه. ترى لو أن هذا القطار موجود هل كان سبارتاكوس يستطيع الإفلات؟.. أم أن الحرية مازالت أسيرة وعزيزة المنال حتى في وقتنا هذا؟!.

مدن وناس وأحداث. خليط من التضاريس في بقعة ضيقة من الأرض. الموج في حوار دائم مع الشواطئ الصخرية. من خلال تلاطمهما يتشكل الصخر ولا يهدأ البحر. في هذا الصباح عندما بدأنا جولتنا في شوارعه العاصمة باليرمو كانت تبدو أكثر هدوءا من أي بلدة ريفية. اليوم هو عيد القديسين. ولا توجد مظاهر للعيد سوى الصمت وبائعي الزهور. لقد تفتح الربيع في موعده تماما، ولكن شوارع المدينة ومبانيها القوطية لا تزال هاجعة. في كل مكان تحس برائحة التاريخ. إنها تحمل نفس طابع المدن المتوسطية ولكنها أقل انفتاحا. ربما يعود هذا للأيام الصعبة التي مرت بها.. ولكن أي جزيرة في المتوسط لم تعان من هذه الأقدار الصعبة؟!.

في العاشرة بدأت المدينة تزخر بالحياة.. صرخت السيارات وتداخلت الطرقات وصاح الباعة وجرى رجال سود يمسحون زجاج السيارات الواقفة في الإشارات. وأسند عامل سلمه إلى جدار وأخذ يلصق منشورات انتخابية.. وجوه كثيرة ووعود أكثر. ولكن عامل الملصقات كان متبرما.. لحسن حظنا كان يعرف الإنجليزية، كان فاقد الثقة والأمل في الانتخابات المحلية القادمة.. هتف: "مثلها مثل أي انتخابات تجرى في إيطاليا.. السياسيون يقسمون كل شيء بينهم.. المناصب والاستثمارات وحتى الرشاوي ونحن نخرج بلا شيء.. في إيطاليا توجد لعبتان.. إحداهما جيدة بعض الشيء هي كرة القدم.. والأخرى غاية في الرداءة هي الديمقراطية.. ".

تأخذنا طرقات باليرمو الضيقة والبيوت ذات الأبواب العتيقة.. معلق عليها تعاويذ وتمائم.. صلبان وعظام لحيوانات بحرية. نتوقف أمام كنيسة سان جيوفاني.. كنيسة مبنية على الطراز النورماندي.. كانت قبل ذلك ديرا على طراز جررجيان وقبل ذلك كانت مسجدا إسلاميا بناه العرب في الفترة التي حكموا فيهـا الجزيرة والتي استمرت 240 عاما.

هذا المبنى وحده هو شاهد حي على تعاقب طبقات التاريخ، ليس في تلك المدينة فقط، ولكن في صقلية كلها . القباب الحمراء والأبهاء الأندلسية التي تنمو وسط أعمدتها الأعشاب البرية ونيام العطن على الحواف الحجرية . بجانبها توجد ساحة بيازا بورتوريا .. المكان الذي توجد فيه دار الحكومة ولكن الذي يجذب الانتباه هو تلك النافورة التي تحتوي على تماثيل لعشرات من الأجساد العارية للرجال والنساء والتي تقع مباشرة في مواجهة مبنى البرلمان المحلي. لقد بنيت في القرن السادس عشر وقام بتصميمها فنان من فلورنسا، لذلك أخذت طابع عصر النهضة في محاولته لإحياء الكلاسيكية وتصوير الأساطير القديمة..

باليرمو مدينة غامضة وغنية بالكنوز الخفية من الجمال. إنها تستريب في الغرباء، لا تكشف عن كنوزها بسهـولة. ويمكن تقسيم تاريخهـا إلى مرحلتين: الأولى منذ إنشائها وتتابع حركة النمو فيها، والثانية بعد الحكم العربي.. فبفضل هذا الحكم أصبحت هي عاصمة الجزيرة كلها وشهدت موجات من العمران يسودها مناخ من التسامح لم يحجر على أي فكر أو إبداع حتى في المجالات الدينية.

ولكن لغموض باليرمو أسبابا أخرى.. فلا تستطيع اللوحات الجدارية في الكنائس.. ولا مجموعات اللوحات والأيقونات في متحفهـا الوطني ولا التماثيل أو الأبنية العتيقة أن تصرفك عن تأمل وجوه الناس. ذلك القلق والتوتر والتجمعات القلقة التي تجدها في كل مكان.. هذا التوجس من الغرباء والضيق بهم.. ذلك الغلاء المبالغ فيه. إنهم جزء من أوربا وذلك فإن ما يربطهم بها هو الجغرافيا وليس أكثر من ذاك..

سوف نعود لباليرمو مرة أخرى.. فحكايتها لا يمكن أن تختصر في سطور قليلة وعلينا أن نطل على باقي مدن الجزيرة لعل اتساع الرؤية يزيد من عمق الاستنتاج..

مدن وناس

هناك مثل يقول: (إذا أردت أن ترى اليونان جيدا فعليك بالذهاب إلى صقلية..إنه مثل مبالغ فيه بالطبع. ولكنني لم أشعر بتلك المبالغة وأنا أتأمل وادي المعابد في مدينة اجريجينتو.. أو لوحات "الموزاييك" في "بيازا أرمرينا" شواهد التاريخ قائمة ومنتصبة بكل بهاء وشموخ ..

