مؤسسة البابطين تحيي ذكرى

مؤسسة البابطين تحيي ذكرى " الشابي"

فاس تحتضن الميلاد الجديد للشاعر

تجمع الكتاب والمثقفين العرب مناسبة تستحق الاحتفاء. وفي هذا اللقاء الذي كان عربيا صرفا قامت مؤسسة كويتية ثقافية بإحياء ذكرى شاعر تونسي في مدينة عريقة بالمغرب، وكان شهود هذا اللقاء صفوة ممثلة من بلدان العربية، وهي مناسبة لا تتكرر كثيرا.

كان المشهد غير عادي ، ففي مساء خريفي من أكتوبر سنة 1994 وفي مطار القاهرة ، كانت طائرة خاصة تقل ما يقرب من ثلاثمائة من الأدباء والشعراء والنقاد والإعلاميين من مختلف أقطار المشرق العربي ، ومن مصر في طريقهم إلى مدينة " فاس " في المغرب ليجتمعوا مع إخوة لهم من الأدباء من مختلف أقطار المغرب العربي ، فماذا كانت المناسبة ؟ ولماذا كانت مدينة " فاس " هي مكان الاجتماع ؟ ومن كان الداعي لهذا العرس العربي الأدبي الكبير؟. كانت المناسبة هـي انعقاد الدورة الرابعة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين ، للاحتفال بتوزيع جوائزها على الفائزين بها في هذه الدورة من الشعراء والنقاد ، وللمشاركة في احتفال المؤسسة بأحياء الذكرى الستين لرحيل الشاعر العربي التونسي أبي القاسم الشابي ، من خلال دراسات تتناول مختلف جوانب إبداعه شعرا ونقدا لعدد من كبار الباحثين والنقاد في الوطن العربي، وقد شاء مجلس أمناء المؤسسة، (وفقا لتقليد وضعه في الدورة قبل السابقة) أن يجيء الاحتفال بالشاعر التونسي الكبير في إطار دراسات أخرى تتناول المشهد الشعري المعاصر، من مختلف جوانبه، وتناقش قضاياه الملحة والراهنة، وكأنهم أرادوا وهم يعلقون على صدر التاريخ صورة للشابي في ذكرى مرور ستين عاما على رحيله أن يضعوا الصورة في إطارها المناسب، وهو الحركة الشعرية العربية الراهنة ليتعرف القارئ والمتابع على مكانة الشابي في هذه الحركة ، ماذا قدم لها؟ وماذا بقي من نسغه في أوراقها وأزهارها؟؟

في لقاء كهذا، في مدينة كهـذه، لا أحد ولا شيء يمكنه أن ينتظر، لا الأسئلة ولا الأجوبة، ما مغزى أن يتم الاحتفال بالشاعر التونسي أبي القاسم الشابي ، في مدينة فاس المغربية، في مهرجان يضم أدباء ونقادا من جميع أقطار الوطن العربي، في لحظة تاريخية تبدو فيها هذه الأقطار وكأن المسافات التي تفصل بينهـا تزداد اتساعا وتباعدا بفعل الأوضاع السياسية المتردية، هل يمكن أن يكون لهذا اللقاء بهذه الكيفية، في مدينة فاس التي هي رمز ثقافي ودور علمي وحضاري في تاريخ هذه الأمة، حول ذكرى الشاعر الذي قال أشهر بيت من الشعر في عصرنا الحديث يتحدث عن دور الشعوب:

إذا الشعب يوما أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

هل يجيء هذا اللقاء نوعا من الرد من منظمي الندوة ومن المثقفين العرب على هذا التمزق السياسي؟ وقبل أن نمتحن مثل هذه الإجابة مع المسئولين عن الندوة أو مع المدعوين إليها، جاءت هذه الإجابة تلقائية شديدة في الكلمة التي ألقاها المستشار عبدالهادي أبوطالب في حفل افتتاح الندوة باسم جمعية فاس سايس التي استضافت هذه الندوة في مدينة فاس حيث قال: " وإذ تنتظم هذه الدورة الرابعة في مؤسسة غير حكومية من الكويت، وجمعية غير حكومية من المغرب، فإن هذه دلالة أخرى تؤكد أن شعار الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، شعار يشق طريقه إلى التطبيق على الصعيد الشعبي الذي له من الثوابت ما لا تؤثر فيه المتغيرات الحائلة ".

يقولون إن من أجمل ما تتيحه مثل هذه الندوات ليس فقط الحوارات حول موائد البحث المستديرة، بل الأحاديث الجانبية حول موائد الشاي أو الطعام في قضايا خاصة أو عامة. ولقد كان الشعور القوي بالدور المتنامي الذى بدأت تقوم به مؤسسات ثقافية خاصة في بعض الأقطار العربية مثل مؤسسة سلطان العويس في دولة الإمارات العربية ومؤسسة جائزة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية وجائزة الشاعرة سعاد الصباح ، وجائزة الشاعر سعود عبدالعزيز البابطين في الكويت ، ومؤسسة شومان في المملكة الأردنية الهاشمية ، كان هذا الشعور يطرح في هذه الأحاديث الجانبية تساؤلات حول مغزى هذا التطور ومستقبله.

وقد لاحظ البعض أن كل هذه المؤسسات أو معظمهـا يركز على منح جوائز قيمة في مجالات أدبية أو علمية لتكريم من قاموا بدور بارز أو تشجيع أصحاب المواهب. ومع الاعتراف بالأهمية الكبيرة لهذه الجوائز إلا أن مجالات الخدمة الثقافية كثيرة ومتنوعة، فهناك مجال الترجمة التي هو شرط من شروط النهضة لملاحقة تطور العلوم والمعرفة في هذا العصر، وهناك مجال رعاية البحوث العلمية، والفنون التي قد لا تلقى رواجا جماهيريا، وتيسير السبل لوصول الخدمة الثقافية لمن يستحقها، فآي هذه المجالات يمكن أن تختار من بينها هذه المؤسسات؟ وأيها يمكن أن يترك للدولة؟ وهل يمكن أن تكون هناك جهـات ثقافية تقدم المشورة أو ما يشبه دراسة الجدوى لهـذه المؤسسات حول هذه المجالات أو المشروعات الثقافية ، أم أن الأفضل أن تبقى هذه المؤسسات الخاصة حرة - من خلال مجالس أمنائها - في اختيار الخدمة الثقافية التي تقدمها، والطريقة التي تقدما بها!؟.

لقد ظهر ميل واضح إلى أن تبقى مجالس إدارات هذه المؤسسات قائمة بعملها في حرية تامة.

قال المفكر أحمد عباس صالح : " ربما مع تطور هذه الظاهرة ، تظهر في المستقبل مثل هذه المكاتب التي تقدم الاستشارات الثقافية كما يحدث في عالم الاقتصاد"، وأضاف الروائي الكبير الطيب صالح : " ولماذا البحث عن المشورة هنا أو هناك... عندنا مئات المشاريع الثقافية المتميزة المدروسة والجاهزة ، في أدراج المؤسسات الحكومية ، لدينا مجلدات استراتيجية الثقافة العربية التي استغرقت مناقشات طويلة في الكويت في رعاية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، وتضم خلاصة حوارات الخبراء والمختصين العرب، وهي جاهزة تحتاج فقط إلى من يختار من بين مشروعاتها ويقوم بالتنفيذ".

وأوضح الأستاذ عبدالعزيز السريع الأمين العام لمؤسسة البابطين في لقائنا معه : " إن المسألة - على الأقل بالنسبة لهم - لم تعد مسألة جوائز فقط، ربما بدأت بالجوائز ولكنها تطورت في ضوء هدف المؤسسة وهو " إثراء حركة الشعر العربي ونقده ، وتشجيع التواصل بين الشعراء والمتهمين بالشعر العربي قديمه وحديثه وتوثيق الروابط بينتهم" تطورت في عدة اتجاهات، فمن ناحية تضاعفت قيمة جوائزها عدة مرات ، ومن ناحية أخرى تنوعت فروع الجائزة لتشمل إلى جوار تكريم الرواد في إبداع الشعر وفي نقده تشجيع الموهوبين بجائزة أفضل قصيدة وأفضل ديوان ، وإصدار معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين، ويضم تعريفا مناسبا بإنتاج كل شاعر وثلاثا من قصائده يختارها بنفسه ، وسيصدر في خمسة أو ستة مجلدات كبيرة ، كما سيضم المعجم أبحاثا عن حركة الشعر العربي وتطورها منذ القرن التاسع عشر حتى الآن في كل قطر عربي على حدة ، وفي الدورة الثالثة للجائزة قدر مجلس أمناء المؤسسة أن يطلق على كل دورة اسم أحد كبار الشعراء العرب على أن تقوم المؤسسة بطباعة دواوينه ومؤلفاته إضافة إلى إقامة ندوة فكرية تقدم فيهـا الأبحاث والدراسات التي تناقش شعره ومؤلفاته... ثم تطبع هذه الأبحاث والمناقشات التي تدور حولها في كتاب يضم إلى مجموعة الكتب التي تخص هذا الشاعر العلم ".