رحلنا إلى اجريجينتو في يوم عاصف شديد المطر. اجتازت السيارة عشرات الإنفاق التي تخترق جبال الجزيرة. الجسور التي تعلو الأودية.. كانت المعابد تظهر أمامنا من فوق التلال وكاميرا زميلي المصور تغرقهـا الأمطار والرياح العاصفة تمزق المظلة الهزيلة التي نحاول الاحتماء تحتها.. كانت أعمدة معبد أبوللو تتلوى أمامنا.. هيكل للحب والفن.. بجانبه معبد منيرفا حيث تحمل رسولة الآلهة رسائل الغضب والنقمة.. وينام على الأرض عملاق "الايوجورا" رمز التحدي الذي لا يهدأ.. وكذا معبد "هرقل".. صقلية مفتونة بهذا البطل الإغريقي القديم الذي تحدى الآلهة فأدخلته في عدة اختبارات مهلكة اجتازها جميعا.. آثاره تظهر في الكثير من أجزاء الجزيرة.. لعله جاء إليها ليرتاح قليلا بين قتال وآخر.

تظهر صورة "هرقل" أو بالأحرى "هيركيلوز" كما هي تسميته الإغريقية وهو يصارع التنانين المتوحشة فوق لوحات "الموزاييك" في بيازا أرمرينا.. وربما كانت هذه البقعة هي الأكثر جذبا للزوار من أنحاء صقلية. فهي تقع في وادي جبل أري. وقد ظهرت أهميتها التاريخية بسبب بقايا "الفيللات" أو القصور التي كان يبنيها نبلاء الرومان للاستجمام خارج المدن. وبرغم الدمار والزلازل فقد صمدت تلك الأرضيات المطعمة بالموزاييك وكونت متحفا أرضيا هو أكبر متحف من نوعه في العالم بهذا النوع من الفن. يقال إن الذين قاموا بصنع هذه اللوحات هم صناع من شمال إفريقيا. ولكن مضمونها كله مستمد من الأساطير اليونانية والرومانية. هناك مشاهد لكل مظاهر الحياة اليومية.. الصيد والزرع والحصاد والبيع والشراء. وصور للآلة أبوللو وهو يعزف على قيثارته. ولسيدات نبيلات. ولفرسان متباهين. صور ملكية. وأخرى داعرة. بل إن هناك صورا لفتيات يرتدين "المايوه البكيني" ومن يخضن غمار المسابقات الرياضية..

لقد تم الكشف عن هذه اللوحات في العشرينيات من هذا القرن، فقد كانت مطمورة تحت أكوام من الطين والرمال ومازالت الحفريات تكشف عن المزيد منها حتى الآن.

وإذا كانت الجزر في معظمها هي هبات بركانية فإن بركان " اتنا" مازال يؤكد هذه الحقيقة. أن هذا الجبل هو أعلى جبال صقلية ويحتوي في جوفه على أكثر براكين أوربا نشاطا. فهو يثور ولا يكف عن الثورة. أحيانا يكتسح ما في سفحه من قرى وبشر ويغطيهم تماما بالحمم. وأحيانا ينفعل فقط ليذكرهم بوجوده. ومن الغريب أن يهدأ تماما حتى أن قمته تكتسي بالجليد ويبدأ المتسابقون في التزلج بالقرب من الفوهة التي يتصاعد منهـا الدخان..

والبركان لا يحتل الشمال الشرقي فقط من الجزيرة ولكنه يحتل ركنا أساسيا من الأساطير والحكايات الشعبية. إنه منزل الغول كما أطلق عليه العرب. ومازال اسم "منجوبيلا" يحمل بعضا من أصله العربي. وحتى المنطقة المحيطة بالبركان تعطي شبها كبيرا بالصحراء العربية. كانت آخر ثورة عنيفة قام بها هذا البركان منذ 35 عاما وأباد مدينة "كاثانيا" التاريخية كلها.. وفي العام قبل الفائت كشر عن أنيابه ودمر بعض القرى ولكنه الآن هادئ إلى حين .

البحث عن بيراندللو

وأنا أقف أمام بيت الكاتب لويجي بيراندللو في بلدة "جيرخفتي " الصغيرة تذكرت زعيمنا العربي جمال عبدالناصر. كان قد قرأ مسرحية بيراندللو الشهيرة "ست شخصيات تبحث عن مؤلف " وأحس أنها تنطبق عليه هو وزملائه من الضباط الأحرار. وقال في كتاب "فلسفة الثورة" إنه أحس أنهم جميعا يبحثون - مثل أبطال المسرحية - عن دور يقومون به. وليس غريبا أن يتم هذا الربط بين الكاتب الصقلي والثائر العربي. فتاريخ القمع الطويل، وتولي الطغاة والإحساس باللا جدوى يربط تاريخ بلديهما معا.

كان قبر لويجي بيراندللو الذي هز أوربا بأشعاره ومسرحياته صغيرا، مناسبا ولا شك لحجم الكاتب الصغير، ضائعا وسط الآثار التي تمتلئ بها المنطقة. ولكن ذكره لم يضع وسط تاريخها الطويل. كل ما كان يحمله هو كلمات من عدم اليقين ومن حيرة جيل ضائع عاش حربين عالميتين. ولد لويجي بيراندللو في أواخر عام 1867 في بلدة جيرجيني وتلقى تعليمه في باليرمو وذهب إلى الجامعة ليتخصص في القانون، ثم انتقل في روما ونقل أيضا دراسته إلى فرع الإنسانيات وأصدر أول مجموعة شعرية له وسط أتون الحرب العالمية الأولى.. وفي الفترة ما بين الحربين أنتج المزيد من الأشعار والمسرحيات والقصص القصيرة وأدخل تقنية جديدة في المسرح هدفها هدم الحائط الرابع الذي يفصل المتفرج عما يجري على خشبة المسرح ولاقت هذه التجارب نجاحا كبيرا حين عرضت على مسرح الفن في روما وفاز بجائزة نوبل عام 1934، ولكن هذا النجاح لم يبعده كثيرا عن قريته فعاد إليها في أيامه الأخيرة حتى مات بعد ذلك بعامين في 1936، ولكن مسرحياته مازالت تحمل عبقا من التجريب ويعاد تمثيلها برؤى مختلفة على كل مسارح العالم.