قبل أن انقل إلى الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين رجل الأعمال الكويتي ورئيس المؤسسة بعض ما دار في الأحاديث الجانبية سألته: أريدك أن تقول لي كيف بدأت عندك فكرة هذه المؤسسة وكيف تطورت؟.

- كانت البداية المبكرة جدا هي حبي للشاعر أبي القاسم الشابي ، شعره الجميل المتأجج كان هو المفجر لطاقة الشعر في وجداني، وحلمت دائما بأن أفعل شيئا لجمع شعره وطبعه طباعة فاخرة ليصل إلى الذين أراد الشابي أن يصل إليهم وظل هذا الحلم مجرد حلم إلى أن بدأ التفكير الجدي في المؤسسة في عام 1985 من خلال الرابطة الأدب الحديث في مصر، وحين علمت أن هذه الرابطة هي ما تبقى من جماعة أبولو التي قدمت شعر الشابي إلى المشرق العربي في مجلة "أبولو" الشهيرة أدركت أنني والشابي أخوان في الانتماء لأب واحد ثم كان أن ظهرت المؤسسة في عام 1989 وتطورت على النحو المعروف... وإذا كان هناك من شيء جديد أقوله لمجلة العاطفية، وعلى الرغم من أننا نعرف أن الشابي قد العربي التي نعتز بها فهو أننا في مجلس ولأمناء نفكر وندرس إصدار دورية شعرية جديدة يمكن أن تظهر كل ثلاثة أشهر لتقديم شعراء متميزين من كل العصور العربية ابتداء من العصر الجاهلي ثم عصر صدر الإسلام ثم الأموي والعباسي إلى وقتنا الحاضر. هدف الدورية هو أن تلقي الضوء على شعراء متميزين ، لم تعد أعمالهم في متناول يد القارئ ، نقدم أعمالهم ليراهم القارئ بعيون معاصرة ، من خلا ل دراسات النقاد المعاصرين لشعرهم.

صورة واحدة وزوايا متعددة

الصورة الواحدة هي للشاعر أبي القاسم الشابي، الذي تحمل الندوة اسمه، والزاوية الأولى التي تناولها بحث الدكتور محمد القاضي هي : " الروافد العربية لتجربة الشابي الإبداعية ".

أشار الدكتور القاضي في بحثه إلى أن الشابي مر في حياته الفنية القصيرة بثلاثة أطوار ما التأثر، الطور الأول يقع بين سنتي 1923 و 1926، وتعكس النصوص الشعرية التي كتبها الشابي في هذه المرحلة تأثره الواضح بشعراء الإحياء أو البعث سواء في تونس أم في المشرق العربي مثل البارودي ومطران وغيرهما.

أما الطور الثاني والمهم في حياة الشابي فيبدأ من العام 1927 ويرى الكثيرون من مؤرخي الشابي أنه بدأ تأثره في هذا الطور بمدرسة الديوان ( العقاد والمازني وشكري) ثم تأثر بعد ذلك بشعراء المهجر ولكن الدكتور محمد القاضي يختلف في بحثه مع هؤلاء المؤرخين ويبرهن على أن الشابي قد تأثر أولا بشعراء المهجر وخاصة بكتاب " الغربال" للشاعر ميخائيل نعيمه ، ويرى الدكتور القاضي أن هذا الكتاب كان من أهم المصادر التي أثرت في رؤى الشابي وأفكاره وتوجهات أشعاره ويدلل على ذلك بقوله : " إن الإعجاب الذي أبداه ميخائيل نعيمه بجبران إنسانا وأدبيا قد نبه الشابي إلى البحث عن مؤلفات جبران والنهل منها ، وسوف نلاحظ أن المختارات التي أوردها نعيمه من كلام جبران أخذت تتسرب إلى شعر الشابي ، فنعيمه ينقل عن جبران قوله " أنا غريب عن نفسي ، فإذا سمعت لساني متكلما تستغرب في قصيدة الشابي " اَلْكَآبَة المجهولة ".

ويؤكد الدكتور القاضي أن كتاب " الغربال " لميخائيل نعيمة هو الذي عرف الشابي بجماعة الديوان ، من خلال ما كتبه نعيمه عن العقاد في " الغربال " .

ونترك الدكتور القاضي يواصل اكتشافه للمصادر العربية لتجربة الشابي الإبداعية سواء في كتاب " الغربال " أم غيره ، سواء عند جماعة الديوان أم عند غيرهم ، سواء في شعر الشابي في أفكاره النثرية.

الروافد الأجنبية في تجربة الشابي الإبداعية

يقول الدكتور محمد عصفور الذي تناول بحثه تجربة الشابي الإبداعية : " في النقد الذي كتب عن الشابي تتردد كثيرا فكرة الرومانسية ، دون أن يكلف هؤلاء النقاد أنفسهم توضيح ما يقصدون بهذا المصطلح ، غير أن الرومانسية التي تستحق أن تستوقفنا في شعر الشابي ليست هي رومانسية التفجع والهروب والميوعة اختطفته يد المنون قبل أن يتم عامه الخامس والعشرين، أي قبل أن تكتمل عدته الفكرية والثقافية والعاطفية، إلا أن المدهش في الأمر هو أنه استطاع خلال السنوات القليلة التي عاشها أن يعبر عن أمور لا نتوقعها إلا من خلال الشعراء الناضجين . وسوف نجد أن الرومانسية الحقة تتجسد بأجل صورها في قصيدة " النبي المجهول" للشابي ، والقصيدة من الغنى بحيث تحتمل التحليل إلى أفكار أساسية تدور حولها أبياتها التسعة والخمسون، تبدأ القصيدة بالرغبة في لتعبير وتستخدم لذلك عدة صور من أهمها صورة الفأس، وكذلك صورة السيول . والعواصف والأعاصير ، وكلها أدوات تدمير يريد منها الشاعر / النبي أن يغير وضعا يرمز إليه بالجذوع الميتة والقبور وما يخنق الزهور، وهذه النزعة الثورية هي إحدى النزعات الأساسية في الرومانسية ، بعد ذلك يقرع الشابي شعبه بقوله : " إنه روح غبية تكره النور" ويوحي بأن هذه الطاقة الهائلة التي هي الشعب تحتاج إلى فكرة عبقرية تأتيه من خلال الشاعر/ النبي الذي يقدم عصارة نفسه راحا / وروحا، لكن هـذا الشعب يدوس الكأس ، ويتنكر لنبيه / الشاعر وبدلا من أن يكافئه بالاستجابة لرسالته ، يلبسه من الحزن ثوبا ، ويتوج رأسه بشوك الجبال ، وهي صورة مقتبسة كما هو واضح من التراث المسيحي . هذه الصورة التي لم يألفها الشعر العربي للنبي الشاعر، وتؤدي منطقيا إلى فكرة النبي الغريب عن وطنه الذي يهجر شعبه إلى الغاب ليتلو على الطيور أناشيده، وصورة الشاعر/ النبي الغريب هذه يطورها الشابي تطويرا بديعا حينما يصوره وقد رماه الناس بالجنون، وهي صورة تكاد بمجملها أن تكون إعادة لصورة النبي المشابهة في قصيدة "كيتس"، يقول الشابي في قصيدته:

هكذا قاد شاعر فيلـسوف

عاش في شعبه الغبي بتعس

جهل الناس روحه وأغانيها

فساموا شعوره سوم بخس

في مذهب الحياة نبـي

وهو في شعبه مصاب بمس

هكذا قال ثم سار إلـى الغاب

ليحيا حياة شعر وقدس

وهناك يتوحد الشاعر مع إيقاع الطبيعة على شاكلة الرومانسيين ، بشكل لا نعهده على الإطلاق في الشعر العربي السابق، ولا في التراث العربي الإسلامي بعامة "

الشعرية في شعر الشابي

بحث الدكتور محمد مفتاح عن الشعرية في شعر " أبي القاسم الشابي" من خلال منهج يركز على إبراز ثلاث خصائص رأى أنها تتحقق بامتياز في شعر الشابي. هذه الخصائص الثلاث هي ما سماه: 1 - ا التوازي 2 - ا لتماسك 3 - ا لتفاعل.

يقول الدكتور محمد مفتاح عن مفهوم التوازي: على الرغم من اختلاف التعريفات المعجمية، ومن أن المفهوم أصلا منقول من المجال الهندسي فثمة اتفاق على أنه عبارة عن تكرار بنيوي في بيت شعري أو أبيات شعرية، والتوازي عادة يفترض أن الطرفين أو الأطراف المتوازية متعادلة في الأهمية، كما أن التوازي يقوم أحيانا على الترادف بين جزأين في تعابير مختلفة أو على التضاد بين الجزأين أو على التوليف بحيث يحدد الجزء الثاني الجزء الأول، ويوضح الدكتور محمد مفتاح أنه سينطلق في رصده لخاصية التوازي في شعر الشابي من سطح البنية الشعرية إلى عمقهـا كما أنه في هذا الرصد يقسم التوازي من حيث طبيعته إلى تواز تام أو تواز شبيه أو تواز نظير.. وغير ذلك.