تاريخ مثقل بالغزاة

هتف بي البرورفيسور "انريكو ماتزونو" أستاذ التاريخ بجامعة باليرمو: "هذا كذب. نحن نحب الغرباء فقد كانت هذه الجزيرة دائما مأوى للغرباء والمضطهدين كل ما في الأمر أن علينا أن نأخذ حذرنا من الجميع.. عليك أن تراجع تاريخ صقلية جيدا كي تدرك ما أقول. "

أنها جزيرة مثقلة بالتاريخ كما يقول أهلها. خلطة كاملة من بقايا كل العصور والحضارات. ولكن برغم تنافرها وتباعدها فقد اكتسبت شخصية هذه الجزيرة. يضيف الدكتور انريكو ماتزونو: "منذ العصر الروماني وقد فرض الطابع الصقلي نفسه. كأن الجزيرة قد قامت نوع من "الفلترة" لكل الحضارات التي حكمتها وحتى في الآثار الكلاسيكية كان هناك اتساع في الرؤية واهتمام أكبر بالزخرفة والديكور في محاولة لإضفاء الحياة والتعبيرات الطبيعية على الجدران الخالية والأعمدة السامقة. كأنه اتجاه ضد الكلاسيكية وسط عصر الكلاسيكية".

مياه المتوسط لم تعزل صقلية. أوصلتها بكل أطراف اليابسة منذ عهد مبكر. كان أول من هبط إلى شواطئها هم بحارة فينيقيا الأشداء. أقاموا في جنوبها أول محطة استراحة يلجأون إليها هربا من العواصف.. ثم توافدت على الجزيرة أقوام من آسيا الصغرى. لعلهم كانوا بقايا الهاربين بعد سقوط مدينة طروادة على أيدي اليونانيين. بل إن "أوليس " عندما ضاع في البحر كما تقول الأساطير وصل إلى الجزيرة وقابل في أحد كهوفها بالقرب من مدينة "تينوري" الحالية وحش السيكلوب ذا العين الواحدة ودار بينهما صراع ضار انتصر فيه "أوليس" حين تمكن من غرس رمحه في عين الوحش. وتواصلت الهجرات إلى صقلية.. جاءت أقوام من الإغريق الذين كانوا يعانون الاضطهاد ويبحثون عن وطن بديل. امتزجت كل هذه الأقوام وصنعوا الجذور الأساسية للسكان. أقاموا المستعمرات التي تحولت إلى مدن، وشهدت صقلية أوج ازدهارها في العصر الهليني حين أصبح لها أسطول ضخم يتحكم في البحر المتوسط وفي كل طرق التجارة في العالم القديم.

ولكن اشتعال الحروب الأهلية داخل الجزيرة جعل قوتها تضمحل سريعا وتمكنت "روما" التي كانت في أوج قوتها من الاستيلاء عليها. وكان تأثير الرومان كبيرا. فقد أدخلوا إلى الجزيرة الطرق التي ربطت بين أطرافها، والقانون والإدارة، وأقاموا المدن التي كانت تعتمد في معظمها على الزراعة حيث تحولت صقلية إلى مخزن غلال لروما وظهرت لأول مرة مدن مازالت باقية حتى اليوم مثل ميسنيا وكاثانيا وتورمينا وباليرمو.

لم تستطع صقلية أن تجد لنفسها مهربا من الغزاة. لم تجد ثورات العبيد ولا تمرد الأهالي ولا الحروب الأهلية المتتابعة. فبعد انهيار روما استولت بيزنطة على الجزيرة على مدى ثلاثة قرون من الزمن. ثم جاءت أول جيوش الفتح العربي عام 827 م حيث هبطت في منطقة "مازارا دي فاللو".

الحكم العربي لصقلية يعد صفحة مختلفة عن كل الصفحات التي خطها الغزاة فوق تضاريس هذه الجزيرة. وليست هذه شهادة متحيزة. ولكنها شهادات المؤرخين الصقليين أنفسهم. إذ يقول المؤرخ البرتو فيتورا في كتابه عن تاريخ صقلية : "إن العرب كانوا أشد الناس سماحة في حكمهم للجزيرة حتى في الأمور الدينية. لم يعان أي مواطن عسفا أو اضطهـادا أو ضرائب زائدة أو مصادرة للأراضي كما كان يحدث مع كل غزاة جدد، كان العرب غزاة من نوع مختلف".

استولى العرب على صقلية بأسلوب أشبه بحرب العصابات. لم يجتاحوا الجزيرة دفعة واحدة ولكنهم كانوا يهبطون بقوة صغيرة من الجنود ويستولون عليها ويبقون ساكنين لفترة من الزمن ثم يقفزون للاستيلاء على مكان آخر. وهكذا تساقطت المدن واحدة وراء الأخرى حتى سقطت باليرمو عام 831 م. وكانت تورمينا هي آخر مدينة استولى عليها العرب عام 948 م، وبفضل العرب أصبحت باليرمو هي عاصمة الجزيرة حتى الآن.