وفي إطار هذا العرض لن نستطيع أن نساير الدكتور محمد مفتاح في تقسيماته الطولية الأخرى للتوازي التام إلى مقطعي وعمودي ومزدوج، وبخاصة أنه لن تكون هناك أية فرصة لعرض أمثلة لهذه التقسيمات، ولكننا هنا سوف نكتفي بإشارة سريعة إلى الخصيصة الثانية وهي " التماسك" التي يعرفها الدكتور مفتاح بقوله : " وحدة من اللغة الطبيعية مكونة من سلسلة من جمل مترابطة تعبر عن معلومة وجيهة حول موضوعة مشركة ". ونترك الدكتور محمد مفتاح هنا يواصل هوايته في تقسيم مفهوم التماسك وتقديم الأمثلة التي لا يتسع لها المجال هنا لنصل معه أيضا في التفاعل" فيقول:

" زعمنا أن الشابي كان متأثرا بالمذهب الرومانسي ومع الاعتراف بوجود رومانسيات عدة فإن هذه الرومانسيات تجمع بينها الثورة ضد الدكتاتورية السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية.

وقد انعكس تفاعل الشابي مع المذهب الرومانسي لا مستويين: المستوى النقدي، والمستوى الإبداعي.

ففي المستوى النقدي نجد بصمات المذهب الرومانسي واضحة فيما كتبه الشابي " عن الخيال الشعري عند العرب " من حيث تقسيم الخيال إلى خيال عادي وخيال خلاق، وارتباط الخيال الخلاق بالصورة وبالسحر واقتصار الخيال العادي على إعادة الإنتاج ومن حيث إداركه لمغزى دفاع الرومانسيين عن الخيال لأنه دفاع عن الحرية ضد استعباد العقل المطلق والسلطة الطاغية ومن يقوم بهذه الوظائف والشاعر النبي ذو الرؤية الصادقة ، وقد انعكست هذه المبادئ الكبرى في شعر الشابي فهو نبي لكنه نبي مجهول، لهذا جعل من شعره وسيلة للتعبير عن رؤاه ومواقفه وعن آمال شعبه ".

ظواهر متميزة في المضمون الشعري

كان هذا هو العنوان الذي دار في إطاره بحث الدكتور عبدالسلام المسدى وقد استخدم الباحث عدة معايير في رصد وتحديد ما يرى أنها الظواهر المتميزة في المضمون الشعري عند الشابي.

أول هذه المعايير اكتشاف درجة الانسجام والتوافق بين رؤية الشابي فيما قاله عن الشعر في محاضرته عن "الخيال الشعري عند العرب لا وفيما صاغه شعرا في ديوانه " أغاني الحياة " .

يقول الباحث: " واللطيف الدقيق في تناسج النصين النص الموضوع (الشعر) والنص الناقد (محاضرة الخيال الشعري) أن أبا القاسم الشابي يجعل علاقة الشعر بالإنسان على مقاس علاقة الخيال به "، ثم يقول مؤكدا فكرة التناظر بين النصين مرة أخرى : "يكفي أن نعرف أن موضوع الشعر قد تخلل كل أنسجة ديوان "أغاني الحياة "، فقصيدة "شعري" تأتي كالبيان المتكامل حول ماهية الشعر ووظائفه :

الشعر إن لم يكن في جماله ذا جلال
فإنما هو طيف يسعى بوادي الظلال
يقضي الحياة طريدا في ذلة واعتزال

وتأتي قصيدة "ياشعر" بأبياتها الثمانية والتسعين لوحة من لوحات المناجاة الإبداعية يتجلى فيها الشعر منادى ومناديا، واصفا ومحاكيا.

لقد تناول الشابي في محاضرته عن الخيال الشعري عند العرب موضوع الأسطورة، فقارن ما عليه أمر العرب في هذا الشأن بما هو عليه عند الأمم الأخرى، وكيف أن أهل اليونان قد أخذوا عن الآشوريون عبادة عشتروت آلهة الحب والجمال، وسموها "أفروديت "، ونسجوا حول نشأتها أساطير شعرية لم يعرفها الآشوريون، ولا يتخلف الشابي عن الوفاء بالدعوة التي يدعو إليها في محاضرته بل سيكون في الموعد يوم ألف قصيدته "الجمال المنشود"، مهديا إياها إلى عذارى أفروديت".