ولكن إقامة العرب في الجزيرة لم تستمر سوى مائتين واثنين وأربعين عاما. لم يرض تجار البهار والذهب في جنوا وفلورنسا بالوجود العربي في هذا الموقع البحري الخطير. لذا فقد تحالفوا مع النورمان وامدوهم بأسطول ضخم ودارت حرب طويلة استمرت على مدى ثلاثين عاما حتى استطاعوا أن يدخلوا باليرمو عام 1072 م. ومازال الكثيرون في باليرمو يعتقدون أن  باليرمو ما زالت مدينة عربية.

توج أول ملك لباليرمو عام 1135م تحت اسم روجر الثاني. ولكن هذه المملكة الصغيرة بلغت قمة ازدهارها في عهد فريدريك الأول عام 1622م. ولكن صراع أمراء الإقطاع والبارونات قضى على هذا الازدهار حين قادوا البلاد إلى حرب أهلية ضارية. وحتى بعد أن مات ملك النورمان عجز الفرقاء المتصارعون عن اختيار خليفة له فانتهز ملك أسبانيا "فرديناند دي كاستيل" الفرصة وأعلن نفسه ملكا على إسبانيا وصقلية. وهكذا آلت ملكية الجزيرة إلى البوربون.. وشهدت الجزيرة بعد ذلك فترات طويلة من الثورات المتواصلة والقمع القاسي.

أشهر الثورات ضد الأسبان تلك التي قامت بها مدينة "ميسنيا" واستطاعت أن تصمد في وجه الأسبان بفضل المعونة التي كانت تتلقاها من الملك الشمس لويس الرابع عشر ملك فرنسا. ولكن ما أن توصل هذا الملك إلى اتفاقية مع أسبانيا يغير فيها حدود بلاده في منطقة " الراين " حتى تخلى عن المدينة المحاصرة وتركها لمصيرها.

لم يكن الملوك الأسبان هم السبب فقط في تعاسة الجزيرة. ولكن توالى عليها أيضا الملك الطاعون والملك الزلزال والملك البركان. وتداولت الأسر الأوربية الحاكمة الجزيرة البائسة مثل كرة خشبية تتقافز على عجلة الروليت دون أن تظفر بلمحة من الحظ. لم تهبها حروب نابليون الاستقلال. ولا مؤتمر فيينا الذي أعاد تقسيم أوربا. كل ما كانت تظفر به كل مرة هو ملك آخر من " البوربون".

وحتى بعد أن توحدت إيطاليا في مملكة واحدة. لم تستطع مليشيات "غاريبالدي" أن تشفي الجزيرة من أمراضها. لقد ظلت بعيدة عن اهتمامات السلطات المركزية. عن الخدمات والرعاية والاستثمار، أي بالتحديد ظلت بعيدة عن الوجود الحكومي . الأمر الذي خلق داخلها حكومة أخرى. لا تأبه بتغير الغزاة ولا اختلاف وجوه الحكام. من الصعب انتزاعها لأنها أصبحت مكونا رئيسيا من تضاريس الجزيرة.. لقد زادت التضاريس واحدا.. البحر والجبل والسهل والمافيا.. هدية صقلية لكل الغزاة الذين أذلوها طويلا.

قانون "الأومرتا"

"الأومرتا".. تعنى قانون الصمت.. أنه القانون الذي ما يقابلك في باليرمو عندما تسأل عن "المافيا" .

ربما لا أحد يسأل بتلك الطريقة الساذجة كما قيل لنا.. وربما لأن علينا أن نبحث عنها في بروكلين أو مانهاتن أولا.. كما قال ثان.. وربما لأنها لا تحدث إلا في السينما فقط كما أكد لنا ثالث..

وهكذا تبدو "الاومرتا" مثل قانون أزلي. من يخرج عليه حق عليه الموت. الجميع يعرفونه ويطيعونه في هذه الجزيرة من أصغر تاجر حتى أكبر سياسي . يحافظون جميعا على هذا السر. ويتطامنون على كل عمليات الابتزاز والرشوة والفساد والاغتيالات وخاصة اغتيالات القضاة.

في اليوم التالي لجولتنا في شوارع باليرمو وبالقرب من الميناء المزدحم بالسفن وجدنا أنفسنا أمام سجن المدينة الضخم. قلعة قديمة ساهم الغزاة في بناء أسوارها يقف على أبراجها حراس مدججون بالسلاح . وأما الباب عربات مصفحة مليئة هي أيضا بالجنود في أيديهم البنادق الآلية والخوذات.. وعلى مبعدة كان بعض من الأهالي والصيادين يتطلعون في توتر. كان  الجنود أيضا يحتلون نواصي الشوارع المشرفة على السجن.. "ماذا يحدث ؟" " أنهم ينقلون أحد الشهود" أجاب صياد عجوز، جمع شبكته وسار مبتعدا، كل هذا التوتر من أجل شاهد وليس متهما. مجرد شاهد ولكنهم يحتفظون به في السجن ويخصصون كل هذه القوة الضخمة لحمايته. إنه يحاول أن يخترق قانون "الاومرتا" فهل يستطيعون حمايته من العقاب؟

في مساء نفس اليوم تلقينا إجابة غير مباشرة عن أسئلتنا. قام أنطونيو بذلك . وهو شاب وسيم مرح . " جوكولو " حقيقي . يشرب بإفراط ويغازل النساء بكل اللغات. تختلط على لسانه أبيات الشعر بالشتائم البذيئة. يجلس باستقرار في باحة الفندق يتابع بعينين نهمتين عجائز السائحات. يحاول أن ينصب شباكه حولهن ليعيش مع إحداهن قصة حب رومانسية ومدفوعة الثمن. ولكن الموسم كان في أوله والأعمال لم تزدهر بعد. وكل الأفواج تحتوي على نساء في صحبة أزواجهن. لذا فقد عكف طوال جلسته على الشراب والثرثرة.. لم يبال كثيرا بقانون الاومرتا: "هذا الشاهد أحمق. لن يستطيع الوصول إلى درج المحكمة. المافيا هنا في كل مكان. لا يقتصر نفوذها فقط على الدعارة وتجارة المخدارت. ولكن حتى عقود مقاولات الأشغال العامة وآلاف الصناعات الحرفية الصغيرة والفنادق والمتاجر وحتى أصحاب البقالة.. يجب أن يدفعوا إكرامية حتى لا تحرق دكاكينهم".

وفي صباح اليوم التالي كان يقودنا وسط أزقة باليرمو الضيقة. على النواصي يقف عشرات المتعطلين عن العمل. ويصدح باعة السمك والاجبان. وتنشر النساء الغسيل فوق الشرفات. وتدور لعبة المغازلة بين الشباب راكبي الدراجات النارية وبائعات المحلات. إنها مدينة متوسطية يمكن أن تجد نفس الوجوه ونفس أشكال الأحياء في الإسكندرية أو صيدا أو اللاذقية. انحدرنا على درج حجري إلى أزقة أكثر ضيقا. رمقتنا عيون نسوة عجائز يرتدين السواد في حذر. أشار أنطونيو إلى بيت في آخر الزقاق وهو يهتف : " انظروا.. ها هو منزل عائلة جامبينو" وتوقف ليرى تأثير ذلك في وجوهنا. كان يتحدث عنه كأنه أحد أعلام القرن العشرين وقال مدهوشا : " إلا تعرفونه.. إنه ملك نيويورك غير المتوج ورئيس كل الرؤساء ..

" بدأت أشعر بالخوف للمرة الثانية. أحسست بعشرات العيون وهي تتلصص خلف النوافذ. بدا لي كأن جامبينو هذا خارج من آخر الزقاق. يلبس القبعة العالية الحواف. والحلة ذات الصفين من الأزرار والحذاء اللامع المصقول.. رأيت مثله في الساحات الواسعة ونظرات الاحترام والخوف تتابعه.. وسألت نفسي في حيرة.. من هو جامبينو هذا.. ولماذا المافيا.. ولماذا  خرج ملوك الجريمة من هذه الجزيرة ذات التاريخ التعيس؟

في الجبال عاشت التقاليد الجبلية أكثر مما ينبغي . وبقيت تقاليد الحفاظ على شرف العائلة. والأخذ بثأر القتيل والإخلاص حتى الموت للعائلة.. وانعكست كل هذه الأشياء على أحلام الصقليين الفقراء الذين كان "جامبينو" واحدا منهم. يؤمن أن هذه الجزيرة يجب أن تعيش قانونها الخاص بعيدا عن السلطة المركزية وعن الذين أذلوها طويلا. إن المافيا هي جزء من النسيج الداخلي للمجتمع الصقلي. ونفوذها يعم الجزيرة كلها، ففي أواخر القرن التاسع عشر عندما انهارت سلطة " البوربون " لم تستطع ميليشيات "غاريبالدي " أن تملأ الفراغ السياسي الموجود في الجزيرة. وقام "الأعضاء المحترمون" بدور الحكومة المحلية التي فرضت نفسها على المدن والقرى الصغيرة. كانت صقلية في حاجة إلى رجال يوفرون لها الخدمات الآنية التي تحتاج إليها وحتمت العصبيات القبلية ظهور مثل هؤلاء الأشخاص ذوي الشرف. إنهم يقومون بفض المنازعات. وإقراض النقود. وحماية الأسواق والمحلات من الصعاليك. وتقدير ريع المزارع. وتدبير الزيجات للبنات اللواتي فقدن عذريتهـن والانتقام للزوجات المهجورات.

وحتى قبل أن يظهر هؤلاء الرجال المحترمون فإن نموذج "مافيوس" كان موجودا في الوعي الصقلي. فسنوات الغزو قد خلقت داخلهم نوعا من المعارضة ضد كل أنواع القوانين وتولد إحساس دائم بمقاومة المؤسسات التي حاول أنواع الغزاة المختلفين فرضها عليهم. و "المافيوس" ليس شخصا عاديا. إنه رجل صلب. فائق الإحساس . يحارب من أجل حقوقه حتى ولو أدى به الأمر إلى معاداة الدولة كلها.

ظهرت كلمة "مافيا " للمرة الأولى في الكتابات الإيطالية في أواخر القرن التاسع عشر ويعتقد أن أصلها عربي . ولست أدري أي كلمة عربية يقصدونها هل هي "ماهر" .. أم "ماض" أم.. "ما في مثله". ولسنوات عديدة كان "المافيوس" نموذجا للشخص ذي الشرف والاحترام الذي يدافع عن حقوقه حتى ولو اقتضى ذلك قتل الآخرين. لقد أخذ "المافيوس" امتياز حق قتل الآخرين دون أن يجد الأهالي أن هذا السلوك في حاجة إلى عقاب. وقد تسببت هذه الامتيازات في أن تتحول منظمة الرجال المحترمين إلى الإجرام شيئا فشيئا بفعل القوة المطلقة التي كانت تمتلكها.