المعيار الثاني الذي اعتمده الباحث لقياس تميز المضمون الشعري عند الشابي هو مـا حفل به ديوان " أغاني الحياة " من ثنائيات التداعي في إطار الصورة التخيلية المثمرة ، من ذلك علاقة الشابي بمعنى الموت ، وكيف تأتي منشطرة كأنما يقابل وجهها الأول وجهـا ثانيا يعاكس ملامح المثل بسمات الضد ففي قصيدة " ياموت " التي قالها حين رزأه القدر بوفاة والده ينادي الشاعر الموت مستحثا متعجلا :

يا موت قد مزقت صدري

وقصصت بالأرزاء ظهري

وفجعتني فيمن أحـب

ومن إليه أبث سري

وأجوب صحراء الحياة

أقول أين تراه قبري

ولا تمر الأيام حتى تأتى مقطوعة الاعتراف لتطرح الوجه المضاد ، وهي الحقيقة الباقية، الناسخة للأحاسيس العارضة فتتوحد الأجزاء المنشطرة.

وتتكامل مقاومتها:

ما كنت احسب بعد موتك يا أبى

ومشاعري عمياء بالأحزان

إني سأظمأ للحياة وأحتسي

من نهرها المتوهج النشوان

وأعود للدنيا بقلب خافق

للحب والأفراح والألحان

المعيار الثالث الذى يقيس به الباحث تميز المضحون الشعري عند الشاب هو استخدامه للصورة ، التي هي من صميم الفن والإبداع ، التي تقيم جسرا بين فن القول وفن الحركة ، فإذا بالمقطوعة ترد، وعنوانها " الرواية الغريبة "، وإذا بالمضمون الشعر يتميز في دقة الوصف، واختزال التحليل عن طريق شحن الصورة الكبرى بالصورة التخييلية، فالحياة رواية والأيام ملهـاة وصانعها ساحر، والمسرح فن، والإنسان ممثل، وأيامه فصول ، والدور كوميدي، وفي كبر الصورة ينبت النفس الدرامي ، والاستلهام التراجيدي .

مذكرات.. أم ذكريات؟

في بحث الدكتور سعيد السريحي عن الشابي ناثر توقف أمام نصين نثريين تركهما الشابي ، نص أسماه " المذكرات " ومحاضرة أسماها " الخيال الشعري عند العرب " وعن نص المذكرات يقول الدكتور سعيد السريحي : إن الشاعر أراد بها أن تكون بديلا عن الشعر الذي بدأ يمتنع أحيانا عن الشاعر ومن هنا يجيء اعتراض الباحث على تسميتها بـ "المذكرات" لأن المذكرات في جوهرها تكون احتفاء بالحاضر، باليومي والبسيط والمعيش ، ومن هنا ولدت هذه المذكرات وهي تحمل مأزقها ، فهذا اليومي لا يمكن بطبيعته أن يكون بديلا للشعر ، الجدير بأن يكون بديلا للشعر هو الذكريات وليست المذكرات ، فالذكريات اختيار للحظات مضيئة أو حية من الماضي ، ومن هنا فإن الشابي حين أراد أن يكتب مذكراته كتب دون أن يدري ذكرياته ، وحين أراد أن يلتزم بعنوان المذكرات " وجد نفسه يقول : "ليست هناك ما يستحق الذكر، فما يجرى كل يوم هي حوادث سخيفة عادية لا تثير الوجدان" .

ثم يتحدث الباحث عن محاضرة " الخيال الشعري عند العرب " التي ألقاها الشاعر عام 1939 فيقول : " الذهن ، العربي في مختلف عصوره كان على وتيرة واحدة ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب "، " الأدب العربي أدب مادي لا سمو فيه ولا إلهام ولا نظر إلى صميم الأشياء ولباب الحقائق " .

" نظرة الأدب العربي إلى المرأة تتوقف عند كونها مجرد حسد يشتهى" " الروح العربية خطابية مشتعله لا تعرف الأناة في الفكر فضلا عن الاستغراق فيه ".