إنها نفس العوامل التي أثرت بشكل أو بآخر في جنوب إيطاليا وخاصة في مدينة "نابولي" التي انتجت جماعات "الكامورا" وهي تقوم على نفس الأسس من الأخوة الإجرامية. وبرغم انفصال المافيا عن الكامورا إلا أنهما تؤديان مهامهما بنفس الأساليب.. الأمر الذي دفعهما للاتحاد في جماعة واحدة عندما هاجرا معا إلى العالم الجديد.

كان طموح "جامبينو" الطبيعي في مطلع العشرينيات هو أن يكون واحدا من هؤلاء الرجال المحترمين. فقد نشأ في منطقة في باليرمو لا يحكمها سوى "المافيا" وتعود أن يراهم بحللهم الأنيقة وهم يجلسون في "البيازا" وسط الحي. لا يمر أمامهم أحد إلا وقد رفع قبعته احتراما. ولا تستطيع امرأة أن ترفع عينيهـا من عليهم. كان كارلو جامبينو يحلم بأن يكون ليس رجلا محترما فقط ولكن "كابو دي توتن كابي" أي رئيسا لكل الرؤساء. أقوى رجل في صقلية.. ومن يعلم ربما في العالم الجديد.

في ذلك الوقت كان هناك مثل أعلى له. رئيس رؤساء سابق هو"دون فيتو كاسيكو" . كان رئيس كل عائلات المافيا في نيوريوك قبل أن تنجح السلطات الفيدرالية في ابعاده إلى جزيرته الأصلية. وحتى بعد أن عاد لم يفتد سلطته ولا الاحترام الذي يتمتع به. ظل يمثل قوة مؤثرة يسعى إليه السياسيون والبارونات ملاك الأرض وأصحاب البنوك ويتشرفون بدعوته إلى قصورهم الأرستقراطية. وكان منظر الزعيم السابق وهو يوزع الحلوى على الأطفال يثير خياله وخاصة القصص التي تروي عنه كيف قتل أحد ضباط الشرطة في مدينة نيويورك.. كان جامبينو يحلم بأن يكبر مثله ويقتل رجال الشرطة أيضا.

رجال محترمون

ولقد دفعت الظروف الاقتصادية العديد من الإيطاليين إلى الهجرة في أراض جديدة. فعبر البحر في جنوب إيطاليا ثار بركان فيزوف ثورته المدمرة التي أغرقت بالحمم مئات من القرى والأراضي الخصبة. ونفس الشيء فعله بركان "اتنا" في شمال شرق صقلية. إنها هجرة أشبه " بالدياسبورا" المعاصرة. ذهبوا إلى جنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشمالية وكندا.. وتحولت مدينة نيويورك أو بالأحرى حي بروكلين" في منطقة إيطالية خالصة وأصبحت هي الفردوس الذي يحلم به كل إيطالي فقير.

وقبل أن يهاجر "جامبينو" إلى أمريكا كان أحد زعماء المافيا المحليين قد اكتشف موهبته. كان في العشرين من عمره، قويا وطموحا، لذا فقد تم استخدامه في جمع "الإتاوات" من التجار الصغار. وحين تأخر أحد هؤلاء التجار في دفع ما عليه انقض عليه جامبينو ولم يتركه إلا وهو على حافة الموت. وكان هذا العنف مؤهلا جيدا للترقي في سلك المافيا فأخذوه إلى اجتماع الشرف حيث جلس "جامبينو" في غرفة لا تضيئها سوى الشموع وجلس إلى طاولة يجلس عليها عشرة أشخاص من الرجال المحترمين يرتدون الملابس الداكنة يراقبونه وهو يوخز أصبعه حتى تسيل قطرات دمه فوق ورقة تحمل صورة القديسين ثم يحرق هذه الورقة وهو يردد "البادرينو" أو قسم المافيا.. "سوف أحترق مثل هذه الورقة إذا خنت إخوتي في الجماعة".

كانت باليرمو عام 1920- كما رأيناها اليوم - مدينة ذات ثلاثة آلاف عام . يمكنك أن ترى هذا التاريخ في لمحة مستعرضة. "الماجناجريسيا"، حيث توجد محارق وتماثيل وبقايا معابد الإغريق. ولوحات الموزاييك تحمل شخوص الأساطير الرومانية. تماثيل المرمر، والخزف والآنية العربية، والكنائس التي أخذت في أشكالها تصميم المساجد. والمنارة الناقصة. التي أقامها العرب ورفعوا فوقها هـلالا ثم هدمت ووضع بدلا منها جرس. ونقوش النورمان في كاتدرائية الموفيريللي المرصعة بالفسيفساء. وقبر الملك فريدريك محاط بطراز قوطي فرنسي ثم طراز كاتالوني إسباني ونافورات من طراز الباروك تعود لعائلة هايسربورج..

إن تأثير هذا التاريخ المحسوس في نفسية الصقلي يبدو مضاعفا فمن جهة أولى تولد لديه شعور بالعظمة وإحساس كبير بالعبث والسخرية. لقد شاهد كل شيء في آن واحد. فقد أخذ الصقليون خبراتهم مباشرة من كل حضارات المتوسط ويرون أن الأوربيين حين يقارنون بهم لا يعتبرون متحضرين، فهم شعوب انحدرت من أصول بربرية، لذا فإنهم ينظرون بازدراء في أفكارهم حول المثالية والديمقراطية وسلطة القانون. إن الصقلي هو الأكثر ذكاء لأنه هو الأكثر خبرة وواقعية. وحتى يكونون أفضل فهم ليسوا بحاجة لإثبات أنفسهم.

ومن جهة ثانية فإن ذلك التاريخ الطويل الذي حكمهم فيه الآخرون قد ولد لديهم إحساسا بالقمع وافتقاد الأمل. تاريخ ممتد وطغيان سائد، لذا فقد تولدت لديهم باستمرار الرغبة في النزوح إلى أرض أخرى غير مثقلة بظلال الماضي. أرض لا يعانون فيها القمع بحيث يستطيعون التعبير عن ذواتهم المكبوتة. وبالنسبة لشاب مثل جامبينو فقد كانت باليرمو مليئة بالقبور أكثر مما ينبغي. وبلد مثل أمريكا يبدو فيها التاريخ أقل حدة. فهي ليست سجينة ماضيها ولكنها تتطلع دائما إلى المستقبل.

كان جامبينو مرتبطا بنيويورك قبل أن يصل إليها بواسطة أقاربه الذين استوطنوا في بروكلين.

وكذلك بسبب التوصية التي صحبته من الناس المحترمين في صقلية إلى الناس المحترمين في نيويورك.

إنه أخ قادم عليهم أن يقوموا بتهريبه إلى داخل الولايات المتحدة بعيدا عن رقابة رجال الهجرة.

وهكذا في عام 1920 كان جامبينو يقفز من إحدى السفن إلى ميناء بروكلين ليبدأ رحلة الصعود في العالم السفلي لنيويورك.

نيويورك البركان

وصف أحد زعماء المافيا مدينة نيويورك في العشرينيات بأنها أشبه بالبركان. بركان مختلف عن اللذين تركوهما في فيزوف واتنا. مدينة تعيش حالة دائمة من الفساد. فالولايات المتحدة قد خرجت من الحرب العالمية الأولى قوة عظمى وعملاقا صناعيا. واستولت نيويورك على مكانة "لندن، كعاصمة للمال. واشتعلت في شارع "وول ستريت" أكبر مضاربات البورصة في التاريخ. وتحطمت تقاليد ومثاليات القرن التاسع عشر. الكل كان يسعى للربح بأي ثمن وإلى المتعة من أي مصدر. كانت مدينة حرة للجميع، للمقيمين فيها والمهاجرين إليها . وقد ساعد على فوران البركان القانون الذي أصدرته السلطات الفيدرالية بمنع بيع الخمور. الفرصة التي وجدتها عصابات المافيا نادرة للإثراء السريع. وربما لم يشهد التوسع الإجرامي في أمريكا مدى كالذي شهده في هذه الأيام. لقد عمل جامبينو في الإشراف على معامل تقطير الخمر السرية وأصبح بارعا في تهريبها وتسيير قوافل الخمور المهربة عبر الولايات ورشوة رجال الشرطة وقتلهم إذا لزم الأمر..

ولأن الأرباح كانت طائلة فقد دب الطمع في قلوب الجميع وحاولت كل عصابة أن تأخذ منطقة العصابة الأخرى. وهكذا اشتعلت الحرب بين العائلات في نيويورك وشيكاغو. ودارت الاغتيالات وأحداث العنف جهارا نهارا أمام أعين رجال الشرطة دون أن يستطيعوا التدخل. وانهمرت أطنان الرصاص كأنها حمم بركانية.

لم تهدأ هذه الحرب إلا بعد أن انتصر "مازارينا" أو القيصر الصغير الذي كان مجرما مثقفا يعشق يوليوس قيصر ويقرأ خطبه باللاتينية. كان هو أول من استطاع جمع الأسر المتحاربة . ووضع قوانين "الكوسانوسترا" التي قسمت مناطق أمريكا المختلفة بين العائلات. كل عائلة تحكم منطقة تدير فيهـا أندية القمار وبيوت الدعارة وتهريب الخمور والمخدرات. ونصب نفسه رئيسا لكل الرؤساء وبدأ العصر الذهبي للمافيا.

لقد فرضت المافيا سطوتها إلى درجة اضطرت معها الحكومة الأمريكية إلى التفاهم معها والخضوع لمطالبها. فعندما القت القبض على الزعيم الكبير "لاكي لوسيانو" الذي كان جامبينو يعمل في عصابته. بدأ أفراد العصابة في خطة جبارة لإرغام الحكومة على الإفراج عنه..

كانت أمريكا قد قررت دخول الحرب العالمية الثانية وكان هم البحرية الأمريكية الأساسي هو حماية ميناء بروكلين من أعمال التخريب. وكانت السيطرة الفعلية لهذا الميناء تحت سلطة "المافيا" وبالتحديد تحت قيادة جامبينو. كان متحكما في حركة العمال والشحن ونقل البضائع والتفريغ والتحميل. وكان على "المافيا" أن تفهم سلطات البحرية الأمريكية أنها لن تستطيع حماية هذا الميناء المهم دون الاستعانة بها والاتفاق معها. واختارت المافيا أن ترسل إلى السلطات رسالة قاسية فقد شبت النار فجأة في المدمرة الفرنسية "نورماندي" التي كانت ترسو في الميناء.. وراقب الجميع السفينة الضخمة وهي تتحول إلى حطام يلفظه الموج.

وصلت الرسالة إلى البحرية الأمريكية وفهمتها وبدأت السعي لمحاولة التفاهم مع "المافيا" وكانت كل الطرق تقودنا للتفاهم أولا مع الزعيم "لاكي لوسيانو" داخل السجن. وحدث أول اتفاق بين الحكومة وملوك الجريمة. ليس فقط على حماية الميناء في أثناء فترة الحرب ولكن أن يتم التعاون أيضا بين أعضاء المافيا في جزيرة صقلية وجيوش الحلفاء حين تهبط إلى الجزيرة لتحريرها من الاحتلال الألماني.. وقد تم هذا بالفعل وكانت المافيا هي أفضل عون للقوات الأمريكية في ارشادها إلى مواطن الضعف في التحصينات الألمانية. وقد كوفئ لاكي لوسيانو على ذلك بنقله إلى سجن أكثر راحة ثم أفرج عنه بعد انتهاء الحرب شريطة أن يغادر الولايات المتحدة ويعود إلى صقلية مرة أخرى.