" هل كان للقصص العربي نصيب من الخيال الشعري ؟ " يجيب الشاعر عن تساؤله بـ " لا " ثم يستطرد مفسرا " فالروح العربية في بداوتها تعيش في أرض جرداء محرومة من الجمال الذى يستفز المشاعر" " يتلو الشاعر على الحضور كلمتين لشاعرين من شعراء الغرب هما : " لامرتين " و " جيته " ثم يتساءل هل تجدون أيها السادة واحدا من بين شعراء العربية يستطيع أن يتحدث إليكم عن هذه الأشياء القوية الغامضة ؟ " ثم يقول : " الصوت الغربي هو لحنان مزدوجان في آن ، لحن متصل بأقصى قرار في النفس ، ولحن متصل بجوهر الشيء وصميمه ، أما الصوت العربي فليس مصدره النفس ولا جوهر الشيء ، ولكن مصدره الشكل واللون والوضع ، وشتان بين القشرة واللباب " .

يقول الدكتور سعيد السريحي : " إن طرح الشاعر أبي القاسم الشابي لقضية " الخيال الشعري عند العرب " على هذا النحو هو طرح غير عادل لأن تناول هذا الموضوع مفصولا عن جميع ملابساته ، وذائقة عصره ، وشروط إنجازه ينتهي بالضرورة إلى مصادرته جملة وتفصيلا ، ومن هنا جاء حديث الشابي عن الروح العربية وكانه حديث عن الآخر الذي لا ينتمي إليه ، ولهذا لم يجد غضاضة في أن يدين هذه العقلية العربية ، في الوقت الذي ينتمي هو في حقيقة الأمر إليها ، بل ومن شأن رؤيته هو نفسه ، وتجربته أن تحسب في إطار مكونات هذه الروح وهذه العقلية " .

وحول أثر الشابي في مسيرة الحركة الشعرية في المشرق العربي دار بحث الدكتور محمد حسن عبدالله وفي بداية البحث رصد الصعوبات التي تواجه من يتصدى لمثل هذه القضية ، وانتهي من هذا الرصد إلى تقسيم الأثر الذي تركه الشابي إلى قسمين : الأثر العام ، والأثر الخاص ، وبالنسبة للأثر العام تحدث مجددا عن صعوبة أن يشارك إلى هذا الأثر منفردا أو معزولا عن الاتجاه الرومانسي الذي فجرته جماعة الديوان ثم جماعة أبولو، فقد كان الشابي واحدا منهم ، وإن تميز بخصائص معينة لا نستطيع أن نجزم بأنها هي التي أثرت ، ثم يقول الباحث : من هنا فإنه من الأنسب منهجيا أن تعود إلى ديوان الشابي لاستقراء ملامحه الفنية ، وفي هذا الإطار لخص الباحث هذه الملامح النفسية كما يلي :

" أن الشابي أول من توسع في الحديث عن معنى الشعر وقيمته ، وعن مكانة الشاعر ودوره في الحياة، وهو أكثر من استخدم كلمة " الغاب " وارتقى بها إلى مستوى الرمز ، وهو السابق إلى نوع من الاستخدام المجازي يضاف فيه الحسي إلى العقلي أو المجرد مثل : " رحيق الألم ، وشفاه السراب ، وعرائس الأمل، وموسيقى الوجود" وأيضا يسبق الشابي إلى الحلول في الطبيعة ، وليس مجرد المزواجة بين أحاسيس الشاعر ومظاهر الطبيعة ، كما كان الشابي أول من اتخذ الحب طريقا إلى الخلاص، أكثر من طرح أسئلة في شعره، وله نمطه في رسم الصورة الشعرية إذ ينيمها في اتجاه المشبه به أو المستعار منه ، وهذا المنحى هو الأقوى في تأكيد وظيفة المجاز" ثم يستطرد الباحث إلى تتبع الأثر الخاص حيث يتوقف عند قصائد بعينيها لشعراء بعينهم ويوازن بينها وبين قصائد للشابي ، وفي هذا الإطار يؤكد الباحث أن موازناته لم تتجه أبدا إلى المضمون ، فقد رفض - الباحث - اعتبار أن كل حيرة أمام المصير الغامض أو أن فكرة الفرح بالطبيعة أو الحلول فيها هي بالضرورة راجعة عند هؤلاء الشعراء إلى تأثر بالشابي فالحق أن هـذه النزعات تنوعت مصادرها بتنوع المصادر الثقافية أمام الأجيال التالية للشابي، هذا ركز الباحث في موازناته على تشابه الصياغة أو توحد الدوافع.