إن شرط "المافيا" الأساسي أن يكون المنتسبون إليها من دم إيطالي. وأن يكون رؤساء العائلات صقليين خلصاء. وقد حافظ الآباء الروحيون المؤسسون على هذه الصفة بصرامة. وهم ينعون التدهور الذي أصاب المافيا في بعض الأحيان إلى دخول "اليهود" كقتلة مأجورين. ويحكم المافيا في قمتها فلسفة ميكافيللي في كتابه الأمير الذي يرى أن الفن الوحيد الذي يحب على الأمير إجادته هو فن الحرب. لأن هذا هو الأمر المتوقع منه كأمير. وعندما يعطي اهتماما أكبر للحياة على حساب الحرب فإنه يفقد منصبه على الفور. لذا فإن زعماء المافيا - أشبه بسلاطين المماليك - يعيشون في حرب دائمة. أصرع صعودا، وأقرب موتا. لا أحد منهم يعمر طويلا، أو يموت على فراشه. إنه منطق صارم لايشيخ في ظله زعيم إلا فيها ندر.

وبإجادة فن الحرب والاغتيال تمكن جامبينو بعد أن نجح في إطلاق سراح لاكي لوسيانو من أن يكون هو خليفته. وقاد حرب عصابات أخرى جعلته رئيسا لكل الرؤساء وأصبحت مدينة نيويورك تحت قدميه. ولم تتخلص منه المدينة إلا عندما اغتاله مهاجر إيطالي آخر هو "جوتي" في عام 1985. سلسلة من الدماء لم تتوقف حتى الآن.. ولعلها سمة من سمات عالمنا لمعاصر.

فصل ختامي

كانت الطائرة قد أقلعت من مطار روما عندما وضع المضيف حفنة الصحف الإيطالية أمامنا.. لم أفهم شيئا من الكلمات ولكن إحدى الصور لفتت نظري.. جثة ملقاة فوق أحد الدرج يحيط بها رجال الشرطة.. حادث عادي من حوادث العنف التي شهدتها إيطاليا أخيرا.. ولكن وجدت نفسي أسأل المضيف الذي قال بلا مبالاة. "لا شيء.. أحد الشهود لقي مصرعه وهو في طريقه للمحكمة.. مجرد حادث.. ".. ولم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في كل ما سمعته ورأيته.. ترى هل انتصر قانون "الاومرتا" مرة أخرى؟.

 

محمد المنسي قنديل 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





صقلية من عصور الفروسية حتى زمن المافيا





صقلية من عصور الفروسية حتى زمن المافيا





وجوه من صقلية





خريطة توضح موقع صقلية





كنيسة سان جيوفاني دليل على تعاقب طبقات التاريخ فوق هذه الجزيرة





المعابد اليونانية ما زالت قائمة والمثل يقول إذا أردت أن تشاهد اليونان جيدا فاذهب إلى صقلية





أكبر متحف للفسيفساء في العالم يحكي الاساطير والحياة اليومية





بقايا أطلال معبدأبوللو. البرد الصقيع لم يمنع الزوار من تأمل المعالم الأخيرة





الإله زيوس كبير آلهة الساطير اليونانية وهو مضطجع طلبا للراحة





البيت الذي قضى فيه المؤلف الشهير لويجي بيراندللو أيامه الأخيرة





لويجي بيراندللو المؤلف الأشهر في إيطاليا والعالم منحته صقلية لحظات السلام الأخيرة





التضاريس والمدن القديمة والتقاليد خلقت قانون الصمت الذي تحتمي خلفه حكومة المافيا الخفية





التضاريس والمدن القديمة والتقاليد خلقت قانون الصمت الذي تحتمي خلفه حكومة المافيا الخفية





التضاريس والمدن القديمة والتقاليد خلقت قانون الصمت الذي تحتمي خلفه حكومة المافيا الخفية





هذه الاستعدادات لنقل أحد الشهود من سجن المدينة لم تسفر إلا عن تدعيم قانون الصمت





الحياة اليومية بعيدا عن زحمة المواصلات





الأنامل تصنع تماثيل الفخار والبورسلين التي تشتهر بها صقلية





لمسات على الحجر تماثيل من عصر النهضة تزين واجهات البيوت





لمسات على الحجر تماثيل من عصر النهضة تزين واجهات البيوت





تمثال آخر لماتزيني الذي مثلت أفكاره بذور الوحدة الايطالية





تلال خضراء مترامية بقيت لفترة من الزمن بعيدا عن السلطة المركزية لذلك فقد أنشأت حكومتها الخاصة المافيا





البحر المتوسط عاصف بقدر ما وصلت الامواج هذه الجزيرة بالعالم بقدر ما حملت اليهم من غزاة





أطباق من البورسلين.. صور للذكرى ونقوش مليئة بلمسات الفن والحنين





مدينة أنتا تنام فوق الجبال وتحتضن برج الكنيسة التي شاهدت تتويج أول ملوك صقلية الكبار فريدريك الأول





موكب ديني في عيد الفصح. الطقوس الكاثوليكية عميقة في النفوس برغم خشونة الحياة اليومية