الشابي الرومانسي

وحول أثر الشابي في مسيرة الحركة الشعرية في المغرب العربي دار بحث الدكتور أحمد الطريسي أعراب الذي يقول في بداياته: إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف كانت حياة الفكر والأدب في عصر الشابي ؟. ثم يجيب قائلا: كان هـناك التيار التقليدي ، وكان هـناك تيار التجديد المتمثل في التيار الرومانسي كما عبر عنه جبران خليل جبران على رأس حركة المهجريين وكما عبرت عنه مدرسة الديوان بزعامة العقاد ثم مجلة أبولو.

في هذا الوسط نشأ الشابي، والدراسات التي تناولت الشابي ربطت تصوره حول الفن والأدب والشعر بالمدرسة الرومانسية كما هو معروف ، ولكن السؤال الجديد الذي يطرحه الباحث هنا هو : هل كان الشابي رومانسيا بقراءته ومطالعاته أم بطبعه وسلوكه وشخصيته ؟ ثم يجيب: إنني أميل في الواقع إلى أن الشابي كان مهـيأ بطبيعة شخصيته إلى أن يكون رومانسيا لما يمتاز به من قوة في الإحساس وحدة في العاطفة، ومن الثورة والتمرد على كل ما هو مألوف ومتداول، وأن الشابي هو كما عبر عنه باحث آخر هو محمد صالح الجابري، "عاش الرومانسية كتجربة وجودية وكمذهب أدبي معا "، وفي الواقع فإن هذه النقطة التي يؤكدها الباحث هـنا ، في ما نسعى إلى إبرازه لأنها هي ما يعتمد عليه في تقصي الآثار التي تركهـا الشابي في شعراء المغرب العربي ، بل وشعراء المشرق العربي كذلك ، فهـذه الآثار لا تجيء فقط من المذهـب الرومانسي، ذلك أن هذا المذهب شهد درجات من الانحسار في الخمسينيات والستينيات، ولكن هذه الآثار جاءت من تأثير خصوصية شعر الشابي ذاته التي بقيت لتؤثر في أجيال الشعر الواقعي من ناحية، وشعر الحداثة من ناحية أخرى، ويرى الباحث أن هذه الخصوصية جاءت من أن الشابي كان ثورة عارمة على حياة استساغت أسلوب الاحتذاء والتقليد، وتمرد على تصور متخلف يشكل عائقا في فهم أسرار الحياة، ثم إنه طاقة جبارة تختزن كثيرا من المفاجآت في مجال الإبداع الإنساني، فإذا كان التيار الرومانسي قد انحسر فالشابي باعتباره مبدعا كبيرا أصبح فوق التيارات والمذاهب، في ظل هذه الرؤية استمر أثر الشابي في عروق الشعر التونسي إلى الآن مثلما استمر في البلدان العربية الأخرى.

وفي محاولة الباحث لتقصي آثار وملامح هذا التأثير للشابي في شعراء المغرب يقول: إن الموضوعات التي كان يرتادها الشعراء المغاربة في المرحلة التاريخية التالية لمرحلة الشابي من بداية الثلاثينيات إلى أواخر الخمسينيات تتعلق بالمرأة والطبيعة والحب والحياة والحرية والنفس ، أي نفس الموضوعات التي تناولها الشابي ولكننا سنلاحظ أن الطريقة التي يتم بها هذا التناول هي التي تدل على تأثير الشابي الكبير في هؤلاء الشعراء ، ونشير على سبيل المثال إلى قصائد ابن ثابت " طيف " و " ذكرتكك" ، "رسالة " ثم إلى قصيدة عبدالمجيد بن جلون "اللقاء" وقصيدة الشاعر عبدالسلام العلوي "ذكرى"، وقصيدة عبدالقادر حسن "دعيني أنام ".. يقول الباحث " إن المرأة من خلال هذه القصائد تارة هي الحياة بأسرها وغموضها وتارة أخرى هي الخصب الذي يحمل الحياة إلى ما لا نهاية وتارة ثالثة هي رمز العذاب الذي لا يعرف معه الإنسان سبيلا إلى الراحة، ثم إنها توجد في كل مكان وهي قابلة للاختفاء أو الظهور في كل وقت..." .

ثم يقول : "ويمكن أن نتابع أثر الشاب في تناول. هؤلاء الشعراء في قصائد الطبيعة والنفس والحرية...

" لم ينته اللقاء على موائد الحوار، فذكرى الشاعر أبي القاسم الشابي قد أثارت أكثر من قضية مباشرة أو غير مباشرة . ولكن يبدو المغزى النهائي لهذا اللقاء أن الثقافة يمكن أن تكون بابا للتفاهم العربي بعد أن فشل العرب في التفاهم حول كل شيء تقريبا.

 

أبوالمعاطي أبوالنجا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات